يناير والفن.. التشويه مسموح والتمجيد ممنوع

الاثنين 3 فبراير 2020 10:51 م

لم يمض أكثر من أسبوعين على إعلان "عبدالفتاح السيسي" انقلابه على ثورة يناير/كانون الثاني في الثالث من يوليو/تموز 2013، حتى جاءت الإشارة سريعة لشيطنة الثورة التي كادت أن تخرج مصر من دوامة الانحطاط التي دخلتها منذ العام 1952.

ففي 20 يوليو/تموز 2013، انطلقت شرارة تشويه الثورة بمقالة خطها الكاتب "محمود الكردوسي" بعنوان "مرتزقة 25 يناير" التي وصف فيها ثورة يناير/كانون الثاني بأنها مجرد انتفاضة شبابية لم تخل من هوى التوجيه والأجندات الخارجية، وجد فيها "الإخوان المسلمون" فرصة، واستثمروا المشهد الرخو للقفز على السلطة، معتبرا أن "الإخوان" هم من وصفوا يناير/كانون الثاني بالثورة.

يذكر أن "الكردوسي" كان من أوائل الصحفيين الذين سارعوا بتأييد الثورة بعد تنحي "مبارك"، حيث كتب في يوم 14 فبراير/شباط 2011 مقالا بعنوان "كابوس وانزاح"، نشره في جريدة "المصري اليوم" وقتها ،وعبر فيه عن كراهيته لنظام "مبارك" الذي أذل المصريين.

فتحت مقالة "الكردوسي" ملف مراحل تعامل الإعلام مع الثورة بعد انقلاب يوليو/تموز، ففي البداية لم يكن التشويه صريحا، لكنه بعد مرور شهرين على الانقلاب تحولت الثورة إلى نكسة في الوصف الإعلامي، وفي الأعمال الفنية التي قدمت بعد ذلك.

الانتقام من الفكرة ومن الصناع

في البداية ورغم تمسك الدولة برواية الثورتين (يناير/كانون الثاني، ويونيو/حزيران)، لكنها راحت تنتقم من صناع ثورة يناير/كانون الثاني بشتى الطرق، سواء بحبسهم، أو بملاحقة اعمالهم الفنية التي تتعلق بفكرة الثورة والتغيير.

وبدا ذلك واضحا من تعامل الدولة مع الأعمال الفنية التي أنتجت عن الثورة في عام 2014، حيث أوقفت عرض مسلسل "أهل إسكندرية"، للكاتب "بلال فضل"، بحجة أنه يميل لتمجيد "الإخوان"، وفقا لرواية وزير الإعلام وقتها "أسامة هيكل"، وطلبت جهات رسمية عليا من قناتي "الحياة"، و"المحور" منع عرض المسلسل، وبرر ذلك وقتها بمواقف كل من "عمرو واكد"، و"بسمة" من الانقلاب، وأيضا موقف "بلال فضل" مؤلف المسلسل الذي انتقل بعدها إلى خارج مصر.

يذكر أن المسلسل تكلف إنتاجه 22 مليون جنيه، وكان يناقش فساد جهاز الشرطة الذي قامت عليه الثورة، وهو اتجاه مخالف لما بعد الانقلاب.

ولم يكن حظ فيلم "النيل هيلتون" الفائز بجائزة لجنة التحكيم من مهرجان ساندس، الذي عرض في دول عدة منها فرنسا وبلجيكا وأمريكا، أفضل حظا من مسلسل "أهل إسكندرية"، فقد منع الفيلم بسبب فضحه ممارسات جهاز الأمن المصري، وتعرضه للفساد الذي سبق ثورة 25 يناير/كانون الثاني، من خلال ضابط شرطة يحقق في مقتل مطربة مغمورة على يد رجل أعمال، وحين يحاول الضابط ان يدين رجل الأعمال تمنعه السلطات العليا من استكمال التحقيق ،كما يتعرض الفيلم للتباين بين أماكن عيش الأثرياء والفقراء في القاهرة.

ولم تتوقف الرقابة عند مرحلة منع عرض الأعمال السينمائية أو الدرامية التي تناقش أسباب ثورة يناير/كانون الثاني، أو تشير إلى فساد الأجهزة الأمنية بل راحت تراجع بأثر رجعي ما يمكن أن يخدم تلك الفكرة فمنعت عرض فيلم "آخر أيام المدينة" الذي أنتج عام 2004، ورفضت أن يكون ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائي في دورته التي عقدت عام 2017 لفس الأسباب السابقة.

"طلق ناري".. تشويه لشهداء الثورة

بأموال "ساويرس" وبأداء مجموعة من النجوم الذين شاركوا مسبقا في الثورة من أمثال "روبي"، و"أحمد الفيشاوي"، و"أحمد مالك"، تم إطلاق عيار ناري للغدر بشهداء الثورة وبحرفية عالية، فالفيلم الذي عرض في مهرجان الجونة يحكي قصة شاب قتل أثناء الثورة، لكن الطبيب يصر على أنه لم يقتل برصاص الشرطة، حيث أصابته رصاصة من مكان قريب جدا، بينما يصر أخو الضحية على أنه شهيد.

ومع الأحداث نكتشف أن هذا الشاب الذي حصل على لقب شهيد هو شاب فاسد مستهتر يحاول أن يستولي على ملك والدته وشقيقه من أجل الزواج بحبيبته التي حملت منه سفاحا، ومع احتدام الموقف بينه وبين شقيقه يقتله دون قصد، ومن ثم يقرر مع أسرته والشارع أن يتم نقله للأحداث وادعاء أنه شهيد.

"عيار ناري" (2018)، للمخرج المصري الشاب "كريم الشناوي"، نموذجٌ لثنائية الإبداع والتزوير/التشويه، قيل فيه ما يُفترض به أن يُقال، وبعضه صائبٌ، لأن الشناوي مُنتبهٌ إلى جمالياتٍ سينمائية مختلفة، الابتعاد قليلاً عن مضمونه، الذي يُشوِّه وقائع ويُزوِّر حقائق، يُظهره فيلمَ حركةٍ وتشويق، تجتمع فيه المقوّمات المطلوبة لهذا النوع السينمائي المُنفَّذ بمهنية إلى حدّ كبير: جريمة قتل، وطبّ شرعي، وتدخّل سلطة (أمنية أو طبية أو سياسية، إلخ)، وحضور إعلام وصحافة، وتحقيقات تكشف غامضًا وتعرِّيه كي يُصبح واضحًا، فيتسلّى كثيرون بمُشاهدته لأنه متمكّن من فعل هذا كلّه بلغة سينمائية متماسكة.

المأزق الجوهري كامنٌ في حيّز واحد: المقتول انعكاس مبطَّن لرمزٍ ثوري، والقتل ناتجٌ من خلافات عائلية لا من اغتيال يُنفّذه "بلطجية" النظام أو أفراد تابعون لأجهزته الأمنية أو العسكرية، والطبّ الشرعي مُطالَبٌ بتزوير واقع أنه مقتول من مسافة قريبة لا بسبب رصاصة قنّاص، والفعل الجُرميّ حاصلٌ أثناء إحدى تظاهرات الثورة عام ولادتها (2011).

انخراط "طلق  ناري"، بشكلٍ أو بآخر، في تصفية الثورة مؤذٍ، لإساءته إلى الثورة أولاً، ولإساءته إليها بلغة سينمائية "جميلة" ثانيًا.

لم يكن فيلم "طلق ناري" هو الوحيد الذي حاول تشويه الثورة بل سبقه فيلم "الجزيرة2"، والذي شارك فيه "أحمد السقا"، و"خالد صالح" الذي توفي بعد الفيلم، فالفليم وإن لم يؤرخ للثورة لكنه استخدمها كمبرر لهروب "منصور الحفني" تاجر المخدرات من السجن، وكأن الثورة هي حالة الفوضى التي أددت إلى انفلات القبضة الأمنية، وعودة المجرمين إلى الحياة العامة، ليس هذا فحسب بل اتهم الفيلم المتظاهرين بأنهم من الجماعات التكفيرية التي خرجت لا للثورة على الظلم بل للسيطرة على البلد ولارتكاب مزيد من الإجرام.

لقد وقعت ثورة الشعب المصري في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني ضحية الانقلاب الذي راح يشيطنها، في ظل عدم تمكن أبناء الثورة من تقديم الوجه الحقيقي لها لأسباب عديدة، منها سطوة الدولة وأجهزتها، وتحالفها مع رأس المال الفاسد الذي التف على الثورة وأجهضها.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية