جيوبوليتكال فيوتشرز: ما الذي ينتظر إيران؟

الثلاثاء 28 يناير 2020 04:23 م

لعب رجال الدين الشيعة دائما دورا نشطا وضروريا في الشؤون العامة الإيرانية. كما وسعوا شرعيتهم السياسية خلال معظم القرن التاسع عشر، ويشارك رجال الدين الشيعة أكثر من نظرائهم السنة في حياة مجتمعاتهم الدينية؛ حيث يحتاج المسلمون الشيعة، بعد عقيدتهم الدينية، إلى توجيه مستمر من كبار رجال الدين. ومع قرب نهاية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، صعد حكم آيات الله إلى مركز الصدارة في السياسة الفارسية بناءً على دعم الوطنيين ورجال الدين.

  • رجال الدين الشيعة والسياسة بإيران

في عام 1890، أصدر "الشاه" امتيازا منح شركة بريطانية الحق في احتكار صناعة التبغ في البلاد. واستجابة لمظالم عامة واسعة النطاق ضد الشروط المهينة للتنازل، أصدر "آية الله ميرزا شيرازي" مرسوما دينيا ملزما يحظر بيع واستهلاك منتجات التبغ. وأفرغ قرار "شيرازي" الامتياز من معناه، وأرغم "الشاه" على إلغائه.

في عام 1901، أذن "مظفر الدين شاه" بامتياز يمنح حقوقا حصرية لشركة بريطانية للتنقيب عن النفط في إيران. وبالرغم أن شركة "ويليام دارسي" استخرجت النفط بكميات تجارية في عام 1908، إلا أن الشعب الإيراني، بقيادة رجال الدين والتجار، لم يوافق على الصفقة لأنها تجاهلت المصالح الوطنية للبلاد.

كان البيروقراطيون لدى الشاه والفاسدون مهتمين فقط بالنقد والمكاسب الشخصية. مهدت تنازلات التبغ والنفط الطريق لحركة وطنية تطالب بإنشاء جمعية وطنية وإنشاء شكل دستوري من الملكية. فشلت هذه الخطوة، المعروفة باسم الحركة الدستورية الفارسية 1905-1911؛ بسبب التدخل العسكري الروسي وسحب الدعم البريطاني لها.

في عام 1921، قام لواء "القوزاق" الفارسي بقيادة "رضا خان" بانقلاب عسكري بدعم بريطاني لهزيمة القوات المدعومة من البلشفيين الذين أرادوا الاستيلاء على طهران. وفي عام 1925 تولى الحكم "رضا شاه بهلوي". لقد رأى نفسه مُحدثًا، وتأثر بالمقاربة العلمانية لـ"كمال أتاتورك" في تركيا. لكنه توقف عن تبني نهج "أتاتورك" العلماني مخافة رد الفعل العكسي من المؤسسة الدينية الإيرانية القوية.

وظهر تأثير إسهامات "رضا شاه" في المجالات الاقتصادية والثقافية الإيرانية، بما في ذلك تحرير المرأة. لكن بريطانيا أجبرته على التنازل عن الحكم في عام 1941؛بسبب مواقفه المعادية لبريطانيا وتفضيله لألمانيا النازية.

ازدهر المجتمع المدني الإيراني خلال سنوات الاحتلال البريطاني لجنوب إيران. إذ عملت الأحزاب السياسية بحرية، وزادت المنشورات الإعلامية المستقلة. في عام 1951، صوت البرلمان الإيراني على تعيين "محمد مصدق" رئيسا للوزراء، وانتقل الأخير على الفور لتأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية. وأثار موقف "مصدق" القومي والعلماني الاجتماعي قلق الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن صلاته المحتملة بحزب "توده" الشيوعي الإيراني. في عام 1953، قام الجيش بانقلاب أطاح بـ"مصدق"، وتواطأت الولايات المتحدة وبريطانيا لإعادة "بهلوي".

  • نجاح ثورة "الخميني"

لم يغفر الشعب الإيراني للشاه عودته إلى السلطة نتيجة مؤامرة أنجلو-أمريكية. في عام 1963، أطلق العنان للثورة البيضاء لتسريع عملية التنمية الاقتصادية. وزاد التصنيع من الطلب على اليد العاملة وبدأت عملية هجرة داخلية هائلة من المناطق الريفية إلى المدن الإيرانية. ووجد سكان المدن الجدد، الذين وصلوا مع مرشدهم الروحي، ملجأ في الأحياء الفقيرة.

لم يكن العداء للبهلويين مهمًا في الريف، الذي يقع على هامش السياسة الإيرانية. كانت وفاة "آية الله بوروجردي" المسالمة والهادئة سياسيا في عام 1961 بمثابة إيذان لبروز "روح الله الخميني" الذي كان يبغض الشاه، وينتظر فرصة لتحدي سياساته. قدمت الثورة البيضاء نفسها كفرصة لـ"الخميني" لإدانة سياسة "الشاه" التغريبية باعتبارها هجومًا على المبادئ الإسلامية.

أمر "الشاه" بالقبض على "الخميني"، الذي ذهب إلى المنفى في تركيا عام 1964. ثم استقر "الخميني" في النجف العراقية حتى عام 1978، ثم انتقل إلى فرنسا لمواصلة نشاطه المناهض للشاه.

بدأت المظاهرات المنخفضة الكثافة التي تعارض "الشاه" في عام 1975 واكتسبت قوة دفع بعد الهجوم المتعمد على مسرح السينما في ريكس بـ"عبادان"، الذي أودى بحياة أكثر من 400 في أغسطس/آب 1978.

أصبحت الشوارع في المدن الإيرانية، التي تأثرت بوصف "الخميني" للشاه بأنه أمريكي وإسرائيلي، مليئة بالشعارات المعادية للصهيونية والإمبريالية. هيمنت معارضة سياسات الشاه القمعية والنفور من السياسة الخارجية للولايات المتحدة على ثورة 1979. ورغم قمع الشرطة وتعذيب الناشطين السياسيين على أيدي الشرطة السرية، وجد النظام نفسه غير قادر على وقف التمرد.

هرب الشاه من إيران في يناير/كانون الثاني 1979، وعاد "الخميني" منتصرا إلى طهران بعد أسبوعين. حكم "الخميني" من خلال النظرية الدينية الفقهية، التي بلغت حد الانقلاب الإيديولوجي في التاريخ العقائدي للشيعة الإثنا عشرية الإمامية.

استغل "الخميني" الدعم العلني لتشديد قبضته على مؤسسات الدولة دون أي معارضة من النخبة الدينية الجديدة، الذين لم يأخذوا فكرة الدولة الحديثة بجدية. أدرك "الخميني" أهمية إنشاء مؤسسات سياسية وعسكرية لحماية النظام من إمكانية حدوث ثورة مضادة، خاصة في وقت كان فيه جيرانه العرب والولايات المتحدة يفكرون في طرق لإجهاض الثورة. أراد أن يؤسس "الحرس الثوري" خارج اختصاص الدولة للإشراف على أنشطتها وضمان مطابقتها للعقيدة الدينية له.

استغل "الخميني" حرب العراق بين عامي 1980 و1988 للقضاء على المعارضة اليسارية والقومية لنظامه. وسخر الكثير من الإيرانيين من الثور؛ لأنها فشلت في تحسين مستوى معيشتهم وقمعت حريتهم في التعبير. برز الإصلاحيون كقوة مضادة للمحافظين في أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 1997 التي فاز فيها "محمد خاتمي" بفوز ساحق. تلاشت الاحتجاجات بعد ذلك بشكل رئيسي من قبل الطامحين البرلمانيين المعتدلين الذين رفض مجلس تشخيص النظام ترشيحهم.

بلغت الاحتجاجات ذروتها في عام 2009 بسبب نتائج الانتخابات الرئاسية. واندلعت معظمها في مدن فارسية مثل طهران وأصفهان وتبريز؛ بسبب اتهامات بالتزوير مكنت "محمود أحمدي نجاد" من الفوز بفترة ولاية ثانية.

لم يسعَ المرشحان الإصلاحيان "مهدي كروبي" و"مير حسين موسوي" إلى تفكيك الثورة. طلبوا فقط إزالة الصلاحيات الزمنية لآية الله "علي خامنئي"، الذي افتقر إلى جاذبية "الخميني"، وقصر سلطاته على الأمور الروحية. وتعاملت ميليشيا "الباسيج" المتطرفة بلا رحمة مع الاحتجاجات التي أصبحت تُعرف باسم "الحركة الخضراء". لم تصل "الحركة الخضراء" إلى الثورة؛ لأنها سعت إلى إصلاح أحداث 1979 بدلا من التخلص التدريجي منها. ولم تنطلق الاحتجاجات اللاحقة بسبب الخلافات السياسية.

لكن اليوم، يجد الأشخاص العاديون صعوبة أكبر في تلبية احتياجاتهم، كما تظهر احتجاجات 2017-2018؛ بسبب الزيادة الحادة في أسعار المواد الغذائية. في عام 2019، انطلقت احتجاجات جديدة على الزيادات المفاجئة في أسعار النفط. وهتف الإيرانيون "الموت لفلسطين"، و"ساعدونا، وليس غزة"؛ لتسجيل معارضة لتبديد الموارد المالية الإيرانية في المغامرات الأجنبية. لكن "الحرس الثوري" لم يرحم المتظاهرين.

تتهم وسائل الإعلام، التي تسيطر عليها الدولة، الآن البلدان الأجنبية بارتكاب أعمال العنف التي تستهدف الممتلكات الخاصة والعامة. لا يبدو أن الاحتجاجات الإيرانية لديها قيادة سياسية توجهها. فرّ الناشطون الذين يمكنهم تقديم دفعة قوية للمظاهرات من البلاد خوفا من الإجراءات القمعية والقسرية التي مارسها "الحرس الثوري".

في المقابل، يأمل المحافظون في استخدام الاحتجاجات للإطاحة بحكومة الرئيس "حسن روحاني". كان هدف "روحاني" طويل المدى هو توسيع سلطته ليشمل مؤسسات المرشد الأعلى التي تهيمن على الاقتصاد الإيراني، خاصة شركة "خاتم الأنبياء" للإنشاءات التابعة لـ"الحرس الثوري".

