استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

العلمانية مُنْتَج وسياق غربي: بحثا عن نموذج عربي بديل

الاثنين 7 يونيو 2021 11:30 ص

العلمانية مُنْتَج وسياق غربي: بحثا عن نموذج عربي بديل

الشريعة عموما ليست مشروعاً سياسياً أو أيديولوجيا قانونية رغم تضمنها مبادئ قرآنية توجيهية وممارسات نبوية عديدة تحكم السياسة.

ثمة أنماط مختلفة للعلاقة بين الدين والدولة يمكن أن تكون صحيحة معيارياً تبعاً لعامل رئيس: درجة قطعية وتفصيل النصوص المعنية.

هذه العلاقة ليست ناموساً عالمياً جامداً وعابراً للمكان والزمان بل ينبغي تبني النهج الشمولي غير انتقائي أو اختزالي في فهم وتطبيق نصوص الحوكمة العامة.

لا لنظرة علمانية ترى الدين والسياسة منفصلين أو النظرة الشيعية والثيوقراطية التي تراهما متطابقين وأن القرآن "كتاب سياسة" والإسلام "أيديولوجيا سياسية"!

السلطة لها دور هام في النموذج القرآني لكنه غير مهيمن بل مسهّل للعمران وداعم للهوية والنظام العام والدولة كمعيار نموذجي دولة مدنية صغيرة الحجم لكنها فعالة وطموحة.

*     *     *

بعيداً عن التحزب والتسييس والشخصنة والإنتقائية، يهدف هذا المقال الى استكشاف، من منظور معاصر وديناميكي، طبيعة وأساسيات العلاقة بين الدين من ناحية، وبين الدولة الوطنية المعاصرة في عهد كورونا والأزمات الوجودية والتراجيدية متعددة الأبعاد، من ناحية أخرى.

فما هي مساحة السياسة والحوكمة العامة في القرآن الكريم؟ هل يتباين عمق هذه المساحة حسب درجة التفصيل والقطعية في نصوص الشريعة؟

هل يمكن أن تخلو نصوص القرآن ومقاصده العامة من أية مضامين "سياسية" تنظم الشأن العام على أسس من الحكمة والشورى؟

ألا تشمل الهداية القرآنية والنبوية أساسيات الشأن السياسي في الشورى والتعاون والتنافس والطاعة والعمارة وغيرها؟

أليست السياسة والحوكمة مؤثر جوهري في مصائر الأمم وأفولها وتطورها؟

ألم يجمع العديد من الأنبياء بين النبوة والملك وبين سلطة الضمير وسلطة القانون؟

ما المرجعية المعرفية في  بناء العمران بعد إقصاء الدين في ضوء مضامين مذهب الشك الأخلاقي  الغربي والمغالطة الطبيعية؟

لماذا نسمح لدين العلمانية -الخشنة أو الناعمة- باقتحام بطن الدولة وممنوع ذلك على القطعيات المحدودة للدين السماوي؟

في المقابل، هل الإسلام مشروع "سياسي" أو أيديولوجيا سياسية بالأصل؟ هل العلاقة بين الدين والدولة هي صيغة جامدة في القطعيات والظنيات والمسكوت عنه على حد سواء؟ أليست التعددية البناءة هي من سنن الله الوجودية؟

أليس فقه الواقع وتعقيدات السياق جزء من السياسة الشرعية؟ هل اليوتوبيا القرآنية قائمة على التشريع الحكومي الملزم بشكل رئيسي؟ أم تستند الى التزكية والتربية والأخلاق وتغيير ما بالأنفس، دون تجاهل التشريع والسلطان؟

هل تتضمن آيات وأحاديث الأحكام، والقصص القرآني، نصوصاً سياسية تفصيلية أم مبادئ وقواعد عامة تتطلب التطبيق البشري والشوري الحصيف؟

هذا المقال يرفض النظرة العلمانية التي ترى بأن الدين والسياسة منفصلان، ويرفض أيضاً النظرة الشيعية والثيوقراطية التي ترى أنهما متطابقان، وأن القرآن "كتاب سياسة" والإسلام هو "أيديولوجيا سياسية" أساسا، مهما عرّفنا هذه التعابير.

