جيوبوليتيكال فيوتشرز: رؤية السيسي الاقتصادية في مصر تثبت فشلها

الاثنين 6 يناير 2020 09:29 م

منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية المصرية عام 1952، كانت مصر تتمتع بتقليد طويل من الحكم من قبل ضباط الجيش.

وكان أول ثلاثة رؤساء للجمهورية، في الفترة من 1954 حتى 1981 (محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات) أعضاء في حركة الضباط الأحرار، التي نفذت انقلاب 1952.

وبعد اغتيال "السادات" عام 1981، تولى قائد القوات الجوية نائب الرئيس، "حسني مبارك"، مهام المنصب، ومع ذلك، في عام 2012، أنهى انتخاب "محمد مرسي"، وهو مدني له صلات بجماعة "الإخوان المسلمين"، عقودا من الزعامة العسكرية.

ونظر الجيش المصري إلى "مرسي" بازدراء، ومن وجهة نظره، كان وجود رئيس مدني، خاصة رئيس من جماعة "الإخوان المسلمون"، أمرا غير مقبول.

وهكذا، بعد مرور عام على انتخاب "مرسي"، تمت الإطاحة به في انقلاب شارك فيه رئيس الأركان العامة الرئيس الحالي "عبدالفتاح السيسي"، واستعاد الجيش دوره البارز في الشؤون السياسية للبلاد.

ومنذ ذلك الحين، سمح "السيسي" للجيش بالاضطلاع بدور أكبر في الاقتصاد المصري، وشرع في مشروعين ضخمين، ووعد بأنه من شأن ذلك أن ينعش الوضع المالي الراكد في البلاد. ومع ذلك، فقد سقط الاقتصاد المصري في دوامة مستمرة من الأزمات.

ميراث الشك والخيانة

وحاول "السيسي" أن يتجنب أخطاء أسلافه، وفي عام 1953، ألغى الجنرال "محمد نجيب" الملكية، وأعلن مصر جمهورية، وكان يعتقد أن مهمة الجيش قد انتهت بإسقاط الملك "فاروق"، وأراد تسليم السلطة السياسية للمدنيين.

لكن تفضيل "نجيب" لحكومة مدنية لم يناسب "عبدالناصر"، الذي أطاح به عام 1954، ووضعه قيد الإقامة الجبرية، وحاول "ناصر" أيضا إقالة رئيس الأركان العامة، المشير "عبدالحكيم عامر"، الذي ألقى باللوم عليه في انقلاب عام 1961 في دمشق، الذي أدى إلى حل الجمهورية العربية المتحدة، وهي دولة موحدة تألفت من مصر وسوريا.

واتهم "ناصر" "عامر" بإهمال وسوء معاملة ضباط الجيش السوري، وهدد "عامر"، الذي كان يتمتع بدعم كامل من الجيش المصري، بشن انقلاب وإسقاط "ناصر"، وتوصل الرجلان إلى حل وسط لا يسعى "عامر" فيه إلى طرد "ناصر" من منصبه، شريطة أن يكون خارج الشؤون العسكرية.

واستمر هذا الترتيب حتى حرب الأيام الستة (النكسة) عام 1967، عندما قرر "ناصر" أخيرا التخلص من "عامر" بعد الهزيمة العسكرية المهينة، وعندما حاول "عامر" شن انقلاب عليه، قام "ناصر" باعتقاله والقضاء عليه بجرعة مميتة من "السيانيد".

ولم يكن لدى "السادات"، الذي تولى الحكم بعد وفاة "ناصر" عام 1970، أي تسامح لتقاسم السلطة مع المنافسين السياسيين أو العسكريين، وفي مايو/أيار 1971، أطلق ما أسماه بـ"ثورة التصحيح"، وأطاح بجميع المنافسين.

وبعد حرب عام 1973 مع (إسرائيل)، رفض وزير الدفاع اللواء "أحمد بدوي"، الذي كان المصريون معجبون به كبطل حرب ورجل ذي نوايا حسنة، قرار "السادات" بالتحول إلى الولايات المتحدة بما يؤثر على العلاقات السياسية والعسكرية بين مصر والاتحاد السوفييتي.

ويزعم العديد من المصريين أن "السادات" نظم مقتل "بدوي" في حادث تحطم طائرة هليكوبتر أسفر عن مقتل 13 من كبار الضباط في مارس/آذار 1981.

وعقب اغتيال "السادات" في أكتوبر/تشرين الأول 1981، شرع خليفته "حسني مبارك"، على الفور، بالإطاحة بـ18 من كبار الضباط لأنه كان لديه شكوك حول ولائهم له.

التحولات داخل الجيش

في عام 1954، قدم "ناصر" إصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، وبعد تبني الإصلاحات الاشتراكية عام 1962، قام بتعيين ضباط الجيش مديرين للبنوك والمصانع، ويرجع ذلك جزئيا إلى اعتقاده بأنهم يهتمون برفاهية الموظفين المصريين، ولكن أيضا لثنيهم عن السعي للحصول على السلطة السياسية.

