تعويم جديد مرتقب للجنيه المصري.. ما الخسائر المتوقعة؟

الأحد 18 ديسمبر 2022 09:14 ص

يبدو أن حالة عدم الاستقرار في سوق العملة المصرية، أشعل قلقا في الأسواق، مع توقع خسائر فادحة بين المصنّعين والشركات، ودفع الاستثمارات لمزيد من الهروب بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل الذي أضحى مساويا لدول الخليج ذات التكاليف المرتفعة.

وحسب تقارير مختصة، فإن الخفض الذي شهده الجنيه المصري منذ بداية العام بالأساس، والذي وصل إلى أكثر من 55%، تسبب في صدمات موجعة لجميع الأنشطة الصناعية، ودخولها في حالة من الركود للعام الثاني على التوالي.

ومع عودة المضاربات العنيفة في السوق السوداء لتدفع سعر صرف الورقة الأمريكية الخضراء إلى مستويات قياسية (وصل الدولار إلى 36 جنيها بينما متوسط صرفه في البنوك 25 جنيها)، عاد الحديث من جديد عن إمكانية القيام بثالث تعويم للعملة المصرية، هو الثاني في عام واحد، والثالث خلال 6 أعوام فقط.

وكان البنك المركزي المصري أعلن في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أول تعويم للجنيه المصري، وذلك في إطار تنفيذ المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح الاقتصادي وفقا لقرض قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.

وأعلن البنك المركزي المصري وقتها، خفض قيمة العملة من مستوى 8.80 جنيهات إلى مستوى 13 جنيهاً.

وواصل سعر صرف الدولار ليسجل بنهاية عام 2016 أعلى مستوى مقابل الجنيه المصري عندما بلغ نحو 19.60 جنيه.

وشهد العام الحالي عودة البنك المركزي المصري إلى التعويم من جديد، حيث أعلن خلال اجتماع استثنائي عقده في مارس/آذار الماضي، رفع سعر صرف الدولار من مستوى 15.74 جنيها، إلى نحو 19.60 جنيها.

ومجدداً عاد مرة ثالثة ليقوم بتعويم العملة في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث تقرر خفض قيمة العملة المصرية من مستوى 19.60 جنيه إلى مستوى 24.62 جنيه في الوقت الحالي، لتبلغ نسبة انخفاض الجنيه منذ بداية العام نحو 57% أمام الدولار.

والسبت، وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على مد مصر بـ3 مليارات دولار من خلال اتفاق مدته 46 شهراً، في إطار "تسهيل الصندوق الممدد"، وهو ما زاد من النكهنات بتخفيض جديد للعملة، أو ما يعرف إعلاميا باسم "التعويم الثالث".

وعقب الإعلان عن القرض، رحبت مديرة الصندوق "كريستالينا غورغييفا"، بما أسمته "التزام السلطات المضرية في الآونة الأخيرة بالتحول الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن، ومعالجة التشوهات الناجمة عن السياسات السابقة من خلال التشديد المسبق للسياسة النقدية والمضي قدماً نحو تعزيز شبكة الأمان المالي".

وما زالت التوقعات السلبية تطارد الجنيه المصري، حيث كشف بنك "نومورا" الياباني، في مذكرة بحثية حديثة، أن مصر هي الدولة الأكثر عرضة لأزمة عملة بين الأسواق الناشئة خلال الأشهر الـ12 المقبلة.

وتصدرت مصر القائمة بين الـ32 سوقاً ناشئة المدرجة على مؤشر "داموكليس" التابع لبنك "نومورا" الياباني، مما يعد مؤشراً على فرصة قوية بأن البلاد ستتعرض لأزمة في سعر الصرف خلال الأشهر المقبلة.

وفي السياق ذاته، عدلت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصري من "مستقرة" إلى "سلبية"، مرجعة ذلك إلى "تدهور" وضع السيولة الخارجية للبلاد، لافتة إلى أنها "قد تخفض التصنيف خلال الأشهر المقبلة، إذا استمرت ضغوط التمويل الخارجي أو لم تتمكن الحكومة من خفض العجز وتقليص نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي".

جاء ذلك، بعد أشهر من تعديل وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، نظرتها المستقبلية لمصر إلى "سلبية"، بينما أبقت وكالة "ستاندرد أند بورز" على التصنيف السيادي للبلاد عند مستوى (B) مع توقعات مستقبلية "مستقرة".

ولكن أمام هذا التعويم المرتقب، يحذر مراقبون أنه سيؤدي إلى موجة جديدة من الغلاء، تصل إلى 35% من الأسعار السائدة، لجميع السلع والخدمات، دفعة واحدة.

ولفتوا إلى أن الخفض الذي شهده الجنيه منذ بداية العام بالأساس، تسبب في صدمات موجعة لجميع الأنشطة الصناعية، ودخولها في حالة من الركود للعام الثاني على التوالي.

يقول الرئيس التنفيذي لمجموعة "صافولا" للأغذية "سامح حسن"، إن قرارات تعويم الجنيه المتكررة تعيد المستثمرين إلى المربع صفر في كل مرة تقدم فيها الحكومة على هذه الخطوة، لأن الاستثمارات الموجهة داخل مصر تفقد قيمتها.

ويؤكد في تصريحات صحفية قبل أيام، أن التعويم يخيف المستثمرين ويصيب الاستثمار المباشر في العمق، حيث يبقيهم أمام أمرين كلاهما مر، إما تحميل زيادة الأسعار على المستهلكين أو يفقد المستثمر قدرته على تحقيق عوائد وحماية أصوله من التراجع في قيمة العملة، بما يدفعه إلى خسائر متلاحقة.

ويطالب "حسن" الحكومة بالتوقف عن التعويم المتكرر للعملة، مشيرا إلى أن تراجع قيمة الجنيه بنسبة 25% إضافية كما هو متوقع ستدفع أسعار كافة السلع والخدمات للصعود الفوري بنسبة 35%، وترفع خسائر المستثمرين الصناعيين، بنحو 30% من استثماراتهم المباشرة.

ويتوقع استمرار حالة الانكماش في الاستثمارات المحلية والأجنبية، في ظل التراجع المستمر لسعر صرف العملة المحلية، بالإضافة إلى الضغوط التضخمية العالمية والمحلية، وتراجع الأرباح وقيمة الاستثمار بالشركات.

وعانت الشركات من انكماش ملحوظ في الأعمال خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وفق بيانات مؤشر مديري المشتريات الصادر عن وكالة "ستاندرد آند بورز"، الأحد الماضي.

ووفق المؤشر، تراجع مؤشر مديري المشتريات على نحو كبير من 47.7 نقطة في أكتوبر/تشرين الأول إلى 45.4 نقطة في نوفمبر/تشرين الثاني، لتمتد بذلك سلسلة الانكماش في الاقتصاد غير النفطي إلى عامين.

ورصدت بيانات المؤشر، معاناة الشركات من ارتفاع تكاليف التشغيل المتسارع، وانخفاض الطلبات الجديدة، بما أجبرها على خفض الإنتاج، لأقل معدل منذ يناير/كانون الثاني 2017، وفترة وباء "كورونا" في 2020.

وبينت أن معدل تراجع الطلب يعزى إلى خفض الإنفاق من العملاء بسبب التضخم السريع وارتفاع أسعار الفائدة، وانخفاض الصادرات، في ظل تباطؤ الأوضاع الاقتصادية العالمية.

وأشار التقرير إلى أن تراجع الجنيه أدى إلى تسارع حاد وفوري في تضخم أسعار المشتريات وصل إلى أعلى مستوى في 52 شهراً.

وإلى جانب تداعيات هبوط قيمة العملة، يعزو الخبير الاقتصادي "هاني توفيق"، تراجع الاستثمارات الخاصة المباشرة المحلية والأجنبية، إلى البيروقراطية المصحوبة غالبا ببعض الفساد، وعبء منظومة الضرائب والرسوم المعوقة للاستثمار، ومزاحمة الدولة للقطاع الخاص، وعدم تطبيق مبدأ وحدة الموازنة، وبطء إجراءات التقاضي، وعدم توفر العمالة الفنية المدربة.