  • مصير ثورة "الخميني"

يتعزز موقف الإصلاحيين على حساب المحافظين، الذين يفقدون بسرعة الدعم الشعبي. ونجحت جبهة "مسار الأمل الأخضر" التابعة لـ"موسوي" في حشد تحالف واسع من جماعات المعارضة من الإصلاحيين اليساريين إلى الوسطيين.

وتعمل الديموغرافيا ضد المحافظين حيث أن غالبية سكان إيران من الشباب. أكثر من 70% من الإيرانيين تقل أعمارهم عن 35 عاما، والكثير منهم لا يرتبطون بثورة "الخميني"، ولا يعرفون الشعارات التي أثارها. يتذكر الشباب الإيراني "الخميني" لتدخله في الشؤون الخارجية للدول واستفزاز العراق لبدء حرب دامت 8 سنوات ضد الجمهورية الإسلامية أهلكت اقتصادها وأوقعت أكثر من مليون قتيل.

تعاني إيران من عقوبات مطولة أصبحت لا تطاق. أصبحت العملة لا قيمة لها، والضروريات باهظة الثمن. تختلف المظاهرات التي دارت خلال العامين الماضيين حول ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود عن موجات الاستياء السابقة في جانبين على الأقل. إذ لم يعد الناس يطالبون بالإصلاحات السياسية، لكن بتغيير النظام. وعلى نفس القدر من الأهمية تشمل الاحتجاجات التكوين الإثني المتنوع لإيران.

ومع ذلك، فإن إيران ليست مستعدة بعد لثورة جديدة تدخل في نظام سياسي جديد على أنقاض ولاية الفقيه لأن "الحرس الثوري" لا يسمح للمتظاهرين بالتشكيك في صحة وشرعية ثورة "الخميني" الدينية.

أسفر إسقاط الطائرة الأوكرانية في أوائل يناير/كانون الثاني الجاري عن غضب الشعب الإيراني. لقد حولت الحادثة تركيز الشعب الإيراني من إدانة مقتل "قاسم سليماني" إلى غضب وإحباط ضد النظام. خلال الاحتجاجات الأخيرة، هتف المتظاهرون، "العدو يكمن فينا".

ويزيد الجفاف المتكرر من وتيرة الهجرة الداخلية من المناطق الريفية إلى المدن الإيرانية، ويثقل كاهل بنيتها التحتية القديمة. ولذلك فإن أحزمة الفقر الحضرية الجديدة قادرة على بدء الثورة المضادة لإيران.

يتذبذب مزاج الشعب الإيراني خلال الـ150 سنة الماضية بين مطالب الإصلاح والقومية ومعاداة الإمبريالية. ويتوق الإيرانيون اليوم إلى الحرية، ولا يشعرون بالحرج من انتقاد شعارات "الخميني" الثورية. تحتاج الدول الأجنبية إلى تجنب حث الإيرانيين على التمرد ضد النظام؛ لأنه سيضفي شرعية على حملة القمع الصارمة.

منذ أن شجع الرئيس الأمريكي "جورج بوش" في عام 2003 المتظاهرين الإيرانيين على إسقاط الحكومة وإدخال نظام ديمقراطي، تجنّب القادة الإصلاحيون الإيرانيون رعاية الاحتجاجات خشية أن يُطلق عليهم اسم الخونة. ويأمل رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في أن تتمكن (إسرائيل) وإيران من استعادة علاقاتهما الودية بعد الإطاحة بالنظام؛ مما يلحق الضرر بالمتظاهرين الإيرانيين.

سيكون التغيير السياسي في إيران مؤلما وبطيئا. لقد أحدثت الثورة الإيرانية جذورا عميقة في البلاد، ولن تنهار بسبب الاحتجاجات؛ لأن السلطات مصممة على القيام بكل ما هو ضروري لسحق المعارضة. في المظاهرات السابقة، أطلقوا "البلطجية" لتدمير الممتلكات من أجل تبرير انتقام الحرس وتخويف المحتجين المسالمين من الاستمرار في التظاهر.

يعود نجاح ثورة 1979 إلى الجيش الإيراني الذي اختار قادته الحفاظ على الحياد. ومع ذلك، من غير المحتمل أن يتخذ الحرس الثوري الإيراني موقفا محايدا. إن أفضل طريقة للعمل بالنسبة للولايات المتحدة هي الحفاظ على العقوبات في مكانها لأنها تعمل، في حين أن اقتصاد المقاومة الإيراني لا يعمل.

لم يعد الإيرانيون يتجاوبون مع التعبئة الأيديولوجية الفارغة التي "لا تضع الخبز على الطاولة". لقد عفا الزمن على النظام السياسي الإيراني وسيضمر في النهاية، لكن لا يوجد حل سريع.

المصدر | هلال خشان/جيوبوليتكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الخميني علي خامنئي الثورة الإيرانية مظاهرات إيران مقتل سليماني

بعد الأوكرانية.. إيران تشهد حادثا جديدا لطائرة ركاب