استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

زمـن الجـراح

الأحد 1 نوفمبر 2015 01:11 ص

من الوثيقة برز زعيم منهك ومليء بخيبات الامل. عندما أعلن أمام الكاميرات بان النصر قريب كان بوسعك أن ترى كيف يعبر وجهه عن الشك بما تقوله شفتيه نفسه.

كان هذا قبل اسبوعين، وابو مازن خرج الى الجمهور لاول مرة منذ اندلعت موجة السكاكين وقال كلمته. وفي اسرائيل سيتذكرون الخطاب بفضل الصورة الكبرى. صورة الطفل ابن الـ 13 من بيت حنينا، يرتجف وينزف على الارض بعد ان شارك في عملية طعن في بسغات زئيف. وقد عرضها ابو مازن امام الكاميرة وادعى بان الطفل عدم على ايدي الاسرائيليين، دون ان يذكر حتى بكلمة هدف وصوله الى هناك. الطفل، "أ" اصيب بجراح متوسطة، نقل الى مستشفى في اسرائيل وشفي. وهذا الاسبوع صعد مرة اخرى الى العناوين الرئيسة. هذه المرة في قاعة المحكمة، يبتسم في كل صوب.

ولكن الخطاب الذي بث جدير بان يذكر لاسباب اخرى. الى الكاميرة نظر الينا زعيم منهك، في اواخر حياته السياسية، يعرف ان مهمته العليا فشلت. رئيس لن يكون هنا في المستقبل المنظور، وسعيه لان يحقق لشعبه دولة مستقلة وعاصمتها شرقي القدس لن تقوم في ولايته، ومشكوك أن تقوم في حياته.

شخص في بداية العقد التاسع من حياته، تصممت روحه السياسية في سنوات الثورة العاصفة للعصر السوفييتي، والان يشق بصعوبة طريقه في العالم الرقمي. هجره الشباب في صالح العمليات الانتحارية، وعندما جاء ليعيدهم الى الديار، اخذوا يهزأون به ويدعون بانه لا يمثلهم. زعيم ركل من الجارة القاضمة اسرائيل، والتي ترى فيه شريكا فقط عندما يتعلق الامر باحتياجاتها الامنية. تبين له ان مصر التي في الماضي رأت فيه ابنه المدلل، تعتبره اليوم لجوجا وتنتظر لحظة اعتزاله. وزعيم يبحث عبثا عن مساواة لدى الامريكيين، ولكنه يجدهم المرة تلو الاخرى مشوشين في البحث عن مخرج من الورطة، ذاك المخرج الذين هم انفسهم لا يعرفون حقا ما هو.  

هجمة القتل التي تعربد هنا منذ شهر ليست – خلافا للانتفاضة الثانية – مواجهة دموية بين دولة اسرائيل وجيشها وبين السلطة الفلسطينية، بل هجمة الشارع الفلسطيني على الشارع الاسرائيلي. في صراع القوى هذا مكان السلطة في جانب اسرائيل. كلتاهما تتعاونان معا ضد الشباب الفلسطيني في محاولة لقمعه. ليست محبة صهيون هي التي تحرك ابو مازن وقادة جهازه الامني، بل تصويت عدم الثقة به من جانب الجيل الشاب. ففي خروجهم الى عمليات القتل يقولون له- فشلت يا رئيس، حرصت على أن تكون لطيفا مع الاسرائيليين، وتركتنا وحدنا في المعركة.

انتفاضة القدس

هذه الازمة ليست فقط واحدة من لحظات الدرك الاسفل في العلاقات الملتوية بين اسرائيل والفلسطينيين، بل وايضا المفترق الذي يؤشر الى نهاية عصر محمود عباس. حتى لو استغرق هذا سنة، وربما أكثر، الرئيس الفلسطيني، ابن 80 استنفد قدراته وصعد الى مسار الاعتزال. التطور الوحيد الذي يمكن ان يعيده الى موقف الزعامة هو اختراق حقيقي في المسيرة السلمية. واحتمال مثل هذه الخطوة قليل جدا في ولاية الحكومة الحالية في القدس، بينما تحوم عاصفة في المحيط.

احترامه محفوظ لدى الفلسطينيين وزعماء العالم. وهو سيذكر كالزعيم الفلسطيني الذي نال العطف الاكبر لدى الاسرة الدولية. الرجل الذي اخرجهم من الخراب الى الاستقرار، الذي لم يكف عن الترويج للكفاح غير العنيف حتى في اللحظات الاكثر صعوبة مع اسرائيل. ولكن ابو مازن سيذكر ايضا كمن عمل بكل جهد، على مدى اكثر من عقد، على تحقيق حل دائم وعلى المس بالمشروع الاستيطاني – ولم يقترب حتى الى هوامش عباءة هذا الهدف.

احدى اوراق الموقف الاكثر تشويقا عن آخر ما يتعلق بمكانة ابو مازن كتبها البروفيسور مناحيم كلاين من جامعة بار ايلان. ففي مقالين نشرهما مؤخرا الواحد تلو الاخر يقول كلاين ان ابو مازن فقد المجتمع الفلسطيني حتى قبل عمليات القتل. ويعتقد كلاين بان في زمنه ليس فقط لم يتقدم المجتمع الفلسطيني الى الامام، بل تراجع الى الوراء.

الباحث الاسرائيلي، من متصدري مبادرة جنيف، وجد أنه في عصر سلفه، ياسر عرفات، تمتع المواطن الفلسطيني بمظاهر اوسع من الديمقراطية وحريات الفرد. ومنذ انتخب ابو مازن لمنصبه قبل 11 سنة، لم تجري مرة اخرى انتخابات للرئاسة، تجمدت الحياة البرلمانية وتخوض السلطة حملات مطاردة للمعارضين. وبغياب السلطة التشريعية، وضع مكتب الرئيس في رام الله نفسه كمقرر للقوانين. لم ينجح ابو مازن في ان يجند لصالحه المجتمع الاسرائيلي كي يمارس الضغط على حكومات اليمين. ولم يفقد غزة فقط في صالح حماس، بل وفي عهده فتحت هوة من الشك بينه وبين قادتها.

يصف الباحث الاسرائيلي ابو مازن كزعيم قاتم، يغلق على نفسه في غرفته ولكنه يكثر من الرحلات الى الخارج، بعيدا عن المشاكل. وهو ليس مبادرا سياسيا في طبيعته، كما يقول البروفيسور كلاين، ويشكك في قدرته على ان يكون شريكا بالنسبة لاسرائيل.

ان المحاولة الاسرائيلية في الاسابيع الاخيرة لعرض هذا الزعيم ورجاله كمهندسين لموجة السكاكين الحالية تصرف البحث عن الامر الاساس. فواقع الحياة في المناطق، ولا سيما في شرقي القدس، اقوى من كل دعوة للعمليات، مهما كانت فظيعة. وباتهام التحريض بانه العامل الاساس وراء العنف، تتجاهل اسرائيل مساهمتها في الاحباط الفلسطيني.  

مليونا فلسطيني ونصف المليون ممن يعيشون في القدس وفي الضفة هم سكان مقموعون، حبيسون في علبة، لا يرون أملا لحياتهم. في احياء شرقي القدس يعيش عشرات الاف الشبان والاطفال في بيت الاب فيه عاطل عن العمل، مدرسة تؤدي دورها بصعوبة وفي الشارع ينتظرهم حارس حدود مع سلاح وفم ينتج الاهانات. الاقصى في خطر؟ من يهمه، عندما لا يكون في البيت طعام، والغد ليس مضمونا.

ليس صدفة أن سميت موجة العنف الحالية "انتفاضة القدس" رغم المساعي من جانب قادة حماس لادراج المسجد المقدس في كل بحث فيها. هذه ليست مواجهة دينية، بل قبل كل شيء انفجار جذوره اجتماعية.

لا للعنف

تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو هذا الاسبوع، وبموجبه اسرائيل ستعيش على حرابها الى الابد جاءت في توقيت بائس بالضبط لهذه الاسباب. فمن أجل اعادة السكاكين الى مكانها الطبيعي في جارور المطبخ، تحتاج الجماهير الفلسطينية الى بارقة امل في أنه خلف الزاوية ينتظرهم مستقبل افضل. وفي أزمته، عبر نتنياهو بهذه الكلمات عن الاحباط وليس عن النوايا. ولكن في الجانب الفلسطيني سمعوا وترجموا هذه الاقوال الى خطة طويلة المدى. فاذا كان اليهود سيطعموننا الحراب الى الابد، سيقول لنفسه الشاب الفلسطيني فماذا تبقى لنا ان لم نستعد الكرامة المداسة.

في هذا الواقع، مطالب ابو مازن بان يعطي اجوبة لشعبه، ولكن في نفس الوقت ان يقمع موجة العنف. وقد فهم على الفور بان الشباب الذين يخرجون لقتل الاسرائيليين، وكذا اولئك الذين يؤيدونهم بالصمت فقط، هم آخر من سيستمعون اليه عندما سيأتي ليعظهم بان  يضعوا السكين جانبا. بتعبير آخر، اصبح هو بالنسبة لهم غير ذي صلة. ابو مازن وفريق مطبخه الصغير أجروا حساباتهم واختاروا تكتيكا فظا وغير مميز لهم. وحدوا لغتهم مع لغة الشارع، وبدأوا يتهمون اسرائيل باعداد الشباب الفلسطينيين ممن خرجوا لعمليات السكاكين.

وكانت ذروة هذا التكتيك في الخطاب اياه الذي القاه الرئيس مع صورة الطفل الطاعن من بيت حنينا. "لن نستسلم لمنطق القوة القامعة وسياسة الاحتلال والعدوان التي تتخذها الحكومة الاسرائيلية وقطعان مستوطنيها ضد شعبنا، مقدساتنا، بيوتنا واشجارنا. فهم يقتلون اطفالنا بدم بارد مثلما فعلوا لهذا الطفل وغيره من الاطفال، في القدس وفي اماكن اخرى في الاراضي الفلسطينية".