ويشير "توفيق" في دراسة أصدرها المركز المصري للدراسات الاقتصادية (غير حكومية)، إلى ضرورة أن تلتزم الحكومة برفع العقبات أمام الاستثمار المباشر باعتباره المخرج الوحيد، لمواجهة خطورة الوضع الحالي للجنيه، والتوقف عن توجيه الأموال إلى إنشاء المدن الجديدة والعقارات.

بدورها، تقول عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة القاهرة "عالية المهدي"، إن الحكومة تحمل الشركات تكاليف باهظة، أدت إلى ارتفاع حسابات التشغيل في سعر الطاقة لقطاع الحديد والصلب، بما يعادل 3 أضعاف السائدة في أوروبا، وأصبحت الفائدة على القروض الصناعية والتجارية أعلى من أي مكان في العالم، وتدابير تشغيلية تمنع المصانع من استخدام موانئ قناة السويس.

وتضيف: "لقد سقطت أسطورة أن مصر دولة رخيصة في تكاليف العمالة والتشغيل، فالسائد حاليا أصبح موازياً لدول الخليج، وأقل من الجزائر والعديد من الدول المنافسة في المنطقة".

ودعت إلى "ضرورة حل مشاكل الشركات، ليتولى القطاع الخاص ريادة الأعمال وتوفير فرص العمل، لأنه لم يعد لدينا رفاهية الوقت".

أما الباحث "مجدي عبدالهادي"، فيحذر في دراسة حديثة، من موجة تضخم كبيرة، تتجاوز تلك التي تلت تعويم 2016، (تجاوزت حينها 30% عام 2017 وفقًا للأرقام الرسمية المتحفظة)، فضلا عن تخوفه من تعمق حالة الركود، مع ارتفاع التكاليف والرفع الاضطراري لأسعار الفائدة واضطراب هياكل الأسعار.

ويرجح "عبدالهادي"، انخفاض مستوى المعيشة وارتفاع نسب الفقر وتفاقم سوء توزيع الدخل لصالح الفئات المالكة للأصول على حساب الفئات العاملة، جراء أي خفض جديد للعملة.

ويضيف: سيؤدي التعويم الثالث إلى عدم استقرار سعر صرف العملة، بما يشوه كافة الأسعار ويضعف حوافز الادخار الإيجابي والاستثمار الإنتاجي عمومًا، ويعمق الميل إلى القطاعات الريعية والخدمية والاستهلاكية الخفيفة سريعة العوائد".

ويتابع: "سيؤدي التعويم الجديد إلى فقدان السيادة النقدية لاكتمال حلقات التبعية، فيتعمق العجز الوطني عن السيطرة على الموارد والأصول وحركة رؤوس الأموال، فضلًا عن إعادة تجديد الإنتاج الاجتماعي الذاتي المستقل؛ ما يعزز جوهر الأزمة الاقتصادية بإدامة حالة التبعية والتخلف".

وبغضِّ النظر عن عدم ملائمة سياسة التعويم الكلي بالعموم لاقتصاد بظروف مصر، فإنه لا يمكن أساسًا لخفض العملة، كما يجب أن تسميته، أن يكون بحد ذاته مقدمة حقيقية للإصلاح، خصوصًا مع التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الضخمة له، والفارق السلبي الهائل ما بين المكاسب المحدودة المحتملة والخسائر الضخمة شبه المؤكدة.

والأهم والأعم من ذلك، هو إدراك ما يحمله هذا التكرار المتسارع لخفض العملة 3 مرات في 6 أعوام فقط، من مؤشرات شديدة الخطورة عن مدى الخلل في مُجمل النظام الاقتصادي المصري وعدم كفاءة عموم منظومة سياساته، كذا عن الاتجاهات المثيرة للقلق لمستقبل الاقتصاد حال استمرارهما، ما يحتم إجراء مراجعة شاملة تنطلق من الوعي بحاجة الاقتصاد لطريق مختلف جذريًّا.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية