استراتيجية الأمن القومي الأمريكي ما بعد كورونا

الاثنين 15 يونيو 2020 01:14 م

تجعل التداعيات الصحية والاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا تحديد أولويات دفاع واقعية أكثر إلحاحا

 تسببت الاستجابة لجائحة كورونا العالمية في إضعاف الاقتصاد الأمريكي بشدة. وهذه الحقيقة كان لها أثار واسعة على السياسية الخارجية الأمريكية.

ويطرح عاملان اقتصاديان تقليص أهداف السياسية الخارجية الأمريكية: (1) سيتقلص الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات الضريبية في الولايات المتحدة في عام 2020، مع انعدام اليقين حول متى قد يتم استعادة التعافي. (2) تهدد الديون والعجز القياسي مستقبل النمو الاقتصادي.

تعزز الأسباب السياسية لتنفيذ تقييدات في السياسة الخارجية، تلك العوامل الاقتصادية: فالجمهور يدرك على نحو متزايد أن المخاطر غير الأمنية ذات أهمية قصوى، وستكون الأولوية للإنفاق المحلي الذي يساعد على التعافي ويزيد من انتعاش المؤسسات المحلية.

سوف يتحمل الإنفاق التقديري الفيدرالي عبئا أكبر لأنه من الصعب سياسيا إجراء تخفيضات على برامج الإنفاق الإلزامية. ونظرا لأن الدفاع يمثل ما يقرب من نصف الإنفاق التقديري، من المرجح أن تواجه وزارة الدفاع تخفيضات مستمرة.

تتمتع الولايات المتحدة بموقع جيواستراتيجي موات يحميها من المنافسين، ولذا يمكنها خفض إنفاق الدفاع دون تعريض أمنها للخطر. وبالطبع، فإن إنهاء الالتزامات الثانوية لصالح المصالح الأمنية الأساسية يقوي الولايات المتحدة.

التخلي عن المهمات الخارجية والتركيز على الأمن والازدهار الأساسي للولايات المتحدة

كما يوضح الوباء، يمكن أن تكون التهديدات العسكرية أكثر ضررا على رفاهية الأمريكيين من الجهات غير الحكومية والدول المارقة والأنظمة الاستبدادية التي تهيمن على أولويات التخطيط والإنفاق العسكري.

ساهم السعي المتواصل منذ عقود لتحقيق أهداف طموحة للغاية في السياسية الخارجية غير مرتبطة بأمن الولايات المتحدة في إهمال المؤسسات المحلية الأمريكية التي انكشفت بواسطة فيروس كورونا.

ويتطلب التعافي الاستثمار في الداخل: التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية والبحث والتطوير والسياسيات التي تشجع الابتكار وخلق فرص العمل.

وعلى مدار العشرين عاما الماضية، أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 1 تريليون دولار سنويا على الأهداف المتعلقة بالدفاع (وزارة الدفاع، رعاية قدامي المحاربين، الأمن الداخلي، الأسلحة النووية، الدبلوماسية) بينما كانت البنية التحتية المحلية في الصناعات الحيوية تعاني من نقص الموارد.

ومن المؤكد أن إعادة التوازن بين أولويات الدفاع للتركيز بشكل أكبر على الرخاء الاقتصادي والصحة العامة سيعزز قوة الولايات المتحدة على المدى الطويل.

الشرق الأوسط: تقليل الاستثمار المفرط والحضور العسكري الذي جاء بنتائج عكسية وأضعف الولايات المتحدة

تعتبر المصالح الرئيسية في الشرق الأوسط هي (1) منع انقطاعات ملموسة في إمدادات النفط العالمية (2) الدفاع ضد التهديدات الإرهابية للولايات المتحدة. يتطلب الأول جهدا أمريكيا ضئيلا، بينما يتطلب الثاني ذكاء وتعاون وضربات محدودة وليس احتلال.

يمثل الشرق الأوسط نسبة 4% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولكن على مدى عقود، حاولت الولايات المتحدة إعادة تشكيل المنطقة من خلال القوة العسكرية وتعطيل ميزان القوة الإقليمي، وزيادة حدة عدم الاستقرار السياسي، والسماح للجماعات الإرهابية بالازدهار.

يوجد اليوم 62 ألف جندي أمريكي في المنطقة، ويعتبر كثير منهم عرضة لهجمات الميليشيات المحلية. وتخوض الولايات المتحدة أيضا حروبا في العراق وسوريا واليمن، وتستند في ذلك إلى حد كبير على مخاوف مبالغ فيها من إيران وهي قوة متوسطة يمكن احتواؤها من قبل منافسيها الإقليميين.

ستكون الولايات المتحدة قادرة على تمويل جزء من تعافيها من فيروس كورونا بإنهاء مشاركتها في صراعات الشرق الأوسط والمناطق المجاورة، مثل أفغانستان والصومال. وهذا سيوفر عشرات المليارات من الدولارات سنويا للأولويات ذات الأهمية الأعلى.

ويمكن تحقيق توفير إضافي من خلال تركيز البنتاجون على مهامه الحربية الأساسية وتحديد الحجم المناسب لهيكل القوة، وخاصة القوات البرية التي تضخمت بسبب هذه الالتزامات.

تمثل الولايات المتحدة وأوروبا وأسيا 81 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.. أوروبا: تحويل الأعباء الأمنية إلي الحلفاء الأثرياء

لدى الولايات المتحدة الأمريكية مصالح اقتصادية ودبلوماسية قوية في أوروبا لكن حجم التهديدات الذي تواجهه القارة يعتبر محدودا. وبالرغم من سقوط الاتحاد السوفيتي، تحتفظ الولايات المتحدة بتواجد عسكري كبير في أوروبا تحت مسمي تأمين الحلفاء.

خدم هذا التنظيم المصالح الأمريكية عندما كان الوجود العسكري الكبير يوازي القوة العسكرية للاتحاد السوفيتي، بينما يمكن الحلفاء من التعافي اقتصاديا ويوحدهم.

مع تصاعد ثروة الحلفاء وانهيار الاتحاد السوفيتي، منح الدعم الأمريكي حلفاءها الأوروبيين ركوبة رخيصة على رقاب دافعي الضرائب الأمريكيين، وقاد ذلك إلى إنفاق زائد لوزارة الدفاع، بينما تدعم ماليا برامج الرعاية الاجتماعية المترفة للدول الأوروبية.

وتعتبر روسيا قوة متراجعة (مع ترسانة نووية كبيرة). ويتفوق الاتحاد الأوروبي على روسيا فى المقاييس المهمة للقوة الوطنية: 1:3.5 في السكان، 1:11 في الناتج المحلي الإجمالي، و1:5 في الإنفاق العسكري. كما أن الاقتصادات الأوروبية أكثير ديناميكية من روسيا.

وبدلا من فك الارتباط مع الحلفاء لتهربهم من التزاماتهم، يجب ان تحول السياسة الأمريكية الأعباء الأمنية عليهم من خلال (1) إنهاء مبادرة الدفاع الأوروبية و(2) تنفيذ تخفيض مسؤول للقوات الأمريكية والقوة النووية من القارة.

ولن يؤدي ذلك فقط إلى تحويل موارد الولايات المتحدة المحدودة تجاه الأولويات الأكثر أهمية في الداخل أو في آسيا، ولكن أيضا تشجيع الحلفاء الأوروبيين على إعادة تنشيط جيوشهم عبر زيادة الانفاق وإعطاء الأولوية للتحديث أو زيادة التعاون العسكري مع بعضها البعض.

آسيا: تعزيز حلفاء أسيا بقدرات A2 / AD لردع العدوان الصيني بمخاطرة أقل

وتوازن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين (المنافس الاستراتيجي الوحيد الذي يمكن تصوره) بين العديد من المصالح الرئيسية: ردع التوسع الإقليمي الصيني ضد الحلفاء الأسيويين، وتجنب الحرب، وضمان علاقة تجارية عادلة ومفيدة.

يجب أن تستند جهود التوازن ضد الصين إلى المصالح الأمريكية الأساسية، وأن يتم تصميها وتخطيطها بعناية لتقليل التكلفة وتقليل مخاطر التصعيد وحماية التجارة.

تعتبر أهداف الولايات المتحدة في آسيا دفاعية بطبيعتها (للحفاظ على الوضع الإقليمي الحالي) ومن الأفضل تحقيقها من خلال مقاربة "defensive defense": مفهوم عملياتي يحد من تكاليف الولايات المتحدة من خلال تشجيع الحلفاء على تطوير قدراتهم الدفاعية.

من خلال تحسين قدرات (anti-access/area denial (A2/AD -شبكة من أجهزة الاستشعار والقذائف- يمكن لحلفاء الولايات المتحدة ردع الهجمات الصينية بشكل أكثر فعالية وبتكلفة رخيصة من الاستثمار في الطائرات والسفن السطحية التي تحاكي القدرات الأمريكية.

وتعتبر القدرات الدفاعية للحلفاء أقل تهديدا للصين من القدرات الهجومية الأمريكية، لذلك يمكن الحد من التهديد الذي تتصوره الصين، عبر منظومات A2/AD لدى الحلفاء بدلا من تنفيذ هجمات مباشرة، ممايقلل من حدة سباق التسلح المكلف والهدام.

الضغط على الحلفاء لاعتماد هذا النهج سيسمح للولايات المتحدة بالتخلي عن الخطط التصعيدية للدفاع عنهم من خلال مهاجمة البر الرئيسي الصيني، كما سؤدي إلى خفض التوترات ومخاطر حرب أوسع مع الصين، والسماح بتوفير نفقات كبيرة تتكبدها القوات الأمريكية في أسيا.

هيكل القوات أمريكية: ميزانيات وزارة الدفاع المقيدة وإعادة التوازن بين الخدمات

بترسانة نووية هي الأكثر تعقيدا في العالم، ومحيطات واسعة تفصلها عن الخصوم، ودول مجاورة ضعيفة، تتمتع الولايات المتحدة بميزة فريدة عن كافة الدول الأخرى، فتحقيق الأمن سهل وغير مكلف.

