استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

عندما يختار الحاضر أسوأ ما في الماضي

الأربعاء 21 أكتوبر 2015 07:10 ص

لو أمعنا النظر في ظاهرة إصرار المجتمعات العربية على الالتصاق الشديد بتراثها فإننا سنصاب بالحيرة. ففي كثير من الحالات تختار تلك المجتمعات ذلك التراث الذي فرضه الاستبداد السياسي، عبر التاريخ العربي الإسلامي، من أجل مصالح سلطات الحكم، ومن أجل تطويع قوى المجتمعات، وبمباركة في أغلب الأحيان من قبل السلطة الدينية الرسمية. 

لكأن مجتمعاتنا توافق على أن يكون تاريخنا، وبالتالي تراثنا، ما رسمته ورعته سلطات السياسة الرسمية وسلطات الدين الرسمية. يصدق ذلك على تراثنا الفكري والفقهي والسياسي والثقافي، ويمثًل فصلاً حزيناً في التعامل مع تراث تميًز في بعض منعطفاته بألق الإبداع والتميز الإنساني.دعنا نأخذ، على سبيل المثال، تراثنا التربوي، سواء في منطلقاته النظرية أو أهدافه التربوية أو ممارساته التعليمية، لنرى كم أن الحاضر التربوي العربي لم يستفد من منجزات الماضي الإيجابية الحميدة. 

بعد الاحتكاك والتفاعل مع فكر وعلوم الحضارات الفارسية والهندية واليونانية طرحت مدرسة العقل، أي استعمال وتحكيم العقل في أمور الدين والدنيا، نفسها بقوة من خلال مجموعة كبيرة من الكتاب والفقهاء والفلاسفة، في مواجهة مدرسة النقل المكتفية باجترار نصوص وخطاب التراث الماضي، بدون تمحيص ولا طرح أسئلة ولا محاولة تجديد.

تاريخ صعود تلك المدرسة العقلية وتألُقها في عصر المأمون، خصوصاً مدرسة المعتزلة الشهيرة، وتاريخ تراجعها التدريجي، من خلال بطش السياسة بعد ذلك معروف، لكن ما يهمنا أن تلك المدرسة أنتجت ثقافة عقلانية وفكراً تربوياً تميزا بالغنى والحيوية، وقدما خياراً فكريا وثقافياً قابلاً للاستفادة منه في كل العصور.

في الجانب الثقافي الفكري أسسوا لمنهج الشك والابتعاد عن مسلمات التقليد، وأعطوا أهمية لطرح الأسئلة لتعريف المفاهيم ولتصنيف الأفكار، وفرقوا بين المعرفة التي حصروها في المعاني الجزئية وبين العلم الذي يتعامل مع المعقولات والكليات، وأعطوا مكانة لمعرفة أسباب وعلل الظواهر الإنسانية.

وأفسحوا مكاناً للتجريب للوصول إلى الحقائق العلمية، ومجدوا أهمية التنوع والاختلاف والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، إذ يجد الإنسان قمة ذلك التوجه في قول شهير قاله أبوحيان التوحيدي: «إنني لأعجب من ناس يقولون كان ينبغي أن يكون الناس على رأي واحد ومنهاج واحد، وهذا ما لا يستقيم ولا يقع به نظام».

ما كان لتلك الثقافة الفكرية العقلانية إلاً أن تقود إلى فكر تربوي عقلاني جديد في مواجهة فكر تربوي تلقيني كان يسود تلك المجتمعات. من أبرز تلك الأفكار التربوية:

ـ إعلاء وظيفة المدرسة التربوية، التي تعنى بالنمو والسمو في الحياة الإنسانية، من خلال تنمية قدرات الفرد العقلية والنفسية، وتجعله فرداً مستقلاً في جماعة، على وظيفة المدرسة التأديبية التي تقمع شخصية الفرد وتصوغ عقله ومشاعره وسلوكه، حسب إملاءات مؤسسات السيطرة والكبار في المجتمع.

ـ نفي التعارض بين الحكمة والفلسفة من جهة، وبين الدين من جهة أخرى، التي لخصها الفيلسوف الكندي في قوله بأن « صدق المعارف الدينية يعرف بالمقاييس العقلية» .

ـ نادوا بأهمية تثقيف العامة والانفتاح على علوم وثقافات الآخرين وبالتسامح الفكري وبضرورة الاختلافات في الفكر والمعتقدات.

ـ أبرزوا الأهمية القصوى للوظيفة الاجتماعية للتربية كمدخل لإصلاح الاجتماع الإنساني وتحكيم العقل في مسار شؤونه. ومن هنا رفضوا المقولات التي كانت تحصر العلوم بعلوم الدين فقط، بل ربطوا العلوم بتهيئة الناس للمهن والصنائع والمعيشة اليومية، عندما ربط ابن خلدون التربية بالعمران والاجتماع البشري وبإصلاح السياسة.

لقد طرح ابن خلدون فكرة «إثبات ملكة العلم في نفوس المتعلمين»، أي حب العلم لذاته والقدرة على التعلُم مدى الحياة. ومن هنا رفض ابن خلدون قسوة التعامل مع الأطفال التي تقود إلى انحرافهم السلوكي، ورفض حشو عقول المتعلمين بالمعلومات التي لا نفع منها، وشدد على أهمية التدرج في التعليم والأخذ بعين الاعتبار قدرات الطالب.

تلك أمثلة منتقاة من تراث تربوي هائل فصله المرحوم الدكتور محمد جواد رضا في كتابه «العرب والتربية والحضارة».

نعود فنطرح السؤال مرة أخرى: لماذا لم يستفد الحقل التربوي العربي من ذلك التراث الثقافي والتربوي المبهر، الذي يتلاءم كلياً مع أفضل التوجهات التربوية الحديثة، لينتج مدرسة تخرج بشراً عقلانيين، قادرين على طرح الأسئلة، ملتزمين بقضايا مجتمعاتهم العادلة، مستعملين وسيلة الشك للوصول إلى اليقين، قادرين على التعلم الذاتي، متسامحين مع الآخرين المختلفين؟

والجواب هو أن سلطات السياسة والفقه المتزمت الخادم للسلاطين، فرضا عبر العصور مدرسة التلقين والتقليد وتقديس الماضي. ومع الأسف فإن حقل التربية العربي الحديث لم يرد أن يتعب نفسه ويختار مدرسة المفكرين والمجددين، بدلاُ من المدرسة المفروضة من قبل سلطة الخلافة وغريمتها سلطة الفقه المتخلًف الخائف من أنوار العقل.

لو أنطلقت التربية العربية الحديثة من التراث الفكري التربوي العقلاني الإنساني ذاك، وأضافت إليه منجزات العصر التربوية لكانت المدرسة العربية والجامعة العربية اليوم بألف خير.

٭ د. علي محمد فخرو مفكر وسياسي بحريني

  كلمات مفتاحية

المجتمعات العربية التراث العربي الاستبداد السياسي التاريخ العربي الإسلامي التربية

قضايا الحاضر لا تكفيها اجتهادات الماضي