معركة النفوذ تشتعل في البحر الأحمر والقرن الأفريقي

الأحد 27 ديسمبر 2020 01:40 ص

أدى تزايد المشاركة الدولية والإقليمية في مسرح البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى جعل هذه المنطقة نقطة ساخنة مفتوحة على كل الاحتمالات، تذكرنا إلى حد ما ببرلين خلال أيام الحرب الباردة.

ومع تركيز معظم المراقبين في هذه المنطقة على حرب اليمن والأزمة الإنسانية الرهيبة في البلاد، كانت هناك قصة لم تأخذ حقها من التغطية وهي تنافس الأطراف العالمية والإقليمية على إنشاء قواعد عسكرية واستخباراتية في المنطقة لتوسيع نفوذها وحماية مصالحها التجارية ومراقبة أنشطة الخصوم.

وبالرغم من الحديث المتجدد عن ما يسمى بـ "التحول نحو آسيا"، فإن إدارة "بايدن" القادمة ستنصح بإيلاء اهتمام كبير بمنطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ليس فقط كوسيلة لإنهاء حرب اليمن الكارثية ومواجهة المتطرفين، ولكن أيضا لضمان فتح الممرات المائية الحيوية للشحن الدولي.

وبدون قيادة أمريكية قوية، من المرجح أن تلعب روسيا والصين والإمارات وتركيا دورا مهيمنا في المنطقة.

ومن الضروري الحرص على ضمان عدم تحول أي حوادث مؤسفة إلى حرب نشطة قد تعصف نتائجها الوخيمة بالمنطقة لفترة طويلة.

  • الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب

ووفقا لبيانات 2018 من إدارة معلومات الطاقة، الذراع البحثية لوزارة الطاقة الأمريكية، يمر يوميا نحو 6.2 مليون برميل من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية المكررة عبر مضيق باب المندب باتجاه أوروبا والولايات المتحدة وآسيا.

ويعتبر هذا المضيق، الذي يبلغ عرضه 18 ميلا فقط عند أضيق نقطة فيه، ويفصل اليمن في شبه الجزيرة العربية عن جيبوتي وإريتريا في شرق أفريقيا، أحد "نقاط الاختناق" الحيوية، ليس فقط لنقل النفط والمنتجات ذات الصلة ولكن أيضا من أجل التجارة الدولية بشكل عام.

على سبيل المثال، يمر أكثر من 50 مليون طن من المنتجات الزراعية عبر المضيق كل عام.

وسيؤدي إغلاق المضيق، الذي يربط بحر العرب بالبحر الأحمر وقناة السويس، إلى إجبار الحركة البحرية الدولية على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من أفريقيا، ما يؤدي إلى زيادة تكاليف الشحن والتأمين، ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الوقود والغذاء للمستهلكين.

وأدت تداعيات حرب اليمن بالفعل إلى عدد من الحوادث ضد السفن التجارية.

وفي يوليو/تموز 2018، بعد أن استهدف الحوثيون ناقلات النفط السعودية، أعلنت الحكومة السعودية أنها ستعلق صادراتها النفطية عبر مضيق باب المندب كوسيلة لإقناع المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين لدعم جهود تحالفها ضد الحوثيين ولممارسة المزيد من الضغط على إيران، التي يرى السعوديون أنها توجه الحوثيين.

ونتيجة لمثل هذه الهجمات الحوثية بالقرب من المضيق، دأبت السعودية على نقل المزيد من النفط من منطقتها الشرقية عبر خط أنابيب شرق-غرب إلى ميناء ينبع على البحر الأحمر، لكن يبدو أن هذا الجهد لم يوقف هجمات الحوثيين على السفن في تلك المنطقة أيضا.

ووقعت آخر هذه الحوادث في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري عندما ضرب انفجار ناقلة نفط ترفع علم سنغافورة، واسمها "بي دبليو راين"، كانت تقوم بتفريغ حمولتها بالقرب من ميناء جدة.

وقالت منظمة التجارة البحرية البريطانية إن السفينة أصيبت "من مصدر خارجي أثناء تفريغها".

وبالرغم أن الحوثيين لم يعلنوا مسؤوليتهم عن الهجوم، فقد ورد أنهم استخدموا الألغام البحرية والقوارب ذاتية القيادة في الماضي القريب لضرب مرافق الشحن في السعودية.

