استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

التعاقد الاجتماعي: الصيغة المفقودة من مفهوم الدولة الخليجية

الأربعاء 23 يونيو 2021 08:13 ص

التعاقد الاجتماعي: الصيغة المفقودة من مفهوم الدولة الخليجية

من خلال ترشيد مبدأ الغنيمة السائد قبليًا عبرت المشيخات من النظام القبلي إلى "الحكم القبلي"!

أوجد الشيوخ وبيوت الحكم بالخليج قيم تعاقد اجتماعي تقليدي لإبقائهم بالسّلطة وتحلّلهم من أية قيود سياسية.

هل ثمة عقد اجتماعي غير معلن قائم على انعدام الحريات السياسية مقابل حصة من الثروة النفطية: وظائف ودعم محروقات وغذاء وسكن وامتيازات اجتماعية مدعومة من الدولة؟

*     *     *

منذ فترة ليست بالقصيرة أخذ الحديث عن حاجة بلدان الخليج العربية إلى عقد اجتماعي جديد مسارا جدّيا في أروقة مكاتب المؤثرين في السياسات العامة للمنطقة. فالوفود السياسية المعارضة لأنظمة الخليج وجدت في أجندة الادارة الأمريكية ما أطلقت عليه "وثيقة الحزب الديمقراطي بالتحديث السياسي في منطقة الشرق الأوسط".

يأتي هذا الحديث بعد عقدين من مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط الذي عكفت إدارة الحزب الديمقراطي على تنفيذه، ورشح عنه وقتها تسهيل استلام جيل جديد من الحكام يمكن التعامل معه لإحداث الإصلاح السياسي المعطل منذ عقود.

في السياق ذاته يبدو أنّ وفود المعارضات الخليجية وجدت في رحيل ترامب عن البيت الأبيض، الفرصة التاريخية الملائمة لإعادة الحديث عن مسألة “العقد الاجتماعي الجديد”، والانتقال بالهياكل السياسية المترهلة إلى ما يمكن تسمتيه بـ"البدايات العقلانية" لتشكيل الممالك الدستورية.

معوقات البدايات العقلانية

كان العقد الأول في بداية الألفية الثانية حافلا بمشاريع الانتقال الديمقراطي، وأحدثت المباردات والضغوط الدولية مجموعة واسعة من التغيرات السياسية التي قيل عنها أنها ستكون إصلاحات واعدة، وربما سيكون سهلا بعد عقد أو أكثر بقليل الانتقال بالأنظمة التقليدية إلى أنظمة ملكية دستورية تعزز مبادئ الشراكة السياسية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وتتيح الفرصة لتوزيع عادل للثروة، فضلا عن تأسيس البنية الأساسية لما شاع وقتها بالحكم الرشيد.

بعبارة أخرى كان الأمل يحدو الجميع بأن تكون أنظمة الحكم في المنطقة أنظمة تقوم على "العقلانية" بدلا من "الهيبة والنفوذ والحظوة".

سريعا بدأت المشاريع الديمقراطية بالتعثر والانهيار، وفقدت قوة الضغط الدولية مفعولها أمام تصلّب بيوت الحكم في الخليج، وقوة وصلابة الممانعة لتفعيل "البدايات العقلانية" لأيّ إطار سياسي أو عقد إجتماعي يتجاوز ما تفرضه “بيوت الحكم” من علاقات داخل الدولة.

 البحرين دخلت بعد سنة من ميثاق العمل الوطني في أزمة دستورية طاحنة قادتها إلى أزمة مدمرة وقاسية في 2011، وهي مستمرة بكل تأثيراتها السلبية حتى الآن.

السعودية التي بدأت مع الملك الراحل عبدالله مشروعا وطنيًا وجدت نفسها أمام تصدع داخلي وصراع علني على الحكم قادها إلى التورط في حروب إقليمية مدمرة لقيادتها العالم الإسلامي وبالتالي إضعاف المملكة من الداخل والخارج.

الكويت بدورها عجزت عن تطوير منظومتها السياسية رغم الوعود بتطويرها منذ ستينيات القرن الماضي.

هذه المشهدية المضطربة تطرح التساؤل حول جدّية وإمكانية التوصل لنتائج مثمرة عند الحديث عن عقد إجتماعي جديد لدول المنطقة، ويعيد السؤال أيضا حول فاعلية الضغط الدولي على بيوت الحكم وفرص تثبيت "البدايات العقلانية" للإنتقال الديمقراطي.

دون أدنى شكّ، هناك حاجة ضرورية بل ومصيرية لأن تتخلّص مجتمعات الخليج العربية من بقايا العقد الإجتماعي التقليدي القائم على مبادئ الهيبة والنفوذ وأنظمة الامتياز، وأن تتنقل الهياكل السياسية إلى اعتماد مبادئ الشراكة السياسة والمواطنة المتساوية والعدالة السياسية.

هذه الحاجة تتلمسها المجتمعات المغلوب على أمرها حاليًا والتي تكاد توشك على الموت سياسيًا بحكم الممارسات السلطوية والفساد السياسي المعمول به في "بيوت الحكم"، لكنّها في المقابل لا تمثّل حاجة مقنعة لحكام الخليج بسبب القدرة الواسعة والكبيرة على استقلال بيوت الحكم وبالتالي الدولة عن المجتمعات.