قضية هذا المقال هامة ومعقدة ووثيقة الصلة بالواقع العربي المعاصر الذي يجمع بين التعطش للدولة والريبة منها في آن واحد (سلامة، 2019) ويشهد تغولاً للسلطة  .(Ayubi, 1995) ويدرك المقال أيضاً حدود إسقاط مفاهيم معاصرة على نصوص شرعية وتجارب سابقة.

فالإجابة الموضوعية لأسئلة المقال تقتضي توفر: تصور موضوعي ومتوازن لبنية القرآن الكريم وموضوعاته الرئيسية (توحيد وتزكية وسنن وأحكام) ومقاصده الخمسة العامة (حفظ الدين والنفس والعقل…) من ناحية، وتصور متفق عليه وموضوعي لمفهوم "السياسة" من ناحية أخرى.

والأمر الأخير قد يتعذر حتى في أدبيات النظرية السياسية المعاصرة. ومما يزيد الوضع تعقيداً أن الحياة الواقعية تتسم بالتداخل والحدود المتغيرة بين ما هو “سياسي” وما هو "غير سياسي" (Valeri, 2010)). مثال: هل المسجد مؤسسة أخلاقية دينية أم اجتماعية سياسية أم كل ما سبق؟

لنبدأ بمحاولة تعريف "السياسة". إذ توفر النظرية السياسية الحديثة محاور أساسية لكن متباينة للسياسة، بدءاً من التصورات الأعم التي تشمل: اتخاذ القرارات الجماعية وتعزيز الهوية والتضامن الاجتماعي وتوسيع الفضاء العام سعياً لحياة أفضل، وانتهاء بتصورات ضيقة تحصر السياسة في ممارسة القوة واحتكارها (في الأنظمة السلطوية).

التعريف الأول يقترب من الحوكمة العامة بمفهومها الحديث حيث تلتقي الدولة والمجتمع والسوق لتحقيق الغايات العليا. وما بينهما هنالك أيضاً من يعرّف السياسة بتسوية النزاعات والمصالح المتناقضة بشتى السبل، وآخرين ببناء الدولة والمؤسسات الحكومية الرسمية.

وأخيراً هنالك من يعرّف السياسة بـ"التخصيص السلطوي للقيم على مستوى المجتمع ككل" (تعريف ديفيد ايستون)، و"السياسة تحدد: من يحصل على ماذا، ومتى، وكيف؟" (تعريف هارولد لاسويل). هذا التفاوت الواسع في التعريفات جعل البعض ينظر الى السياسة باعتبارها مفهوماً خلافياً.

ان تبيان الترابط بين تصورات السياسة -حسب مفاهيمها الحديثة المتباينة أعلاه وغيرها- وبين قطعيات القرآن الكريم يتطلب بحثاً مستقلاً ومطولاً. لكن هذا لا يمنع بعض الاشارات الهامة.

يؤكد القرآن على مبدأ الشورى والتواصي بالحق، وعلى عصمة الأمة ككل عن الخطأ، وهذا يشكل إجابة واضحة على تساؤل المفكر السياسي المشهور روبرت دال "من يحكم؟"؟ على الأقل من منظور معرفي يقود الى الحوكمة الرشيدة والصالح العام.

كما ان القرآن ربط في إحدى سننه الربانية بين غياب التدافع المشترك بين الناس وبين الفساد في الأرض، وكذلك بين العلو في الأرض وبين الفساد: “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (القصص: 83).

فهل يختلف هذا الربط السببي عن مضامين نظرية تعديل الفرقاء Partisan Mutual Adjustment في علم السياسة المعاصر وتحليل السياسات العامة، وعن مقولة السياسة المشهورة: "السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة"؟

ويمكن لعملية إدارة النزاع والإختلاف داخل المجتمعات ان يهيمن عليها آلية فرض النظام بالقوة التهديدية كما في النظم الاشتراكية البائدة، ويمكن ان تتم بالمنافسة السياسية بما فيها التداول السلمي للسلطة كما في النظم الديمقراطية التعددية، ويمكن ان تكون من خلال بناء السياسات العامة على الخير المشترك والقيم الموضوعية المشتركة ضمن الفضاء العام:

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) و{وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران: 103) و{وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9) و"ألا أنبئكم بخير أعمالكم: اصلاح ذات البين"، ولا ننسى أيضاً دستور المدينة المنورة في مجتمع المدينة متعدد الأديان وغيرها. أليس الدين هو من عالج حروب الجاهلية بين داحس والغبراء وبين الأوس والخزرج وحروب الفجار والبسوس.

