سخافات تاريخ الصراعات

صراعات سخيفة المظهر لكن في جوهرها تمثل صراعات أعمق ودوافع أكثر واقعية.

لا يجب أن نبحث دائماً عن مؤامرة أو تخطيط عميق خلف الصراع قد يكون كلبا هاربا أو عقلا فارغا وراء الأزمة.

كانت صراعات عديدة عبر التاريخ تحدث ويذهب ضحيتها آلاف البشر نتيجة أهواء شخصية وسوء تقدير وعنجهية لا تعرف الحدود!

*     *     *

الصراعات السياسية والعسكرية عبر التاريخ كانت دائماً نتاجاً لسلسلة معقدة من الأحداث وتشابك في المصالح والتحالفات، ولكن هذا لا يعني أن جميع تلك الصراعات كان مبرراً، أو أنها جميعاً كانت نتاجاً مباشراً لحسابات المصلحة الوطنية أو الشخصية.

العديد من هذه الخلافات كان لأسباب سخيفة، أو على الأقل، كانت أسبابها المباشرة من التفاهة بمكان بحيث إنها سجلت موقعاً في التاريخ لسخافتها، ولكن في طيات تلك الأسباب السخيفة تكمن طبيعة العلاقات البشرية، الصراع الذي ينتظر أن يحدث، فعلى مر التاريخ يبدو أن هناك دائماً من ينتظر سبباً حتى يضحي بأرواح الآخرين.

في مطلع القرن السادس عشر تولى هنري الثامن الحكم خلفاً لوالده في إنكلترا، وحيث إنه كان واسع الطموح فقد أخذ في خوض العديد من المواجهات في الجزر البريطاينة وخارجها.

كان هنري مسكوناً بضرورة أن يكون لديه وريث لحكمه، دفعه ذلك إلى البحث عن طريقة لتطليق زوجته الأميرة الأسبانية كاثرين واستبدالها بها آن بولين، المشكلة الوحيدة في هذا القرار كانت أن الكنيسة الكاثوليكية، المحتكرة لحق إعلان شرعية الملوك الأوروبيين، لا تعترف بالطلاق!

بعد سلسلة من الأحداث وخلاف واسع مع البابا في الفاتيكان اختار هنري إعلان كنيسة إنكليزية مستقلة واضعاً نفسه على رأسها، هذه الكنيسة ما زالت موجودة اليوم وتمثل قطاعاً واسعاً من مسيحيي بريطانيا والمستعمرات البريطانية.

نتيجة لهذا القرار الجريء أعلن الفاتيكان قطع الصلة بالملك الإنكليزي، وبالتالي سقوط شرعيته الدينية باعتباره ملكاً على بريطانيا.  

على إثر ذلك خاض هنري العديد من المعارك أولاً للقضاء على المعارضين في كنائس إنكلترا ثم لمواجهة خصومه الأوروبيين الذين أرادوا اقتناص الفرصة، ولكن زوجته التي غير دين الشعب من أجلها لم تدم معه طويلاً، حيث أعدمها هنري كما أعدم العديد من أنصارها وأنصار كنيسته الجديدة.

مات الآلاف جراء رغبة هنري في زوجة تأتيه بوريث شرعي، ولكن هذا الوريث حكم حكماً قصيراً معتلاً بعد وفاته لتستمر السلالة في ابنتيه.

في أواسط القرن التاسع عشر ومع صعود نجم المستعمر البريطاني جرت أحداث حرب فريدة من نوعها كان سببها "الكيف"، كان من أهم الصادرات البريطانية إلى الصين في حينه الأفيون، هذا المخدر لاقى رواجاً كبيراً هناك ومثلت الأراضي التابعة لسلالة قينج الصينية سوقاً مثمرة لتجاره من الإنكليز.

بعد أن فطن الإمبراطور الصيني إلى الآثار السلبية الكبيرة على شعبه قرر منع تداول هذا العقار واستيراده، على إثر ذلك قام الأسطول البريطاني بقصف العاصمة وخاض حرباً شعواء انتهت باستسلام الإمبراطور وتنازله.

كما تم احتلال هونغ كونغ خلال هذه المواجهة والتي ظلت حتى تسعينيات القرن الماضي تحت التاج البريطاني، على الرغم من طبيعة المنتج إلا أن هذه المواجهة كانت تمثل تجسيداً للهيمنة الأوروبية على حركة الاقتصاد العالمي.

في عام 1925 دارت معركة حدودية بين اليونان وبلغاريا شارك فيها أكثر من 30 ألف جندي من الطرفين، انتهت المعركة باحتلال اليونان لأراضٍ بلغارية، ولم تتوقف الأعمال العدائية إلا نتيحة تدخل عصبة الأمم– المنظمة الدولية السابقة للأمم المتحدة التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى– كل هذا الصراع كان نتيجة كلب هارب!

تقول القصة إن كلباً يرعاه أحد الجنود اليونانيين ركض باتجاه الخط الحدودي الفاصل بين البلدين، والذي كان يشهد توتراً سياسياً، مما حدا بالجندي المحب لكلبه إلى تتبعه مع مجموعة من رفقائه عابراً الحدود.

وما أن شاهد الجنود البلغاريون دخول هذه الفرقة الصغيرة عبر الحدود حتى أطلقوا النار على أحد الجنود وأردوه قتيلاً، اليونان اعتبرت الحادث اعتداءً عليها وقامت بشن هجوم على الطرف البلغاري وكان ما كان، لا شك أن الخلاف الحدودي بين الطرفين لم يكن سببه هذا الكلب، ولكنه بلا شك أدى إلى هلاك عدد لا بأس به من الجنود على رأسهم صاحبه المسكين.

لا شك أن كل هذه الصراعات وغيرها وإن كانت سخيفة المظهر إلا أنها في جوهرها تمثل صراعات أعمق ودوافع أكثر واقعية، ولكن لا يجب أن نغفل أن العديد من الصراعات عبر التاريخ كانت تحدث ويذهب ضحيتها آلاف البشر؛ نتيجة أهواء شخصية وسوء تقدير وعنجهية لا تعرف الحدود، ولا يجب أن نبحث دائماً عن مؤامرة أو تخطيط عميق خلف الصراع، قد يكون كلبا هاربا أو عقلا فارغا وراء الأزمة.

* د. ماجد محمد الأنصاري أستاذ الاجتماع السياسي المساعد بجامعة قطر.