وبعد هجوم 14 ديسمبر/كانون الأول، صرح مسؤول بوزارة الطاقة السعودية، آملا في لفت الانتباه الدولي: "إن هذه الأعمال الإرهابية والتخريب الموجهة ضد المنشآت الحيوية تتجاوز المملكة ومنشآتها الحيوية لأمن واستقرار إمدادات الطاقة للعالم والاقتصاد العالمي".

وتستمر البحرية الأمريكية في التواجد الواضح في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعد أن أطلق الحوثيون الصواريخ مرتين خلال أسبوع على سفن تابعة للبحرية الأمريكية، أطلقت سفينة تابعة للبحرية الأمريكية صواريخ "توماهوك كروز" دمرت 3 مواقع رادار ساحلية يسيطر عليها الحوثيون.

ويبدو أن تلك الضربة الانتقامية قد ردعت الحوثيين عن القيام بأي محاولات أخرى لمهاجمة أو مضايقة سفن البحرية الأمريكية في المنطقة.

ومع ذلك، فإن إدارة "ترامب" تدرس في أيامها الأخيرة تصنيف الحوثيين كمجموعة إرهابية، وهو أمر تعارضه وكالات الإغاثة الدولية بشدة، لأنه سيعيق برامج المساعدة في اليمن.

وقد يؤدي هذا التصنيف أيضا إلى تجدد هجمات الحوثيين على سفن البحرية الأمريكية.

  • التنافس على القوة العالمية

وبالإضافة إلى القلق بشأن تداعيات حرب اليمن، سعت الولايات المتحدة إلى التواجد في المنطقة لمواجهة "الجماعات المتطرفة".

وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، أنشأ المسؤولون الأمريكيون قاعدة عسكرية واستخباراتية في جيبوتي بالإضافة إلى قواعد تدريب عسكرية في الصومال.

وكان الغرض من هذه القواعد ليس فقط ملاحقة "الجماعات الإرهابية" ولكن أيضا للحماية من القرصنة، حيث كان هناك نحو 60 هجوما للقراصنة في خليج عدن عام 2008 وحده.

كما احتفظت فرنسا بقاعدة عسكرية في جيبوتي، إحدى مستعمراتها السابقة.

وبالنظر إلى أن هذه القواعد مصدر مربح للدخل، فإن جيبوتي المنكوبة بالفقر لم تقصر استضافتها على القوى الغربية.

وفي عام 2017، أنشأت الصين ما وصفته بقاعدة دعم عسكري هناك، وهي مصدر قلق للمخططين الاستراتيجيين الأمريكيين.

وشهد القائد السابق للقيادة الأمريكية في أفريقيا (USAFRICOM)، الجنرال "توماس والدهاوزر"، أمام الكونجرس عام 2019 أن القاعدة الصينية في جيبوتي، التي لا تبعد سوى أميال قليلة عن القاعدة الأمريكية، "تقلل من وصول الولايات المتحدة ونفوذها" في المنطقة.

ومن منظور بكين، فإن قاعدتها في جيبوتي لا تعني فقط استعراض قوتها العسكرية على بعد آلاف الأميال من حدودها، ولكنها تحمي مصالحها التجارية الكبيرة في القرن الأفريقي، التي تشمل مئات الملايين من الدولارات في استثمارات في الطرق والسكك الحديدية والطاقة ومشاريع البنية التحتية للاتصالات.

ويعد مشروع السكك الحديدية الذي يربط أثيوبيا وجيبوتي على وجه الخصوص جزءا من مبادرة الحزام والطريق الصينية الطموحة.

بالإضافة إلى ذلك، بدأت شركة "سي إم بورت" الصينية في توسيع مرافق ميناء جيبوتي التي ستوفر للسفن الصينية أولوية المناولة ورسوم الإرساء المنخفضة.

وحتى لا تتفوق عليها، توصلت روسيا مؤخرا إلى اتفاق مع السودان لإنشاء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر.

وسوف يسمح الاتفاق، الذي تم الإعلان عنه في 8 ديسمبر/كان الأول الجاري، لموسكو بوضع 4 سفن وما يصل إلى 300 فرد في بورتسودان.

كما تسمح الصفقة، التي تسري لمدة 25 عاما، لروسيا باستخدام المطارات السودانية لنقل "الأسلحة والذخيرة والمعدات" لدعم قاعدتها البحرية الجديدة.

ومثل الصين، تريد روسيا استعراض قوتها في المنطقة كوسيلة لتوسيع نفوذها ومواجهة دور الولايات المتحدة والصين.

ولطالما كانت روسيا موردا رئيسيا للأسلحة للجيش السوداني، ويقال إن مجموعة المرتزقة "فاجنر" سيئة السمعة متورطة في السودان منذ عدة أعوام.

ويجب أن نتذكر أن صفقة الموانئ الروسية هذه جاءت في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تزيل السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما يشير إلى علاقات أكثر دفئا بين الولايات المتحدة والسودان.

ومما لا شك فيه، أن القوى الكبرى الثلاثة تستخدم، أو ستستخدم، منشآتها العسكرية لمراقبة أنشطة بعضها البعض، ما يجعل المنطقة نوعا من ساحات الحرب الباردة.

  • اللاعبون الإقليميون ومواجهة الخصوم

وكان اللاعب الإقليمي الأكثر نشاطا في المنطقة على مدار الأعوام العديدة الماضية هو الإمارات، التي تسعى للسيطرة على الممرات الملاحية في المناطق الجنوبية والشرقية لليمن، وجزيرة بريم في مضيق باب المندب، وأرخبيل سقطرى في بحر العرب.

وبالرغم أن الإمارات أقامت علاقات تجارية مع سكان سقطرى منذ عدة أعوام، إلا أنها رفعت الرهان في أبريل/نيسان 2018 من خلال نشر أصول عسكرية والاستيلاء على ميناء ومطار حديبو في أكبر الجزر.

وأدى هذا الإجراء إلى احتجاجات من قبل حكومة "هادي" وزاد من توتر العلاقات بين الإمارات والسعودية.

وبالرغم أن كلا من السعودية والإمارات تعارضان الحوثيين، إلا أنهما اختلفا حول مستقبل اليمن، حيث يدعم السعوديون حكومة "هادي" فيما يدعم الإماراتيون المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي.

أدى هذا التنافس إلى اشتباكات بين الجانبين في مدينة عدن الساحلية اليمنية ومحافظة أبين.

ولا تزال الظروف على الأرض لا تبشر بالخير، بالنظر لما ينص عليه اتفاق السلام المفترض بين اليمنيين وتسوية تقاسم السلطة التي رعتها الرياض مؤخرا.

وخارج اليمن، أنشأت الإمارات قواعد في جيبوتي وأرض الصومال، وهي منطقة منفصلة في الصومال الفيدرالية، وقامت باستثمارات كبيرة في مرافق الموانئ.

ويأتي تدخل الإمارات في هذا المجال جزئيا في إطار مواجهة تركيا وقطر اللتين أقامتا قواعد عسكرية وعلاقات مع الصومال.

وأنشأت تركيا قاعدتها العسكرية في العاصمة الصومالية مقديشو عام 2017، وبنت المدارس والمستشفيات والبنية التحتية وقدمت منحا دراسية للطلاب الصوماليين للدراسة في المؤسسات الأكاديمية التركية كوسيلة لبسط نفوذها في جميع أنحاء البلاد.

كما قدمت أنقرة تدريبا لوحدة شرطة صومالية مثيرة للجدل، الأمر الذي دفع جماعات المعارضة الصومالية إلى إرسال رسالة إلى الحكومة التركية تحث أنقرة على عدم إرسال أسلحة وذخيرة لهذه الوحدة خشية استخدامها ضدها في الانتخابات الصومالية المقبلة.

وفي غضون ذلك، كانت مصر قلقة أيضا من النفوذ التركي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

ومثل الإمارات، ترى مصر في تركيا تهديدا إقليميا، ليس فقط لدعمها جماعة "الإخوان المسلمين، التي صنفتها كل من القاهرة وأبوظبي منظمة إرهابية، ولكن أيضا لسعيها لتوسيع نفوذها في المنطقة.

وتشعر القاهرة بالقلق من تحركات تركيا في ليبيا ومنطقة شرق البحر المتوسط  وكذلك في الجوار الجنوبي لمصر.

وفي عام 2018، توصلت تركيا إلى اتفاق مع السودان لإنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن في البحر الأحمر، وهو مركز تجاري عثماني قديم ومنطقة انطلاق للحجاج المسلمين في طريقهم إلى مكة، ما يدل على نية تركيا أن تكون لاعبا رئيسيا هناك مرة أخرى.

وتريد القاهرة التأكد من عدم تعارض أي قوة مع السفن التي تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس، حيث تبلغ الرسوم من الأخيرة نحو 5.8 مليار دولار سنويا وتشكل أحد المصادر الرئيسية لعائدات النقد الأجنبي في مصر.

وفي محاولة لمواجهة تركيا، حسنت مصر مؤخرا علاقاتها مع الصومال، حيث أرسلت وفدا دبلوماسيا رفيع المستوى هناك في أوائل ديسمبر/كانون الأول.

وأشار محلل سياسي مصري إلى أن اهتمام القاهرة بشرق أفريقيا لا يقتصر فقط على سد النهضة الأثيوبي الذي تخشى أن يحد من تدفقات المياه إلى مصر، بل يتعلق بالصومال "والتسلل التركي الهائل والمخيف إلى أراضيها".

  • التداعيات على سياسة الولايات المتحدة

والغريب أن إدارة "ترامب" سحبت مؤخرا القوات الأمريكية المتمركزة في الصومال بالرغم من التهديدات المستمرة للمنطقة ومعارضة وزارة الدفاع وقادة عسكريين صوماليين.

وقال أحد الضباط الصوماليين، وهو العقيد "أحمد عبدالله شيخ"، إن "التدريب والمساعدة الأمريكية للقوات الصومالية لن يتم استبدالها بسهولة"، مضيفا أنه "في حين أن الضربات الأمريكية ضد حركة الشباب يمكن أن تتم من جيبوتي وكينيا، فإن الأمر يختلف عن الوضع السابق فلا يمكنك تدريب قوة عن بعد".

ومن المحتمل أن يكون قرار الانسحاب ليخدم تعهد الرئيس "دونالد ترامب" بسحب القوات من "الحروب التي لا نهاية لها"، والذي كان جزءا من حملته الانتخابية ويريد أن يكون جزءا من إرثه.

ومع ذلك، ترى المؤسسة العسكرية الأمريكية الوضع بشكل مختلف.

وأورد موقع القيادة الأمريكية في أفريقيا تصريحا لقائدها الحالي الجنرال "ستيفن تاونسند"، يقول فيه إن قيادته لن تعالج التهديدات الإرهابية فحسب، بل ستواجه أيضا تحديات من المنافسين الاستراتيجيين مثل الصين وروسيا، الذين يواصلون توسيع نفوذهم في جميع أنحاء العالم بما في ذلك أفريقيا، وهو موقف من المرجح أن تتبناه إدارة "بايدن" القادمة.

وتشترك القيادة الأمريكية في أفريقيا في جزء كبير من هذه المنطقة مع القيادة المركزية "يوسينتكوم"، التي لها ولاية على مصر والبحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية.

وقد اختار الرئيس المنتخب "بايدن" وزير دفاعه ليكون القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية الجنرال "لويد أوستن"، الذي يعرف المنطقة جيدا.

وإذا تم تأكيده، فسيكون "أوستن" في وضع جيد لمواجهة هذه التهديدات لضمان عدم تهديد المصالح الأمنية الأمريكية في المنطقة من قبل روسيا أو الصين أو أي قوة إقليمية أخرى.

ومع ذلك، ستستغرق هذه الجهود وقتا وبراعة كبيرة، نظرا لاكتظاظ المنطقة بمختلف اللاعبين.

ومن المؤكد أن إنهاء الصراع في اليمن سيساعد، لكن سيتعين على فريق "بايدن" أيضا التركيز على التهديدات الأخرى التي تؤثر على المصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية في المنطقة.

وفي الوقت نفسه، مع وجود العديد من المنافسين النشطين، ينبغي الحذر من وقوع اشتباكات عسكرية بين هذه القوى، حيث أن أصولها العسكرية وقواعدها قريبة جدا من بعضها البعض.

فبعد حرب اليمن، سيكون لأي حروب في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي آثار اقتصادية ضارة على الاقتصاد العالمي الذي يكافح بالفعل للتعامل مع آثار جائحة "كوفيد-19".

المصدر | جيجوري أفتاندينيان/المركز العربي واشنطن دي سي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

القرن الأفريقي ساحل البحر الأحمر التنافس الإقليمي القواعد العسكرية مضيق باب المندب

المواجهة المقبلة بين الإمارات وأردوغان في القرن الأفريقي