هذه الفوضى في الأسواق العالمية

قللت كورونا قدرة السياسة النقدية الأوروبية على الاستجابة للتحدّيات وتغير السياسات النقدية الأميركية.

هل أصبحت نظرية تداخل العالم مع بعضه بعضا غير فعالة، وغير كافية لتفسير حالة التقلب السريع في الأسواق العالمية؟

فوضى الأسواق العالمية لم تعد محصورةً في التبادل الحقيقي أو ما يطلق عليه الشارع الرئيسي بل وفي أسواق المضاربة بل وفي أسواق المضاربة!

لماذا حالة الاستنفار هذه؟ هل تعكس استدارةً في المفهوم السائد أن الأسواق العالمية قد بدأت تأخذ منحىً أقلّ استجابة وحساسية لتغيرات الأسعار بأميركا.

تؤكد التقلبات بالمدى الأطول حالة عدم استقرار فكل هذه الأسعار والأرقام القياسية يوماً بيوم، أو أسبوعاً بأسبوع تظهر تذبذبا مستمرّا وبنسب أكبر من المعتاد.

من أسباب ارتفاع أسعار النفط هبوط حاد بالمخزون الأميركي وتراجع إنتاج النفط الصخري والرملي وعدم الاستجابة لزيادة الطلب العالمي مع تراجع مخاطر كورونا.

تقلباتٍ كبيرةً بأسعار النفط والغاز والأسهم والأوراق المالية وعملات رقمية وأسعار الفوائد على العملات، وأسعار تبادل العملات و أسعار معادن ومحاصيل وسلع رئيسية.

ساد اعتقاد بين الاقتصاديين سابقا بعلاقة عكسية بين تغير معدل التضخم وتغير مستوى البطالة أما أن يسيرا باتجاه واحد فلم يتوقعوه لكنه حصل وسمّوه الكساد التضخمي.

إذا بدأت الأسواق العالمية في التحوّل من التداخل والترابط إلى صوامع متجاورة لكل واحدة منها كيانها الخاص فما الذي سيجري في الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة؟

مطلوب نظام أكثر تعقيداً لتسعير العملات وتحديد سلوكيات سياسة الدول النقدية وإن لم يمكن إحداث هذه النقلة فاحتمالات حصول فوضى عارمة بأسواق العالم قريبة.

*     *     *

يبدو أن فوضى الأسواق العالمية لم تعد محصورةً في التبادل الحقيقي، أو ما يطلق عليه بالإنكليزية الشارع الرئيس (main street)، بل وفي أسواق المضاربة، وقد شهدت الأشهر الأخيرة تقلباتٍ كبيرةً في أسعار النفط، والغاز الطبيعي، والأسهم والأوراق المالية، والعملات الرقمية وفي مقدمتها العملة الأشهر بيتكوين، وأسعار الفوائد على العملات، وأسعار تبادل العملات، وكذا في أسعار المعادن والمحاصيل والسلع الرئيسية.

وقد كثر الحديث، في الآونة الأخيرة، عن إمكانية عودة دورة الكساد التضخمي أو الركود التضخمي كما يحلو لي أن أسميها شخصياً، كما حصل بعد هزّة أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي، أو قبل ما يقارب 45 عاماً، حين صار ارتفاع الأسعار لا يؤدّي إلى تخفيف نسبة البطالة.

وقد كان الاعتقاد السائد قبل ذلك بين الاقتصاديين أن هناك علاقة عكسية بين التغير في معدل التضخم والتغير في مستوى البطالة. أما أن يسير الاثنان معاً، وباتجاه واحد، فلم يتوقعوه، ولكنه حصل وسمّوه الكساد التضخمي أو الركود التضخمي.

وقد وصلت أسعار النفط الخام (غرب تكساس) في مطلع الأسبوع الحالي 23 /24 أكتوبر/ تشرين الأول حوالي 84 دولاراً مقابل حوالي 86 دولاراً للبرميل من مزيج خام برنت. وهذان رقمان لم يصل إليهما أي منهما منذ سبع سنوات.

أسباب قفزة النفط

والتعليقات على أسباب ارتفاع أسعار النفط كثيرة، منها الهبوط الحاد في المخزون الأميركي، وتراجع إنتاج النفط من الصخر والرمل الزيتيين لأسبابٍ بيئية، وعدم الاستجابة الكافية لمواجهة زيادة الطلب العالمي على النفط مع تراجع مخاطر جائحة كورونا من مجموعة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، وبخاصة أكثر المنتجين فيها المملكة العربية السعودية.

