إرهاب الدولة في مصر.. هل حان وقت المساءلة؟

الأربعاء 4 مارس 2020 12:05 ص

يعيش المصريون في ظل ديكتاتورية قاسية منذ صيف 2013، وبالنظر إلى أعداد المعتقلين السياسيين، والقتل خارج نطاق القضاء، والوفيات في السجن بسبب التعذيب أو الإهمال الطبي، والاختفاء القسري، والمحاكمات وأحكام الإعدام الجماعية، نجد أنه لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الحديثة.

علاوة على ذلك، منذ أن تولى "عبدالفتاح السيسي" منصبه عام 2014، أصبحت مصر مكانا مظلما ومرعبا للنشطاء السياسيين وجماعات المعارضة والصحفيين والمجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وحتى أولئك الذين تحالفوا ذات يوم مع "السيسي" بعد انقلاب عام 2013.

والأخطر من ذلك، أن قمع "السيسي" يتسم بالعشوائية. إذ وصل قمعه إلى الناس في جميع مناحي الحياة السياسية، بما في ذلك العلمانيين والليبراليين والإسلاميين واليساريين، وأي شخص يجرؤ على انتقاد النظام أو معارضته.

اقرأ أيضاً

مصر خلف القضبان

لذلك ليس من المفاجئ أن يكون سجل مصر من انتهاكات حقوق الإنسان على مدى الأعوام الـ7 الماضية مروعا ببساطة.

  • إرهاب الدولة في مصر

من المهم بمكان توصيف وتفسير السياسات الوحشية لنظام "السيسي" توصيفا حقيقيا، فهل يشكل ما هو في مصر الآن نسخة متطرفة من الاستبداد، أم شكلا جديدا من قمع الدولة الذي مارسه نظام "مبارك"، أم إرهاب تمارسه الدولة؟

حسنا، تدل الظروف في مصر على أن التوصيف الأخير هو الأنسب؛ فمستوى القمع والقسوة ضد السجناء السياسيين والناشطين والصحفيين وشخصيات المعارضة غير عادي.

ويشبه ما يحدث الآن في مصر، إلى حد كبير، ما حدث في ظل الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، خاصة في تشيلي والأرجنتين والبرازيل والسلفادور، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، التي غالبا ما توصف بأنها تستخدم "إرهاب الدولة".

ويشير الفهم المشترك للإرهاب، بغض النظر عمن يرتكبه، وما إذا كان من قبل جهات فاعلة تابعة للدولة أو غير حكومية، إلى استخدام العنف، أو التهديد باستخدامه، من أجل تحقيق الأهداف السياسية.

وفي مقدمة كتابهم "إرهاب الدولة المعاصرة: النظرية والتطبيق"، لـ"جاكسون" وآخرين، تم تعريف "إرهاب الدولة" على أنه "الاستخدام المتعمد أو التهديد بالعنف من قبل موظفي الدولة أو وكلائهم ضد الأفراد أو الجماعات الذين يقعون ضحية للتلاعب أو لتخويف جمهور أوسع".

ويتضمن "إرهاب الدولة" بالتالي 3 عناصر رئيسية، أولا، استخدام العنف ضد المدنيين أو التهديد باستخدامه، إما ضد الأفراد، مثل الناشطين السياسيين والسجناء وقادة المعارضة، أو الجماعات، مثل الأحزاب السياسية أو المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان.

ثانيا، تورط وكلاء الدولة والمؤسسات مثل قوات الشرطة والجيش ووسائل الإعلام المدعومة من الدولة، من بين أمور أخرى.

ثالثا، تخويف الجمهور الأوسع من أجل ردعه وإخضاعه.

ومن الواضح أن نظام "السيسي" لم يستوف هذه المعايير الـ3 فحسب، بل تجاوزها بالفعل.

ولم يسبق لأعداد الضحايا الذين عانوا من التعذيب والإهمال الطبي والقتل خارج نطاق القضاء والمذابح والمحاكمات الجماعية مثيل.

لقد تجاوزت أرقامهم بكثير أرقام نظام الرئيس الراحل "حسني مبارك" خلال حكمه الذي دام 30 عاما، بأعداد كبيرة ووحشية.

  • الموت كعقاب سياسي

وأصبح الموت في السجون المصرية شكلا من أشكال العقاب السياسي.

ويعد عدد السجناء السياسيين الذين لقوا حتفهم في السجون ومراكز احتجاز الشرطة في الأعوام القليلة الماضية مذهلا.

ووفقا لتقارير حقوق الإنسان والتقارير الإعلامية، مات مئات السجناء منذ 2016، والكثير منهم نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي.

على سبيل المثال، توفي "مصطفى قاسم"، وهو مواطن مصري أمريكي، في سجن طرة سيئ السمعة في مصر، في 13 يناير/كانون الثاني 2020. وكان "قاسم"، وهو سائق سيارة أجرة يبلغ من العمر 54 عاما من نيويورك، تم اعتقاله في أغسطس/آب 2013، وبقي في السجن حتى وفاته.

وقبل وفاته، أضرب "قاسم" عن الطعام احتجاجا على الظروف الوحشية وغير الإنسانية التي واجهها في السجن؛ مما أدى إلى فشل قلبه ووفاته.

وقبل 3 أسابيع من وفاة "قاسم" المأساوية، توفيت "مريم سالم"، وهي امرأة تبلغ من العمر 32 عاما، داخل سجن القناطر في مصر بعد تدهور حالتها الصحية.

وعانت "مريم" من فشل في الكبد، وتم منعها من تلقي الرعاية الطبية المناسبة؛ ما جعلها أول امرأة تموت في السجن في ظل نظام "السيسي".

وفي يونيو/حزيران 2019، توفي "محمد مرسي"، أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، الذي أطاح به "السيسي" من السلطة في يوليو/تموز 2013، في قاعة المحكمة أثناء محاكمته.

ولم تكن وفاة "مرسي" مفاجئة؛ فمنذ وقت إقالته من منصبه تم منعه من الاتصال بطبيبه، ولم يتلق الدواء المناسب، بالرغم من حالته الصحية السيئة. ويعاني الآن آلاف السجناء في ظروف لا تطاق، ويواجهون "الموت البطيء" في السجون المصرية.

  • القتل خارج نطاق القضاء

وكان استخدام القوة غير المتناسبة والوحشية ضد المدنيين سمة رئيسية لقوات الشرطة المصرية منذ الانقلاب عام 2013.

وبالفعل، ارتكب نظام ما بعد الانقلاب عدة مذابح؛ ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين.

وفي مذبحة "رابعة"، أطلقت قوات الأمن والجيش المصرية النار على مئات المحتجين المسالمين في وضح النهار، في 14 أغسطس/آب 2013.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت عمليات القتل خارج نطاق القانون سياسة منهجية وغير مقيدة لنظام "السيسي"، مع ارتفاع عدد الضحايا على مدى الأعوام الـ5 الماضية، مع شيطنة الضحايا عادة بشكل غير إنساني في وسائل الإعلام المصرية.

وفي الواقع، اعترفت الحكومة بقتل مئات الأشخاص فيما وصفته بأنه "تبادل لإطلاق النار" مع متشددين مشتبه بهم، خاصة في سيناء.

ووفقا لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية، ترتكب قوات الجيش والشرطة المصرية انتهاكات خطيرة وواسعة النطاق ضد المدنيين في شبه جزيرة سيناء، ربما تصل إلى حد الجرائم ضد الإنسانية.

  • الاختفاء القسري

وأصبح "الاختفاء القسري" سياسة منهجية لنظام "السيسي"؛ فبالرغم من عدم وجود أرقام رسمية أو مؤكدة لحالات الاختفاء القسري، تشير منظمات حقوق الإنسان إلى أن المئات من الأفراد اختفوا قسرا خلال الأعوام القليلة الماضية.

على سبيل المثال، ووفقا لحملة "أوقفوا الاختفاء القسري"، اختفى قسرا نحو ألف و520 شخصا في الفترة ما بين يوليو/تموز 2013 وأغسطس/آب 2018.

إضافة إلى ذلك، وثق مركز "النديم" لإعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب 492 حالة اختفاء قسري خلال النصف الأول من 2019 فقط، وتستمر الأرقام في النمو.

وتم إخفاء "مصطفى النجار"، وهو ناشط بارز وعضو سابق في البرلمان، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018، في حين تصر السلطات المصرية على أن "النجار" لم يتم اعتقاله أو إخفائه قسرا، فقد أخفقوا في الكشف عن مكان وجوده.

وتحقيقا لهذه الغاية، حث السيناتور الأمريكي "ماركو روبيو" الحكومة المصرية على "اتخاذ جميع الخطوات لتوفير معلومات لأسرته واتباع الشفافية بشأن مكان وجوده".

وكان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن النساء والأطفال كانوا من بين الأشخاص المختفين قسرا منذ  2013. ورغم أن عدد حالات الاختفاء القسري في مصر لا يزال أقل من بلدان أمريكا اللاتينية مثل شيلي أو الأرجنتين أو جواتيمالا، فمن المتوقع أن يرتفع بشكل كبير إذا ظل "السيسي" في السلطة حتى عام 2030، حسب خطته.

  • توريط مؤسسات الدولة

وعلى مدار الأعوام الـ6 الماضية، ورط "السيسي" مؤسسات الدولة، مثل الجيش والقضاء والنيابة العامة، في انتهاكات حقوق الإنسان، واعتمد "السيسي" عليها بشدة من أجل الحفاظ على حكمه الاستبدادي وتوسيعه.

وفي حين أنه ليس سرا أن الجيش المصري يحكم البلاد منذ عام 1952، إلا أن هذا أصبح أكثر وضوحا ورسوخا في عهد "السيسي".

وفي الواقع، كانت استراتيجيته منذ توليه السلطة هي إظهار أنه لا يوجد فرق بين الرئاسة والجيش، وهو دائما ما يحرص على عرض المؤسستين على أنهما لا ينفصلان.

ومع ذلك، ورط "السيسي" الجيش في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للبلاد كما لم يحدث من قبل؛ حيث يرى أنه من أجل الحفاظ على ولائهم، يجب عليه استرضاء القادة العسكريين. وأكدت عدة تقارير على الدور الواسع للجيش المصري في إدارة الاقتصاد.

إضافة إلى ذلك، أصبح الجيش متورطا بشكل كبير في مكافحة التطرف، خاصة في سيناء.

ومنذ نهاية 2013، نفذ الجيش العديد من العمليات العسكرية ضد "ولاية سيناء"، الحركة المرتبطة بتنظيم "الدولة".

وفي الوقت نفسه، قتلت هذه العمليات أيضا العديد من المدنيين الذين وقعوا في مجال تبادل إطلاق النار بين الحكومة والمتشددين، ولم تحظَ هذه القصص بأي تغطية إعلامية.

ووفقا للإحصاءات التي حصلت عليها الموقع الاستقصائي "مدى مصر"، تم قتل نحو 621 مدنيا وأصيب 1277 آخرين بين يوليو/تموز 2013 ومنتصف عام 2017.

ومن المفارقات أن خبراء الأمن يشيرون إلى أن الجيش المصري ليس مستعدا بشكل جيد للتعامل مع التمرد وحروب العصابات، التي قد تؤثر على سمعته على المدى الطويل.

علاوة على ذلك، كان جهاز المخابرات لاعبا رئيسيا في المشهد الإعلامي في مصر؛ فهو يهيمن بشكل غير مباشر على معظم القنوات التلفزيونية والقنوات الفضائية، ويتحكم في محتوى البرامج الحوارية الرئيسية بهدف التأثير على الجمهور ونشر رسائل النظام والدعاية له.

أما فيما يتعلق بالقضاء المصري، الذي نظر المصريون إلى استقلاله تاريخيا بكل فخر، فقد كان في عهد "السيسي" أداة للقمع في معركته السياسية مع المعارضة.

ولم يصبح القضاء أكثر تسييسا ومشاركة في اللعبة السياسية فحسب، بل تولى أيضا دورا أكثر تبعية للرئاسة.

وفي التعديلات الدستورية التي تمت الموافقة عليها عام 2019، تم تمكين السلطة التنفيذية، لا سيما الرئيس، على حساب القضاء.

على سبيل المثال، وفقا لهذه التعديلات، يمكن للرئيس تعيين معظم القضاة، بمن فيهم رؤساء المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض وسلطة النيابة الإدارية.

لذلك، تم التنديد بالتعديلات وانتقادها من قبل خبراء ومراقبين قضائيين اعتبروها "اعتداء صارخا على سيادة القانون واستقلال القضاء في مصر".

علاوة على ذلك، تشير منظمة "العفو" الدولية إلى أنه "منذ عام 2014، تم إصدار أكثر من 1891 حكما بالإعدام، وتم إعدام ما لا يقل عن 174 شخصا، غالبا بعد محاكمات جائرة للغاية".

ووفقا لتقرير صادر عن لجنة الحقوقيين الدولية، "أصبح القضاة والمدعون العامون في مصر يُنظر إليهم على أنهم في طليعة الحملة على حقوق الإنسان، بسبب مقاضاة وإدانة الآلاف من المعارضين السياسيين والصحفيين والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين المؤيدين للديمقراطية والأفراد الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير والتجمع".

وفي الآونة الأخيرة، اعتبرت منظمة "العفو" الدولية نيابة أمن الدولة العليا في مصر "أداة شريرة للقمع".

وفي الواقع، لا يزال الآلاف من المحتجزين رهن الاحتجاز قبل المحاكمة لأكثر من عامين، وهي المدة القصوى المنصوص عليها في المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية.

واعترف "علاء عابد"، وهو نائب برلماني ورئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان، بوجود ما بين 25 ألفا إلى 30 ألف معتقل رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة في الوقت الحالي.

  • إفلات "السيسي" من العقاب

ويتصرف الديكتاتوريون بقسوة عندما يشعرون أن بإمكانهم الإفلات من جرائمهم، وعندما لا يخضعون للمساءلة من قبل شعبهم أو المجتمع الدولي.

ولم يتم محاسبة "السيسي"، ولا أي من مسؤوليه، على انتهاكاتهم لحقوق الإنسان على مدار الأعوام الـ7 الماضية.

ومنذ صعوده إلى السلطة، لم يتمتع "السيسي" فقط بدعم من الجهات الدولية الفاعلة، بل حصل أيضا على الحصانة من العقاب رغم سجله المروع في انتهاكات حقوق الإنسان.

على سبيل المثال، لا تمانع المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، والرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في التعامل مع حكومة "السيسي" بالرغم من إدراكهما التام لانتهاكاته لحقوق الإنسان.

علاوة على ذلك، يعد الرئيس "دونالد ترامب" حليفا رئيسيا لـ"السيسي"؛ حيث وصفه ذات مرة بأنه "ديكتاتوره المفضل".

ويبدو أن كلا الرجلين يتماشيان معا من خلال تطبيق ميول استبدادية مماثلة.

ومع ذلك، يرتكب الرئيس "ترامب" نفس الخطأ الذي ارتكبه أسلافه من خلال دعم واحتضان الديكتاتوريين والأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط.

ودعمت الإدارات الأمريكية السابقة الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية خلال الستينيات والسبعينيات، وأثبتت تلك السياسة أنها كانت كارثية على مصالح الولايات المتحدة ونفوذها في تلك المنطقة خلال العقود التالية.

وشجع تسامح الحكومات الغربية نظام "السيسي" على ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، ويجعل هذا من هذه الحكومات، بدرجات مختلفة، شريكة في جرائمه.

ويهدف "إرهاب الدولة" في مصر، كما هو الحال في أي مكان آخر، إلى الحفاظ على السيطرة على السكان، والقضاء على التهديدات، الحقيقية أو المتصورة، القادمة من الأفراد و/أو الجماعات، والبقاء في السلطة بالإكراه.

ومع ذلك، فإنه يقوض شرعية النظام، ويخلق العديد من المشاكل على المدى الطويل.

وفي الواقع، يمكن لتداعيات "إرهاب الدولة" أن تكون كارثية؛ لأنها قد تؤدي إلى انفجارات اجتماعية وصراع أهلي، أو حتى إلى حرب أهلية كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن.

لذلك، من الأهمية بمكان وضع حد لإرهاب الدولة في مصر، من أجل تجنب كارثة كبرى أخرى في الشرق الأوسط.

المصدر | خليل العناني | المركز العربي للأبحاث بواشنطن - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

القمع في مصر عبدالفتاح السيسي نظام السيسي قمع السيسي