في الظروف العادية حين ينتخب رئيس جديد لجواتيمالا اليوم فإن ذلك خبر لا يثير أي اهتمام من جانب القارئ العربي. لكن الأمر يصبح باعثا على الدهشة حين يتم ذلك بعد استقالة الرئيس «الشرعي» قبل نحو خمسة أشهر من انتهاء ولايته (في منتصف يناير 2016). ولأن ذلك أمر غير مألوف في دول العالم الثالث الذي تنتسب إليه جواتيمالا، فإن المرء إذا دفعه الفضول إلى محاولة تحري ما جرى فإنه سوف يفاجأ بأن وراء الاستقالة المبكرة قصة طويلة غاية في الإثارة جديرة بأن نقرأها.

أعترف بأنني أحد الذين لم يتوقفوا يوما ما أمام خبر انتخاب أي رئيس لجواتيمالا. فسجل هذا البلد الذي لا يزيد عدد سكانه على سكان القاهرة الكبرى (16 مليونا) لا يشجع مثلي على متابعة انتخاباته، إذ إنه يرتبط في أذهاننا بمؤامرات المخابرات الأمريكية وبالعواصف السياسية والطبيعية، وبالحرب الأهلية التي استمرت 36 عاما (من 1960 إلى 1996)، ثم إن سجله مليء بالصراعات بين شبكات المصالح وعصابات تهريب المخدرات التي يسقط بسببها ستة آلاف قتيل سنويا، صحيح أنني توقفت ذات مرة أمام دعوة رئيس الجمهورية المستقيل إلى تقنين بيع المخدرات وإنتاجها لكنني اعتبرت ذلك من قبيل التشوهات الحاصلة في محيط الطبقة السياسية في بعض دول أمريكا اللاتينية، التي تأتي أحيانا بأناس غريبي الأطوار، ولذلك لم أهتم بالقصة.

الرئيس المستقيل أوتو بيريز (64 عاما) جنرال متقاعد دخل عالم السياسة بعد انتمائه إلى «الحزب الوطني» في بلاده. وكان أول عسكري فاز في انتخابات نزيهة في ظل الحكم الديمقراطي الذي بدأ عام 1985. لم يكن الرجل مستبدا لكنه أصبح جزءا من شبكة الفساد في البلد. ورغم أن الشائعات ظلت تلاحقه طول الوقت إلا أن أمره انفضح في شهر أبريل من العام الحالي. إذ أثبتت النيابة العامة كما أكدت إحدى اللجان التابعة للأمم المتحدة تورطه هو ونائبته روكسانا بالديني في قضية فساد كبرى داخل جهاز الجمارك. إذ كان يسمح للموظفين بإعفاء بعض الواردات من الرسوم مقابل رشى كان له نصيب منها. واستطاع المتخصصون أن يثبوا أن نصيبه من الرشى وصل إلى ثلاثة ملايين و700 ألف دولار. أما نائبته فقد حصلت على ثلاثة ملايين و800 ألف دولار. وبسبب ذلك أمرت النيابة بتوقيفها ولا تزال في انتظار المحاكمة.

حين انفضح الأمر فإن منظمات المجتمع المدني والأحزاب المعارضة تحركت بسرعة، ونظمت مظاهرات سلمية في مختلف أنحاء البلاد طالبت بمحاكمة الرئيس. ومنذ شهر مايو الماضي، عقب إعلان الفضيحة، وإلى ما قبل الأسبوعين الماضيين لم تتوقف المظاهرات السلمية التي كانت تخرج مرة كل أسبوع، وإذ استمرت تلك المظاهرات أكثر من أربعة أشهر فإن ذلك شكل ضغطا شعبيا على البرلمان الذي طرح عليه مشروع قرار برفع الحصانة القضائية عن الرئيس تمهيدا للتحقيق معه فيما نسب إليه. وهو القرار الذي تمت الموافقة عليه بإجماع 132 نائبا حضروا الجلسة التاريخية، من أصل 158 نائبا هم جملة أعضاء البرلمان، وكان قرار مماثل قد عرض على البرلمان في وقت سابق من شهر أغسطس الماضي إلا أنه لم يحظ بالأغلبية اللازمة. إلا أن الضغوط الشعبية القوية غيرت الموازين حين أعيد تقديم الاقتراح في الأسبوع الأخير من الشهر ذاته.

كانت تلك أول مرة في تاريخ البلاد يصدر فيها البرلمان مثل ذلك القرار عقب سلسلة من المظاهرات الشعبية السلمية. ولذلك فإن صدى القرار في الشارع كان بالغا، حيث أدركت الجماهير أنها هي التي أسقطت الرئيس من خلال البرلمان الذي أثبت أنه يمثل الإرادة الشعبية الحقيقية، وقد سجلت الصورة التي تناقلتها وكالات الأنباء فرحة الجماهير التي خرجت حاملة الأعلام وملوحة بشارة النصر، ومرددة الهتافات والأهازيج التي عبرت عن الفرحة العارمة.

أثناء مناقشة الموضوع في البرلمان حاول الرئيس أوتو بيريز أن يبدو متماسكا، فأعلن أنه سيدافع عن نفسه ويثبت براءته أمام القضاء، وإن البرلمان إذا رفع الحصانة عنه فإنه لن يستقيل وسيظل في منصبه لكي يبرئ ساحته. إلا أن الأمر اختلف بعدما أصدر البرلمان قراره، وقرر القضاء منعه من مغادرة البلاد. إذ ارتفعت أصوات الجماهير المنتشية مطالبة باستقالته ومحاكمته. وفي الوقت ذاته أوصى مكتب المدعي العام (يسمونه مدعي الأمة) الذي يعد الممثل القانوني للدولة في المسائل القانونية بأن يقدم الرئيس استقالته «كي لا يجد نفسه في وضع يستحيل عليه ممارسة مسؤوليات الحكم، فضلا عن أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى في البلاد».

أمام ضغط الجماهير وقرار البرلمان تجريده من منصبه والبيان القوي الذي أصدره النائب العام الذي دعاه إلى الاستقالة، بل ووجه إليه اتهاما صريحا بالضلوع في جرائم الفساد، لم يجد الرئيس أوتوبيريز مفرا من تقديم استقالته يوم الخميس الماضي 3 سبتمبر/أيلول، وبعد أن فعلها فإنه نقل إلى مكان خاص لمنعه من الهرب خارج البلاد، وتمهيدا لمحاكمته فيما نسب إليه.

أعترف بأن الصورة التي في ذهني عن جواتيمالا كانت على النقيض مما حدث، حتى أزعم أن كل ما جرى كان مفاجئا لي تماما. ابتداء من قوة المجتمع ومناخ الحرية الذي سمح للمظاهرات السلمية أن تتواصل طوال أربعة أشهر، ومرورا بفاعلية البرلمان المنتخب الذي نزع الحصانة عن الرجل، وانتهاء باستقلال النيابة العامة التي أجرت تحقيقها في قضية فساد الرئيس وجرأة المدعي العام الذي طالب الرئيس بالاستقالة من منصبه.

بالديمقراطية جاء الرجل وبالديمقراطية والحرية أقصي عن منصبه. وقدمت تلك الدولة الصغيرة نموذجا في الأداء السياسي جديرا بالتقدير والإعجاب، وجديرا بالاحتذاء أيضا. وإذا كانت تهنئة الرئيس الجديد الذي يفترض أن ينتخب اليوم واجبة، إلا أن تهنئة الشعب على الإنجاز الذي حققه والدرس الذي قدمه أوجب.