لكن "ناصر" لم يحوِّل الجيش إلى لاعب سياسي أو اقتصادي، وتحت قيادة "عامر"، احتفظ الجيش باستقلاليته ومخصصاته المالية السخية.

وحدث تحول الجيش نحو التركيز على المسائل الاقتصادية بعد فترة وجيزة من تولي "مبارك" الحكم، واستكمال (إسرائيل) انسحابها من سيناء بعد اتفاقيات "كامب ديفيد".

وكان "مبارك" يشعر بالقلق من أن القوات المسلحة المصرية قد تعيد تركيز انتباهها من الحرب إلى السياسة الداخلية بعد انسحاب مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وقد فهم تداعيات أن يعتبر الجيش نفسه وصيا على المجتمع وأداة التغيير الاجتماعي.

وبنى "مبارك" على ما بدأه "السادات" عام 1975، فيما يعرف بسياسة الانفتاح، وتبنى "النيوليبرالية" أو "الليبرالية الجديدة"، واعتمد تنفيذ التوجه الاقتصادي الجديد على تحالف بين مجموعة صغيرة من رجال الأعمال المقربين من "مبارك" وكبار القادة العسكريين.

وتطلب إعداد القوات المسلحة المصرية لتولي دور اقتصادي إضافة خطوط الإنتاج المدنية إلى الصناعات العسكرية القائمة، وكانت استراتيجية وزارة الإنتاج الحربي، التي أسسها "ناصر" عام 1954، تحتاج إلى مراجعة.

وخلال الحرب الباردة، لم ينجح "ناصر" في تأمين الأسلحة من الغرب، لأنه رفض الانضمام إلى حلف بغداد المعادي للسوفييت، ولتحقيق قدر ضئيل من الاكتفاء الذاتي في المشتريات العسكرية، أطلق برنامجا متواضعا لصناعة الأسلحة.

وقد خلق توقيع معاهدة السلام مع (إسرائيل)، وتبني الاقتصاد النيوليبرالي، فرصا جديدة للقوات المسلحة المصرية، ولم تعد المصانع العسكرية تكتفي بتصنيع الأسلحة الخفيفة، مثل قاذفات القنابل اليدوية والبنادق والمدافع الرشاشة، فقد توسعت خطوط الإنتاج لتشمل المواد الاستهلاكية.

على سبيل المثال، بدأت شركة المعادي للصناعات الهندسية، التي لها روابط بوزارة الإنتاج الحربي، في تصنيع مجموعة واسعة من السلع المدنية، مثل أجهزة الطهي والكهرباء والمعدات الزراعية والأدوات الطبية.

واستفاد "مبارك" من الاحترام الاجتماعي العالي للجيش، ورتّب لإقامة مشاريع مشتركة مربحة معه، ونما دور الجيش في الاقتصاد في نفس الوقت الذي تحولت فيه مهمة القوات المسلحة المصرية من الاستعداد للحرب ضد (إسرائيل) إلى مكافحة الإرهاب والعمليات الخاصة.

ومع ذلك، فشل تحالف مبارك الاقتصادي مع الجيش في حماية نظامه من الانتفاضة الشعبية الضخمة عام 2011، التي أدت إلى خلعه من منصبه.

"السيسي" يحول الجيش إلى محرك للاقتصاد

وعندما تولى "السيسي" الرئاسة في عام 2014، اختار تعزيز علاقاته مع المؤسسة العسكرية، وقطع العلاقات تدريجيا مع النخبة التجارية، ولقد توصل المصريون إلى الاعتقاد بأن حكومة "مبارك" وشركاءها في عالم الأعمال قد سرقوا البلد.

وانتهز "السيسي" هذا كفرصة لإعطاء كبار الضباط العسكريين دورا أكبر في الشؤون الاقتصادية للبلاد، ولقد أوضح أن القوات المسلحة جديرة بالثقة وتلتزم بالصالح العام أكثر من رجال الأعمال المدنيين الجشعين.

وتلعب العمليات التجارية للجيش دورا في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إتاحة السلع الغذائية الأساسية الاستراتيجية، مثل اللحوم والدواجن وزيت الطهي والحليب الصناعي، للجمهور بأسعار معقولة، ولكن ليس لأسباب نبيلة.

ويصر "السيسي" على أن المشروعات التجارية العسكرية لا تتجاوز 3% من إجمالي الناتج القومي لمصر، لكنها في الواقع تمثل أكثر من 50%.

ومنذ الإطاحة بـ"مرسي" عام 2013، ازدهرت شركات القطاع العسكري، ودفع "السيسي" إلى إدراج مؤسسات الجيش في البورصة، في إشارة إلى دورها المتزايد في الاقتصاد المصري، وسيكون لهذه الخطوة تداعيات مهمة، حيث تؤسس لصلة قوية بين مصالح الجيش ومصالح الشعب، وربما تمنع انتفاضة أخرى.

ويمتلك الجيش الآن 600 فندق ومنتجع، ومحطات خلط الأسفلت والخرسانة الرئيسية، ومرافق الأسمدة العضوية، كما يقوم ببناء الطرق والطرق السريعة والجسور ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي وحمامات السباحة وأنظمة الري.