وعلم الاقتصاد– دُرّة العلوم الاجتماعية– يؤكد ضمن أحدث نظرياته حول إخفاق الأسواق والحكومات على حاجة المجتمعات المعاصرة الماسّة الى القيم المشتركة وإلى "الخير المشترك" لحل مشكلة النظام العام في مواجهة الفشل المزدوج في كل من السوق والدولة.

كما إن العديد من آيات وأحاديث الأحكام هي ذات صلة بالحوكمة العامة، لكن بدرجات متفاوتة في التفصيل. فمثلاً الزكاة هي مؤسسة مركزية تقوم بتخصيص الموارد بناء على أحكام وأولويات منصوص عليها لكن ضمن لغة مجملة (من هو الفقير؟)، وبالتالي أليس نظام الزكاة إذن هو "سياسة" أو لنقل: اقتصاد سياسي؟

وأخيراً، لم يستطع الفكر السياسي الوضعي أن يوفر تعريفاً موضوعياً وحاسماً ل "الخير المشترك" للمجتمع، فهل ستوفر أدبيات السياسة الشرعية تصوراً موضوعياً وعملياً لهذا المفهوم الهام في عصر الأزمات متعددة الأبعاد التي تعصف بالدولة الوطنية؟

في المقابل، فان الشريعة عموماً هي ليست مشروعاً سياسياً أو أيديولوجيا قانونية، رغم تضمينها مبادئ قرآنية توجيهية وممارسات نبوية عديدة تحكم السياسة. هذا يمكن استنتاجه من خلال الإحاطة ببنية القرآن الكريم ومواضيعه الرئيسية.

إذ يركّز القرآن على الإيمان والتوحيد وعلى تزكية النفس البشرية والتضامن المجتمعي والتفكر وعلى سنن الله الكونية والإنسانية وليس على القانون الحكومي والسلطة والبيروقراطية.

لكن للهندسة الاجتماعية الرحيمة والشورية مُساهَمَة كامنة في بناء المجتمعات (أنظر مقال الكاتب: الهندسة الاجتماعية في القرآن: النبي يوسف والخضر أنموذجين). ومن الغلط الربط دوما في الألفية الثالثة بين التدخل الحكومي وبين التشريع الملزم، كما كان الوضع في القرن التاسع عشر!

نعم، السلطة لها دور هام في النموذج القرآني لكنه دور غير مهيمن، بل مسهّل للعمران وداعم للهوية وللنظام العام، والدولة كمعيار نموذجي هي دولة مدنية صغيرة الحجم لكنها فعالة وطموحة (سويدان، 2021)، وذات اقتصاد لامركزي يعتمد على السوق وبعبء ضريبي محدود، وتدابيرها التشريعية والمالية عند الحد اللازم لضروريات الحياة وعدلها، رغم ان الحجم الأمثل وطبيعة التدخل يخضع للسياق الزماني والمكاني ولتقدير الأمة ككل ممثلة ببرلمانها المنتخب بحرّية كاملة.

ويقوم بتكميل دور الدولة الهام في تحقيق الرخاء والبقاء للمجتمع الإنساني كل من: القطاع الخاص الخاضع لقانون حصيف للمنافسة ومنع الإحتكار ولتشريعات النزاهة ومنع الفساد، وقبل ذلك الأمة والمجتمع المدني والبرلمان والأسرة والإعلام الرقمي والتناصح والدعوة ومؤسسة الوقف والأخلاق الاجتماعية ورأس المال الاجتماعي وغيرها.

وأختم بالقول، أن أنماطاً مختلفة للعلاقة بين الدين والدولة يمكن أن تكون صحيحة معيارياً تبعاً لعامل رئيسي على الأقل هو: درجة قطعية وتفصيل النصوص المعنية. فهذه العلاقة ليست  ناموساً عالمياً جامداً وعابراً للمكان والزمان. وفي كل الأحوال، ينبغي تبني النهج الشمولي غير الانتقائي وغير الإختزالي في فهم وتطبيق نصوص الحوكمة العامة.

* د. جمال الحمصي أكاديمي باجث في الاجتماع والاقتصاد الإسلامي.

المصدر | رأي اليوم

  كلمات مفتاحية

العلمانية، الغرب، الدولة، الدين، النهج الشمولي، الإسلام، القرآن، السلطة، العمران، السياسة، اقتصاد،