استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

العقل ووظيفة التبرير

الاثنين 14 سبتمبر 2015 04:09 ص

ثمة مقولة شائعة عموماً، ومُردّدة كثيراً من قبل الذين انقلبوا على ما كانوا عليه في شبابهم من مبادئ وسياسات ونضالات، وهي المقولة التي تتهم مرحلة الشباب بالحماسة والاندفاع والعاطفية وقلة الخبرة، وبعضهم يتهمها بمرحلة المراهقة السياسية وما شابه. ومن ثم تنتقل إلى اعتبار مرحلة الكهولة والشيخوخة مرحلة النضج والخبرة والحكمة والعقلانية والواقعية وما شابه.

باختصار اعتبار مرحلة الكهولة (بعد الأربعين أو الخمسين من العمر) وما بعدها، مرحلة الحكمة.

إذا دقق بما يُدعى في مرحلة الكهولة، وما بعدها، عند الذين نقلوا البندقية من الكتف إلى الكتف، تجدهم أقل حكمة وأقل قدرة على قراءة السياسة والوقائع والحقائق مما كانوا عليه في مرحلة الشباب والكفاح واقتحام الخطر. ولكنهم لا يستطيعون أن يتوافقوا مع ما أصبحوا عليه من آراء وممارسات ومواقع، إن لم يجدوا التبرير لما أحدثوه من انقلاب في مواقفهم. ومن هنا يتوجب ادعاء الحكمة والعقلانية والواقعية. وأن يقتنعوا بما أصبحوا عليه قناعة كاملة، وليست خداعاً للنفس.

فالعقل الإنساني منذ أن أخذ دوره، أو وظيفته، في علاقة الإنسان مع نفسه، ومع "ربعه"، أو في مجتمعه، كما مع ممارسته، عمد إلى إيجاد الحجج والمسّوغات النظرية أو المنطقية لتبرير أفعاله، وإلاّ سيقع في حالة انفصامٍ شديد إذا تناقض ما يفكر فيه مع ما يمارسه. وقد يمر في حالة الانفصام عند بداية الانتقال أو التحوّل. ولكنه سرعان ما يشكل القناعة الراسخة بأن ما فعله ويفعله وسيفعله هو الصواب بعينه، أو هو الحكمة والعقلانية والواقعية، وما كان عليه من قبل كان وهماً أو خِطئاً أو لا واقعية أو طيشًا وما شابه.

 هذا ينطبق على السياسي حين ينتقل من المبادئ والمُثُل إلى الضفة الأخرى من النهر، كما يحصل مع الموظف الشريف الذي ينتقل من الاستقامة إلى الرشوة والفساد. كما مع من ينتقل، أو تنتقل، من مرحلة مسلكية إلى أخرى نقيضة. فها هنا لا بد من إيجاد الحجج والأسانيد التي تقنع المعني أن وضعه الذي انتقل إليه هو الوضع الطبيعي أو العقلاني أو الواقعي.. هو الحكمة والعقل. ومن ثم لا بد من أن يصحب ذلك هجاء ممنهج للمرحلة السابقة، وقد أضاع عمره في "أوهامها" ومثالياتها "الفارغة".

فإن أي موقف أخلاقي أو سياسي أو ممارسة أو سلوك يحمل منذ البداية خلافياته حوله. وذلك انطلاقاً من الزاوية التي يرى من خلالها، أو يجعلها الزاوية الأساس في تحديد الحالة. أما ما عداها من زوايا أخرى فيصبح ثانوياً أو غير معبّر عن حقيقتها.

فالفاسد أو الذي أصبح فاسداً يجب أن يقتنع بالمثل القائل "من الباب إلى المحراب الكل قابض". أو يقتنع أن المال الذي إذا لم يأخذه وأخذه غيره ليس أحق فيه منه، أو يعتبر أن ما يفعله ليؤمّن مستقبل الأولاد والبنات ومستقبله الذي سيذهب خسارة إذا لم يلحق بالركب قبل فوات الأوان. ثم هنالك مقولة: تغيّر الزمان فنحن في زمان قانونه "كل من في يده له".