تهيمن العائلات الحاكمة بشكل كلّي على توزيع الثّروات الوطنية وتحتكر عقود الامتياز الخاصة بعوائد الدّولة وتصريفها.

وفي الوقت ذاته، لا تبدو بحاجة لقوة عسكرية وطنية نظرًا لاعتمادها شبه الكلي على توظيف جنود أجانب أو دخولها في أحلاف عسكرية إستراتيجية مع قوى كبرى تضمن لها أمنها الخارجي لتكون في راحة لمواجهة الأمن الداخلي وقمع أي حراك سياسي أو مدني يهدد أنظمة العلاقات السائدة.

بل حتّى قوة العمل التي تعتبر عنصر القوة الأكبر لدى المجتمع أصبحت في منطقة مستقلة نوعا ما بحكم الأعداد المرتفعة لقوة العمل الاجنبية لدرجة تهديد الشكل الديمغرافي للمجتمعات من جهة وهيمنة الإقتصاد الحرّ وتشجيع الإستثمار الأجنبي المفتوح من جهة ثانية.

عبثية الأنظمة الزبائنية

في الصيغ القديمة لمجتمعات الخليج كانت البيعة القبلية تمثل عقدا إجتماعيًا ينظم علاقات شيخ القبيلة بالأفراد المنطوين تحت سلطته، وبموجب هذا العقد يتوجّب على شيخ القبيلة توفير الأمن الإقتصادي للأفراد والأمن السياسي للمكان، كما يتوجّب على الأفراد أن يظهروا الطاعة والولاء والتسليم للشيخ الحاكم.

ليس مهما هنا بحث شكل العلاقة تلك أو محاولة تصنيفها وتبيان قوتها وضعفها، بقدر التأكيد على وجود تعاقد إجتماعي ذو طبيعة محدّدة. بموجب هذا العقد تتحدّد التّوقعات من الأفراد ومن الحاكم كما تتحدّد الأدوار والاستراتيجيات فضلا عن تخطيط دقيق لتوزيع القيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

هذه الصيغة من التعاقد الاجتماعي تعرّضت شأنها شأن أغلب الصّيغ التقليدية إلى التّفسخ والإنهيار مع بروز الحداثة السياسية في القرن التاسع عشر، الأمر الذي جرّ معه اختلالا في التوقعات السياسية والاقتصادية من الأنظمة السياسية القائمة، خصوصا وأن الاستعمار بصوره المتعددة أصبح فاعلا رئيسا في الشؤون الخارجية والداخلية وتحوّل الشيخ الحاكم إلى وكيل مناوب وضامن لمصالح دول الرعاية.

في عام 1820 أبرمت بريطانيا اتفاقيات الحماية البحرية مع جميع المشيخات الخليجية وأفقدت الشيوخ سلطتهم الخارجية وقلصت الداخلية.

في أقل من ثلاثين سنة وتحديدًا في عام 1867 حاصرت السفن البريطانية ميناء المنامة وخلعت بالقوة شيخ البحرين محمد بن خليفة وعيّنت مكانه حاكما آخر هو عيسى بن علي الذي كان يعيش في قطر هربًا من الحرب الأهلية بين فروع آل خليفة.

المدهش أن القوة البريطانية نفسها تدّخلت أيضًا عبر حصار عسكري لجزيرة البحرين بعد خمسين عامًا لعزل عيسى بن علي وتعيين نجله حمد بن عيسى.

أدّى التدخل البريطاني في شؤون المشايخ إلى فرط التعاقد الاجتماعي التقليدي، وإحلال التعاقد الاستعماري بدلًا عنه وكان بإمكان الوكيل البريطاني والمقيم السياسي، تحديد التوقعات السياسية والاقتصادية ليس للأفراد فقط بل حتى للشيوخ أنفسهم.

لهذا كانت مراسلات الشيوخ مع البريطانين تركّز في أغلبها على ضمان التفوق والنفوذ للشيخ الحاكم وضمان الاستمرار في قيم العقد الاجتماعي التقليدي القائمة في الوضع الاستثائي للشيخ الحاكم واستنثاء عشيرته وعائلته والموالين له.

عمليًا، فقدت المجتمعات الخليجية صيغة التعاقد الإجتماعي طوال فترة هيمنة الاستعمار البريطاني الذي انتهى رسميًا مع نهايات ستينات القرن الماضي، أي قرابة 150 سنة، كانت المنطقة أثناءها مضطربة في ذاكرتها السياسية وعلاقاتها الداخلية نتيجة افتقاد أيّ صيغة بديلة عن العقد الاجتماعي التقليدي.

في الوقت الذي كان شيوخ مشيخات الخليج يرتبطون بعقد خاص مع بريطانيا، كانت القوى المجتمعية تبني نفسها على خلفية متغيرات العصر الحديث وتنشئ توقعاتها السياسية على أرضية مختلفة تمامًا عن عقلية الشيوخ والبريطانيين معا.

ومن ثم أصبحت المجتمعات الخليجية تؤسّس لنفسها إطارا جديدا لعقد اجتماعي جديد ينهي حالة الاضطراب السّياسي الناتج من الهيمنة البريطانية ويضع حدودا لسيطرة القيم القبلية التابعة لنموذج المشيخة واستبداله بنموذج الدولة الحديثة.

حيث تصبح مسألة إعادة صياغة العلاقة بين الدولة ومواطنينها عبر أدوات سياسية حديثة كالدستور والديمقراطية والمشاركة في المؤسسات السياسية أو الحكومية.

هذا المشهد المعقد ازداد تعقيدًا مع الثروة النفطية واستراتيجيات "بيوت الحكم" في توزيع الثروات الإقتصادية والقيم السياسية، وبطريقة ما استطاعت النخب الحاكمة أن توجد لنفسها مساحة مستقلة عن الدولة وعن المجتمع معا، وبقي عليها أن تخوض صراعا متباين الدرجات مع القوى المجتمعية وتوقعاتها. وهذا لم يكن سوى مشهد من مشاهد الصراع على السلطة ولعبة الاستئثار بها واستقلالية النخب الحاكمة ونبذها لفكرة العقد الاجتماعي.

عمليًا وسياسيًا، إستطاعت بيوت الحكم – الشيوخ سابقًا – أن تؤسس كيانات مضطربة المضمون هجينة الهيكلية قوية في السيطرة والقدرة على البقاء دون الاستعانة بمقوّمات البقاء والاستمرار الحديثة. هذا الوضع المفارق والغريب، دعا العديد من الباحثين لإثارة سؤال بقاء الأنظمة الخليجية بهذه التركيبة الغريبة وقدرتها على ممانعة إنشاء التعاقد الاجتماعي الذي تبني عليه الدولة الحديثة.

من جهة أكثر أهمّية فنموذج الدولة الذي تأسس منذ الاستقلال يقوم على فكرة استقلال النخب الحاكمة عن الدولة وعن المجتمع وإرجاء أي حديث عن أي عقد اجتماعي. وهذا يمكن ترجمته بإقصاء المجتمع أو المواطنين من المشاركة في وضع التدابير والسياسات الخاصة بالمجتمع والدولة، والتحكم بمستوى الحريات العامة والنقد الموجّه للنخب الحكومية، مقابل تركيز وترسيخ استقلالية النخب الحاكمة وفرض هيبتها وشرعيّتها الخاصة.

معنى هذا الحديث أن "بيوت الحكم" لا تجد نفسها ملزمة بفتح أي حديث عن “عقد إجتماعي” جديد يلغي بقايا العقد الاجتماعي التقليدي عندما كان الحكام يديرون مشيخات صغيرة بأعراف قبلية وبنظام غنائمي صارم. تظهر محاججة  “بيوت الحكم” بشأن عرقلة "البدايات العقلانية" للانتقال الديمقراطي سذاجة سياسية وفهمًا قاصرًا عن متغيرات العالم الحديث، بل أن تلك المحاججة تبدو مضللة وإغرائية لتفضيل النظام الزبائني على أنظمة الدولة الحديثة.

أوجد "الشيوخ" و"بيوت الحكم" في الخليج قيم التعاقد الاجتماعي التقليدية بغرض بقائهم في السّلطة وتحلّلهم من أية قيود سياسية، فمن خلال ترشيد مبدأ الغنيمة السائد قبليًا عبرت المشيخات من النظام القبلي إلى "الحكم القبلي" بتعبير اسحاق خوري، واستطاعت هذ النخبة الحاكمة أن تنتقل بالقبيلة إلى "القبيلة السياسية" بتعبير خلدون النقيب.

وأصبح من اللّافت القبول بأن هناك "عقد اجتماعي غير معلن قائم على قبول انعدام الحريات السياسية مقابل الحصول على حصة من ثروات البلد النفطية من خلال الوظائف الحكومية ودعم المحروقات، والغذاء، والسكن وغيرها من الامتيازات الاجتماعية المدعومة من قبل الدولة".

إلا أن هذا القبول المتوافق عليه لم يلحظ التعارض الداخلي بين طبيعة العقد غير المعلن "دولة الرعاية/ مقابل الصمت السياسي" وطبيعة النظام السياسي العالمي والنظام الاقتصادي القائم على فكرة السوق المفتوحة، وما يقوم عليه من مرتكزات أصيلة تخدم فكرة البقاء للأقوى وتوحش الإقتصاد العالمي بحيث ينهي فكرة الرعاية نفسها وتصبح الدولة مكشوفة أمام الخصخصة وشحّ الموارد.

* عباس المرشد باحث سياسي بحريني

المصدر | البيت الخليجي للدراسات والنشر

  كلمات مفتاحية

الدولة الخليجية، العقد الاجتماعي، التعاقد الاجتماعي، البدايات العقلانية، القبيلة السياسية، النظام السياسي، الحكم القبلي، الشيوخ، بيوت الحكم، الأنظمة الزبائنية،