وتغطي مجموعة السلع المدنية التي ينتجها الجيش كل جزء من الحياة اليومية تقريبا، بدءا من الطعام وحتى الأدوية والملابس، ومن المرجح أن تشارك جميع المصانع الـ16 المملوكة لوزارة الإنتاج الحربي الآن في تصنيع السلع المدنية، ولا يشمل هذا العدد العديد من الشركات الخاصة التي يديرها الجيش.

ولا تقوم شركات الجيش بالإفصاح عن المعلومات المالية للوكالات الحكومية، لذا فإن أموالها محاطة بالسرية، وتتمتع جميع المؤسسات العسكرية بالإعفاء من رسوم الاستيراد وضرائب الدخل، ولا تخضع المصانع التي يتم بناؤها على أرض حرة مملوكة من قبل الجيش للضريبة.

ويشعر المستثمرون في الداخل والخارج على حد سواء بالإحباط من الاستثمار في الاقتصاد المصري، فغالبا ما يتم منح شركات الجيش عقودا بالأمر المباشر لمشاريع البنية التحتية الحكومية، ما يسمح للجيش بزيادة حصته في الاقتصاد المصري بثبات.

وقد وسّعت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة، وهي وكالة تابعة لوزارة الدفاع، مشاريعها غير العسكرية، لتشمل إعادة التأهيل النفسي وتوريد الموظفين المدنيين.

وبالإضافة إلى توسيع الدور الاقتصادي للجيش، شرع "السيسي" في اثنين من المشاريع الضخمة المثيرة للجدل، وبعد شهرين من رئاسته، أمر بحفر قناة موازية لقناة السويس، والتي ادعى أنها ستضاعف إيرادات القناة البالغة 5.5 مليار دولار.

ووصف المسؤولون الحكوميون هذه التوسعة، التي نفذها 7 مقاولين أجانب، بأنها هدية مصر للعالم، وبعد مرور عام على الانتهاء من المشروع المثير للجدل، الذي تكلف أكثر من 8 مليارات دولار، واستنفد احتياطيات مصر من العملة الأجنبية، انخفضت الإيرادات من القناتين المتوازيتين إلى 5 مليارات دولار.

وفي عام 2016، بدأت الإيرادات في الارتفاع بشكل متواضع، ليس بسبب زيادة عدد الزيارات، ولكن بسبب رفع رسوم المرور، وبعد رؤية العائدات الاقتصادية المخيبة للآمال، غير "السيسي" هدف المشروع من تنشيط الاقتصاد الراكد إلى منح الشعب المصري دفعة معنوية.

وكان المشروع الثاني المثير للجدل "العاصمة الإدارية الجديدة" بالقرب من القاهرة، على حافة دلتا النيل، ويمتلك الجيش 51% من أسهم الشركة التي تقوم حاليا بتطوير العاصمة الجديدة بتكلفة تقدر بـ45 مليار دولار.

وفي يناير/كانون الثاني 2019، افتتح "السيسي" في العاصمة الإدارية الجديدة أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط ومسجدا كبيرا، يأتي في المرتبة الثانية في الحجم بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة.

وتم منح شركة "موانئ دبي العالمية" امتيازا لتشغيل ميناء العين السخنة بالقرب من الطرف الجنوبي لقناة السويس، ما أغضب المصريين الذين يعرفون أن الإمارات العربية المتحدة لن تقوم مطلقا بتطوير الميناء إلى الحد الذي يمكنه فيه منافسة ميناء "جبل علي" في دبي.

وقد عرض "السيسي" التنمية الاقتصادية لمنطقة قناة السويس للخطر في مقابل تلقي المساعدات المالية الإماراتية، والاعتراف بشرعيته السياسية.

ولتلك الأسباب نفسها، تخلى "السيسي" عن "جزيرتي تيران وصنافير" للسعودية، وتعتبر الجزيرتان من أيقونات القومية المصرية، كون مصر خاضت حربين مع (إسرائيل)، في عامي 1956 و1967، لأجل الجزيرتين.

وتعدّ طموحات "السيسي" شخصية للغاية، فليس لديه رؤية اقتصادية تشجع الاستثمارات، وهو مهتم بتمجيد نفسه وصورته الشخصية أكثر من البدء في تنمية اقتصادية حقيقية.

ويسير "السيسي" على خطى "ناصر"، لكنه يفتقر إلى الكاريزما، ويتذكر المصريون "ناصر" بأحداث مثل تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، ومن ناحية أخرى، بنى "السيسي" مشروعين غير ضروريين، وفشل في الدفاع عن المصالح الحيوية لمصر في مياه نهر النيل.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

عبدالفتاح السيسي الاقتصاد المصري تدهور الاقتصاد المصري شركات الجيش المصري

تعبئة الشارع المصري.. السيسي يبحث عن تفويض شعبي جديد

الدولة البريتورية.. ما الذي خسره الجيش بهيمنته على السلطة في مصر؟

دوامة الديون.. أجندة السيسي الاقتصادية تدفع مصر نحو الهاوية