هذا الفاسد الذي كان يوماً شاباً مناضلاً يشنّ الحرب على الفاسدين أو الذين خانوا بلادهم، أو باعوا أنفسهم، لا يستطيع الاستمرار برؤية موقفه ذاك عين الصواب، أو ما يجب أن يكون عليه، أو يراه الحكمة بعينها والعقلانية بعينها. وقد أخذ ينقلب إلى جبهة أولئك الذين كان حرباً عليهم، أو يصبح قريباً منهم، أو من المنتفعين من فتات موائدهم. كحال بعض الكتاب والصحفيين. هنا عليه أن يصف شبابه ذاك "بالطفولية والمغامرة والمثالية الفارغة" (التي لا تطعم خبزاً). ويُقنع نفسه بأنه أصبح أكثر حكمة وفي الموقع الصحيح. وإلاّ كيف يمكن أن يعيش بانفصام شخصية، وقلق داخلي. الأمر الذي يوجب صوْغ قناعات جديدة ويبرّر ممارسته الجديدة. لأن الحق بيّن والباطل بيّن لمن يرى بموضوعية بلا أهواء ومصلحة.

طبعاً ليس بالضرورة أن يكون الانتقال من النقيض إلى النقيض، وإنما يكون الانتقال من موقع المبادئ والكفاح والتعرّض للأخطار من أجل الشعب والوطن، أو في سبيل الله، أو من أجل قضية الثورة، إلى موقع الانسان العادي الذي يدخل في صراع الحياة من أجل تأمين حياة كريمة أو مرفّهة له ولعائلته، وقد يزيد الطموح هنا قليلاً أو كثيراً إلى ما يمكن أن يصل إليه، باعتباره تحوّل إلى إنسان عادي طبيعي مثله مثل عشرات الملايين من الناس العاديين، الذين لم يحملوا "السُّلم بالعرض" يوماً مثله أيام الشباب الملتزم (وفقاً للتعبير الشائع).

هذا أيضاً بحاجة إلى ضبط قناعات جديدة تجعله يستريح في انتقالته الجديدة وحياته الجديدة. ولا بأس إذا ظن أنه أصبح أكثر حكمة أو عقلانية وراح ينظر إلى شبابه بدهشة كيف كان مندفعاً لا يحسب حساباً لمستقبل أو حتى لموت. وهذا النمط من الانتقال هو الأفضل والأكرم إذا كان لا بد من الانتقال.

رغم أن التفريق يجب أن يكون حاسماً بين من ينقلب إلى النقيض وينقل البندقية من كتف إلى كتف، وبين من ينتقل من حالة الشاب حامل المبادئ والمندفع إلى حالة الكهل الذي انتقل إلى حياة إنسان عادي مع حنين إلى تلك الأيام، أو مع التعاطف مع جيل الشباب الجديد الذي أخذ يخوض التجربة، بدوره، أو ضمن أهداف أخرى وأساليب أخرى.

لكن يجب أن يلحظ في الحالتين أن الحكمة والعقلانية من الناحية الموضوعية، كانت من نصيب مرحلة الشباب، وأنهما تبدآن بالغياب في المرحلة الثانية.

أما السبب فيرجع إلى أن مرحلة الشباب تشبه الماء الذي يتدفق من النبع صافياً رقراقاً، فيما يأخذ بالتعكر مع رحلة المسيرة الطويلة. فالشباب يبدأ رحلته بقراءة صافية للحياة وللوقائع ولما هو صائب وخاطئ، أو ما هو عادل وظالم، فتخرج بالضرورة أكثر حكمة، فيما القراءة للحياة وللوقائع نفسها تبدأ بالتعكر من خلال الميل للمساومة. فالمساومة على المبادئ والأخلاق تبتعد عن الحكمة بالضرورة، لأنها ستدفع العقل للبحث عن التبريرات. أي يتدخل عنصر الأهواء والمصالح، فكيف تكون الحكمة هنا وليست في مرحلة الرؤية الشفافة المحصنة بالشجاعة والاندفاع، والمُصَّفاة من المصالح الذاتية والهموم؟!

  كلمات مفتاحية

الشباب الكهولة الشيخوخة العقلانية الواقعية العقل الإنساني