قصة سينما.. السينما الصهيونية وبناء المشروع (2)

الجمعة 6 مارس 2020 07:45 م

تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن نشأة السينما الصهيونية، وتزامن ظهور الرواية القومية لمجموعة من الأعراق المختلفة، وجعلهم (الشعب المختار لأرض الإله) مع ظهور السينما، وكيف استخدم الصهاينة السينما للترويج لهذه الرواية.

وتوقفنا عند محطة الستينات، حيث ظهر مصطلح أفلام "البوريكس" التي اهتمت باليهود الشرقيين وإظهارهم في الصورة بعدما كانت الرواية السينمائية مقتصرة فقط على اليهود الغربيين وبطولاتهم في إعادة أرض الأجداد.

ظلت أفلام "البوريكس" لعقدين من الزمان تغازل يهود "السفرديم" (الغربيين) وتصورهم كأشخاص أذكياء يبحثون عن فرص العمل، ويخادعون "الاشكنياز" (الشرقيين) السذج حتى يحصلوا على الفرص المناسبة لمهارتهم، وغالبا ما كانت تلك الأفلام تنتهي بزواج اليهودي الشرقي من يهودية غربية، كما في فيلم "تشارلي ونصف" إنتاج عام 1974، ونجحت هذه الموجة من الأفلام في تأسيس موجة سينما شعبية ساخرة ومربحة للمنتجين في نفس الوقت.

ارتفاع موجة التمرد السينمائي

مثلت أفلام "البوريكس" بداية التمرد على سينما مؤسسة السلطة التي كانت بيد اليهود الاشكنياز، لكنه كان تمردا داخل مؤسسة المجتمع، أو بمعنى أدق تمرد لبناء المجتمع من الداخل ودمج أحد أهم مكوناته.

التمرد الأهم والذي خطى خطوة واسعة حدث عام 1979، بإنتاج فيلم "خربة خزعة" من إخراج "رام ليفي" الذي أنتجه عن رواية "كسر الصمت" لـ"يزهار سلانيسكي"، وهي رواية صدرت عام 1949 تتناول مرحلة تأسيس الدولة على "أنقاض فلسطين".

ويقدم الفيلم قصة مأساة النكبة الفلسطينية، لذلك فقد قوبل بردة فعل عنيفة من الحكومة ومنع عرضه في التلفزيون، واضطرت القناة الثانية إلى تسويد الشاشة طيلة المدة المخصصة لعرض الفيلم احتجاجا على قرار المنع، لتتراجع في النهاية حكومة الكيان الصهيوني وتعرض الفيلم، وكما يروي مخرجه فإن التلفزيون الأردني سجل الفيلم وقت بثه وعرضه يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1980 في ذكرى قرار التقسيم.

رد الفعل اللاحق لعرض الفيلم، كان إقالة عدد من مديري التلفزيون الصهيوني، وإلغاء قسم الدراما، لخشية الحكومة من خطورة أن يرى الجمهور أفلاما من هذه النوعية.

كان ذلك في عهد رئيس الوزراء "مناحم بيجين"، وبعد توقيع "كامب ديفيد" مع مصر، ويبدو أن الموجة التي بدأت بفيلم "خربة خزعة" وما سيأتي بعدها من أفلام، لم تكن بريئة تماما ولا بعيدة عن يد الحكومة، بل هي موجة جديدة لتأهيل المجتمع للانفتاح على العرب في مرحلة ما بعد "كامب ديفيد"، مع الاحتفاظ بقوة الذكر الصهيوني الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الأولى، وأظهر العربي كمغلوب على أمره منكوب.

يؤيد الكلام السابق موجة الأفلام التي جاءت بعد "خربة خزعة" والتي احتل العربي فيها مكان اليهودي الشرقي، فسنجد فيلم "وراء القضبان" إنتاج عام 1984، يتناول قصة سجينين أحدهما فلسطيني وهو سجين سياسي، والآخر سجين جنائي يهودي، حيث تضطرهما الأحداث إلى مواجهة مع إدارة السجن فيتقرب الطرفان من بعضهما دون قصد، ويعلن جميع السجناء الإضراب عن الطعام، لاكتشافهم أن إدارة السجن تتلاعب بالجميع عربا ويهودا، والفيلم بشر من خلال الأحداث بإمكانية حدوث المصالحة والتطبيع بين الطرفين.

الفيلم الأكثر تعضيدا لرؤية تأهيل المجتمع الصهيوني للمرحلة الجديدة وهي مرحلة الاستعلاء مع قبول أن هناك متواجدين على الأرض هو فيلم "فانتي بولو"، إنتاج 1986، حيث عكس الأدوار عن قصد وجعل من جنديين مصريين شخصيات رئيسية، وقدم الجنود الإسرائيليين كأشرار، فالجنديان المصريان تاها في الصحراء أثناء حرب 1967وعاشا حالة من العطش والجوع لعدة أيام حتى صادفا سيارة للأمم المتحدة قتل سائقها، ولم يجدا فيها غير زجاجة ويسكي اضطرا لشربها وسكرا ليقعا أثناء الطريق وهما في حالة السكر بيد مجموعة من جنود اليهود ظلوا يعبثون بهما ويطلقون النار عليهما بهدف التسلية ويمنعون عنهما الماء.

يضعنا هذا الفيلم أمام حالة مهمة من تأهيل المجتمع للتعامل مع العرب، فهو يصورهم ضعافا حتى أعتى جيوشهم جنوده في حالة تيه، كما لا ينسى أن يصورهم متملقين أيضا من خلال منولوج شخصية الجندي المصري الذي قدم نفسه على أنه كان ممثلا قبل الالتحاق بالحرب، وأدى للجنود منولوجا من مسرحية "تاجر البندقية" دافع فيه عن "شايلوك": "أنا يهودي؟ نعم، ولكن، أليس لليهودي عينان ويدان وجسد؟ ألا يشعر بالحر؟ وتؤذيه نفس الأسلحة؟ إذا وخزتمونا ألا ننزف؟ إذا سقيتمونا السم ألا نموت؟".

لقد عكس الفيلم الأدوار وجعل من العربي هو اليهودي الجديد الذي سيعاني من اللاسامية، ولا مانع من بعض التعاطف معه، ولا مانع من فتح هامش له للعيش، ولكن كما كان يعيش اليهودي قديما، فليعش ذليلا متملقا خادما.

ثالوث الصورة الذهنية بعد "كامب ديفيد"

فرضت "كامب ديفيد" وخطة الإدماج الجديدة والتي ما زلت مستمرة إلى الآن على الكيان الصهيوني، إنتاج ثالوث خاص بصورتها الذهنية، فهي بسلسلة أفلام عكس التيار كانت تروج لـ(إسرائيل) الديمقراطية المنفتحة على كل الرؤى.

وبذلك زاد الدعم لهذه الموجة بهدف الترويج لـ(إسرائيل)، وقد نجح الأمر في النهاية بإخراجها من حصار دام عليها كدولة عنصرية.

أما العنصر الثاني من عناصر الصورة الذهنية فبدأ يركز على تصوير التعامل الإنساني للجنود اليهود مع السكان المحليين، وظهرت هذه الموجة مع فيلم "إصبعين من صيدا" إنتاج عام 1986، والذي يصور الجندي الصهيوني كأنسان في تعامله مع السكان رغم أنهم يعتدون عليه بالقنابل ويقتلونه بالمفخخات.

فالحرب في الضلع الثاني من أضلاع الثالثوث ما هي إلا رد فعل للدفاع عن النفس ضد همجية المحليين "الإرهابيين".

أما الضلع الثالث في هذا الثالوث؛ فهو موجه للداخل حتى لا ينسى اليهود أنهم ما زالوا في حرب، لذلك فقد ظلت المؤسسة العسكرية تلعب على مفهوم ما يسمى بأفلام ذاكرة الحرب، وهي سلسلة طويلة من الأفلام التي تناولت حرب أكتوبر/تشرين الأول، واجتياح لبنان عام 1982، وهي مجموعة من الأفلام التي كررت صورة الجندي ضحية الحروب.

خلاصة القول؛ إن السينما الصهيونية استطاعت أن ترسم مسار كل حقبة زمنية وفق احتياجات المجتمع، وضروريات المرحلة.

ففي مرحلة عملت على بناء الشخصية اليهودية القادرة على مواجهه أعباء الأرض، وفي مرحلة روجت لمقولة "الجيش مصنع الرجال"، ثم استطاعت أن تبني المجتمع بتقسيماته الطبقية في مرحلة الستينات والسبعينات، وتأهيل السفرديم كمواطنين درجة ثانية، إلى أن وصلت إلى رسم ثالوثها الجديد: "الديمقراطية - التعايش بشرط - الجندي الضحية".

السؤال الآن: ماذا فعلت السينما العربية في مواجهة هذه المنظومة؟

 

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

صناعة السينما كامب ديفيد معاهدة كامب ديفيد حرب أكتوبر 1973

إسرائيل تعرض 6 أفلام عربية في مهرجان سينمائي بالقدس المحتلة