في حديثه لم يكن ذكر للنصف المظلم من الصورة، وهو سبب وصول اولئك الشبان الى المكان الذي وجدوا فيه حتفهم. فالقيادة السياسية في القدس عربدت غضبا، واتهمت القيادة الفلسطينية بانها تقف خلف هجمات السكاكين. فقد قال نتنياهو "لا شك ان موجة العنف هذه يحركها تحريض من جانب ابو مازن والسلطة الفلسطينية". ومع أن من المغري ان نرى في اقوال ابو مازن عن الطفل ابن 13 محركا لاعمال القتل، ولكن خلف هذا الادعاء الهراء الذي خرج على لسانه في ذاك الخطاب عن الاعدام بدم بارد يختبىء ضعف قيادي.

 إسرائيل، مع انها سارعت الى التطوع لذلك ليست هي العنوان على الاطلاق. نتنياهو يثني على ابو مازن اذا كان يعتقد أن بوسعه ان يخرج الى الشوارع طاعنين وقتلة بهرائه. لا يعني هذا انه يريد: ففي الايام التي ضجت فيها البلاد من خطابه اياه، واصلت اجهزته الامنية التعاون مع الجيش والمخابرات الاسرائيلية في قمع الاضطرابات ومطاردة المطلوبين. في ذات الخطاب أعلن ابو مازن بان العنف ليس طريق السلطة. وقد درج على أن يقول لسامعية منذ سنين "بالعنف نخسر للاسرائيليين".

لا للفصائل المسلحة

مشكلة اسرائيل كبيرة باضعاف نوايا التحريض لدى السلطة، سواء كان قائما أم لا. فالسكان الفلسطينيون أخذوا جانب العناد. من الان فصاعدا، كل فلسطيني هو طاعن محتمل. وضد هذا التهديد لن تجدي الحلول التقليدية، وبالتأكيد ليس تلك الامنية.

واذا كان احد ما يبحث عن التحريض لدى ابو مازن، فانه يعيش في عصر سلفه عرفات. التحريض الاهم موجود في الشبكات الاجتماعية، وهو لا يأتي من مرجعية. كله يخرج من ابناء الجيل الشاب وموجه له، وهو وحشي وخطير أكثر بكثير من كل كلمة حادة تخرج على لسان ابو مازن، صائب عريقات ورفاقهما. فيه توصيات دقيقة أين تغرس السكين، كيف تعد عبوة الكوع بوسائل شائعة ولماذا يفضل الطعن بابرة مسمومة.

الشباب الفلسطيني لم يملوا فقط ابو مازن وابناء جيله، بل وحتى الفصائل المسلحة، من القيادات التقليدية للكفاح النازف ضد اسرائيل. "اوصي الفصائل الا تأخذ المسؤولية عن موتي"، كتب بهاء عليان من جبل المكبر، في بوست نشره على الفيس بوك قبل نحو عشرة اشهر من موته. عليان، واحد من القاتلين اللذين نفذا العملية في الباص في حي أرمون هنتسيف، اضاف متوجها لحماس، للجهاد الاسلامي ولغيرهما: "موتي مكرس للوطن وليس لكم".

خير تفعل اسرائيل في هذه المرحلة اذا ما تركت ابو مازن لنفسه بدلا من أن تنفس احباطها عليه وتبدأ في الاستعداد لليوم التالي له. فتصيغ لنفسها أوراق جارور، تنفذ تقديرات اجتماعية واستخبارية، وتستعد لسيناريوهات محتملة في الساحة الفلسطينية.

ان رحيل ابو مازن لا يعد فقط نهاية لحياته السياسية، بل وايضا انتهاء لحكم الاباء المؤسسين لـ م.ت.ف. برحيله سينتقل الصولجان الى ابناء الجيل الوسط. لا جدوى في هذه المرحلة من اطلاق توقعات حول مسألة كيف ستبدو قيادة السلطة بدونه، هل سيتوج قادة م.ت.ف على أنفسهم زعيما واحدا ام سيفضلون مجلسا، هل ستجرى على الاطلاق انتخابات حرة ومتى، وماذا سيكون دور قطاع غزة  وقيادة حماس في اللعبة. غني عن الذكر ايضا ان ننشغل ببورصة الاسماء حول هوية البديل. لقد علمنا الواقع الاقليمي بان هذه اللحظات تولد المفاجآت.

لقد كان ابو مازن هو الزعيم الفلسطيني الاول الذي قاد سياسة كفاح غير عنيف ضد اسرائيل واراد الوصول معها الى اتفاق سلام كامل. هل فوتناه، ولا بد سنتوق له؟ لم تحن بعد الساعة للاجابة على هذا السؤال ايضا، ولكن شيئا واحدا مؤكدا: الجواب منوط ليس فقط بما يقوله الاغيار، بل وايضا بما يفعله اليهود.

  كلمات مفتاحية

إسرائيل أبومازن انتفاضة السكاكين