وتمثل الولايات المتحدة 40% من الإنفاق العسكري العالمي، وتمثل روسيا والصين 17%. تتجاوز ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2020 (457 مليار دولار) وهي أعلى من مستويات الحرب الباردة بحساب القيمة الحقيقية، ما يعكس إحساسا زائفا بانعدام الأمن.

يمكن أن تؤدي ميزانيات وزارة الدفاع المنخفضة إلى نقاش حول الأولويات بين البرامج والخدمات (بين ما يساهم في أمن الولايات المتحدة وما هو هامشي او حتى له نتائج عكسية).

وتجعل الجغرافيا الولايات المتحدة قوة بحرية طبيعية ودولة تجارية. ويعني ابتعادها عن الدول الكبرى الأخرى، أنها تتعرض لتهديدات أقل على عكس الصين التي تجاور القوي الأخرى في أوراسيا.

وتعتبر البحرية هي الخدمة الرئيسية لإظهار قوة الولايات المتحدة على مستوي العالم، والدفاع عن التجارة إذا لزم الأمر مع تجنب عمليات الاحتلال المكلفة. ينبغي للبحرية أن تسيطر على جزء أكبر من ميزانية وزارة الدفاع المخفضة.

لا يوجد أي قوي كبري أو إقليمية لم يصبها الأذى بالوباء -وسوف يحدد التفكير الاستراتيجي من سيخرج أقوي.

ضرب الوباء بشدة كافة القوي الكبرى، بما في ذلك خصوم أمريكا، وقد جرى توزيع الألم الاقتصادي بشكل جيد.

أعلنت الصن انكماش ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 6.8% في الربع الأول من عام 2020، وهو أول انخفاض منذ عام 1976. ويعتمد الحزب الشيوعي الصيني على النمو الاقتصادي المطرد من أجل الشرعية، وفي بلد لا توجد فيها شبكة أمان اجتماعي تقريبا، يمكن أن يؤدي فقدان الوظائف إلى الشعور بالسخط.

وبالرغم من جهود الصين لمساعدة الدول المنكوبة في محاولة للتخفيف من الأضرار التي لحقت بسمعتها من التستر الأولي على تفشي الوباء لديها، اتخذت الكثير من الشركات خطوات لتحجيم تواجدها في الصين.

يمكن أن يؤدي الانخفاض القياسي لأسعار النفط إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بما يصل إلى 15% هذا العام، وقد يتسبب في المزيد من الضغوط للحد من انفاقها العسكري وتدخلاتها في أماكن مثل أوكرانيا وسوريا.

وبالمثل، أصيبت إيران بالشلل بسبب الفيروس. لقد تسببت العدوى في قتل العديد من المسؤولين، وأدي انهيار أسعار النفط إلى تدمير اقتصادها المتقلص أصلا، مما جعل هذه القوة المتوسطة أكثر ضعفا.

تقييد السياسية الخارجية يتيح قوة طويلة المدى

تعتبر المقومات الأساسية التي تدعم قوة الولايات المتحدة هي: الجغرافيا المواتية، مجتمع متقدم تقنيا مع قوة عاملة ماهرة ومبتكرة، ومواد طبيعية وفيرة. وتتطلب مرحلة ما بعد "كورونا" التركيز على نقاط القوة هذه لإعادة تشغيل الاقتصاد.

صعدت الولايات المتحدة لتصبح القوة العظمي العالمية بفضل اقتصادها الإنتاجي، والتكنولوجيا المتقدمة (بما في ذلك الأسلحة النووية) والدبلوماسية الماهرة.

أدي السعي إلى فرض الهيمنة الليبرالية (نشر الديمقراطية عسكريا) إلى فشل استراتيجي، والتوسع العسكري الزائد عن الحد، وتفريغ القوة الداخلية الأمريكية.

كشفت جائحة كورونا مدي تراجع القوة الأمريكية. ولاستعادة قوتها  يجب على الولايات المتحدة التركيز على العناصر الرئيسية للسلطة الوطنية مع تجنب المشاريع العسكرية المبالغ فيها والمكلفة.

ستكون متطلبات الميزانية للتعافي من هذا الوباء هائلة، لكن المصادر الأساسية لأمن الولايات المتحدة قوية  ولن تتأثر بخفض الإنفاق العسكري.

يعتبر فيروس كورونا مأساة رهيبة لكنه أيضا فرصة للتخلص من الأوهام وإعادة بناء الركائز الحقيقة للقوة الوطنية على المدي الطويل.

وطالما ان الولايات المتحدة تركز على ازدهارها (بدلا من التشتيت الهامشي) ستزاد قوة في الداخل وتحتفظ بالقدرة على حشد الموارد اللازمة للتنافس مع أي خصم.

المصدر | بنيامين فريدمان - مركز defensepriorities - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مكافحة كورونا ما بعد كورونا الإنفاق الدفاعي وزارة الدفاع الأمريكية الأمن القومي الأمريكي