أما أسعار الذهب فقد سجلت حوالي 1792 دولاراً للأونصة من الذهب الخالص خلال الأسبوع الحالي، وهو أقل قليلاً من السعر الذي وصل إليه الذهب عام 2012. وفي عام 2016 تجاوز سعر المعدن الأصفر عتبة الألفَي دولار، ليصل إلى 2020 دولاراً. وفي الأسابيع الأخيرة، ظل يتقلب، ولكنه يميل نحو الهبوط، حتى وصل الآن إلى سعره الحالي.

وبالنسبة لسعر الدولار، فقد شهد هو الآخر تقلبات. وفي شهر أكتوبر 2020، وصل معدل سعر تبادل الدولار إلى حوالي 6.74 يوانات صينية. ولكنه الآن انخفض فلا يساوي إلا 6.37 يوانات صينية، أو بهبوط نسبته 5.5% خلال عام.

وتأتي كل هذه التقلبات في المدى الأطول لتؤكد حالة عدم الاستقرار. ولو تمعنّا في كل هذه الأسعار والأرقام القياسية يوماً بيوم، أو أسبوعاً بأسبوع، سنرى أن هناك تذبذبا مستمرّا، وبنسب أكبر من المعتاد.

ومن هنا يثور السؤال: ولماذا حالة الاستنفار هذه؟ هل تعكس استدارةً في المفهوم السائد أن الأسواق العالمية قد بدأت تأخذ منحىً أقلّ استجابة وحساسية لتغيرات الأسعار في الولايات المتحدة.

وفي خطابٍ ألقته عضو اللجنة التنفيذية للبنك المركزي الأوروبي، إيزابيل شنابل، في الرابع من نوفمبر 2020، أكّدت أن جائحة كورونا قللت من قدرة السياسة النقدية الأوروبية على الاستجابة للتحدّيات، ومنها التغير في السياسات النقدية الأميركية. فهل أصبحت نظرية تداخل العالم مع بعضه بعضا غير فعالة، وغير كافية لتفسير حالة التقلب السريع في الأسواق العالمية؟

إذا بدأت الأسواق العالمية في التحوّل من حالة التداخل والترابط إلى "صوامع" متجاورة، ولكن لكل واحدة منها كيانها الخاص بها، فما الذي سيجري في الاقتصاد الدولي خلال الفترة المقبلة؟

ثلاثة خيارات وثلاث عملات

هذه حالة فسّرها الاقتصادي روبرت منديل الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1999، وسعى إلى تفسيرها نائب رئيس الفريق الاقتصادي في صندوق النقد الدولي سابقاً، البريطاني ماركوس فليمنغ.

ومع أنهما التقيا في صندوق النقد الدولي، إلا أن كلاً منهما كتب بشكل مستقل. وقد قدم فليمنغ مصطلح المعضلة الثلاثية Trilemma لتفسير خيارات السياسة النقدية في دول العالم، وبخاصة النامية منها. وأطلق على هذه معضلة منديل-فليمنغ الثلاثية.

وتقول هذه النظرية إن أمام الدول ثلاثة خيارات هي:

- تثبيت سعر صرف العملة.

- السماح بتدفق رأس المال بحرية دون الوصول لاتفاق لتثبيت سعر العملة.

- التمتع باستقلالية السياسة النقدية.

وقد أكد الباحثان روبرت منديل وماركوس فليمنغ أن الدول لا تستطيع أن تختار إلا واحداً من هذه البدائل، واختيار أي بديل سوف يلغي البديلين الآخريْن حكماً.

ومع أن النظرية تحوّلت إلى معضلة مزدوجة، لأن الدول عملياً لا تستطيع أن تتمتع باستقلالية نقدية مطلقة. وبغض النظر عن عدد الخيارات المتاحة، فإن الثلاثية والثنائية تعتمدان على وجود نظام نقدي دولي بمرجعية محدّدة، ووجود عملة دولية متفق عليها.

لذلك، إذا صدقت مخاوف بعض الاقتصاديين من أن الدولار قد يفقد استقراره ونفوذه، ولا يُحدِث سلسلة الآثار التي كان يُحدثها سابقاً، فإن النظام النقدي العالمي معرّض حالياً لهزّة شديدة، تذكّرنا بتلك التي أحدثها ارتفاع أسعار النفط في 1974.

لكن القدرة على التكيف معه في ظل المنافسة التجارية والتكنولوجية وحرب العملات، تذكّرنا بمقترح روبرت منديل الآخر، أي ضرورة تقسيم العالم إلى ثلاث مناطق عملات رئيسية. واحدة للدولار، وأخرى لليوان الصيني، وثالثة لليورو الأوروبي.

وعلى العالم أن يوجد نظاماً أكثر تعقيداً لتحديد أسعار العملات، وتحديد سلوكيات السياسة النقدية داخل الدول. وإذا لم يتمكّن العالم من إحداث هذه النقلة، فإن احتمالات حصول فوضى عارمة في أسواق العالم تبقى قريبة.

* د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق.