تجربة إمام واجه الحيرة والقلق في مرحلة المراهقة والشباب بسلاح المعرفة، ذلكم هو الإمام أبوحامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هجريًّا، يقول عن نفسه: "ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل سن العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق -بحر المعرفة، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محب ومبطل، ومتسنن ومبتدع.

فلا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد بالاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صفواته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا معطلًا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله، وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انجلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة، على قرب عهد سن الصبا".

هذه كلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب، وهي صالحة لتنبيه الغافلين، وإزالة الغرور عن عقول المغترين، والمجازفين، ونحن لا نريد من الشباب أن يثوروا على أنفسهم أو يتمردوا على ذواتهم، كل ما نريده منهم قبل أن يلقوا أنفسهم في أيَّة مهلكة أن يتعلموا، وأن يعرفوا، وأن يدركوا، وأن يتبصروا، وأن يتفكروا، وأن يتدبروا.

لعلهم يتجنَّبون المهالك، ويبتعدون عن شباك الصيادين، فبالمعرفة يخرجون من شباك أصحاب مصائد المغفلين، والمغترين، والضحايا، نسأل الله (جل شأنه) أن يلهم شبابنا الصواب، ويرشِّد مسيرتهم، فالشباب فرصة إذا ضاعت فلن تعد، ولن تعوضها أيَّة مرحلة عمريَّة لاحقة، وإذا حاولت فسيقال لها: "الصيف ضيعت اللبن".