كيف تدير الحكومة الأوكرانية ماكينة الدولة والحرب بعد عام من بدء الغزو؟

الثلاثاء 21 فبراير 2023 06:25 م

إن الشيء الأكثر إثارة للدهشة عند دخول "بانكوفا"، مقر الحكومة الأوكرانية، هو مدى الظلام الذي يحيط بالداخل، حيث يتم إغلاق كل ستارة للحماية من انفجارات القنابل، ويتم إطفاء الأنوار لتقليل خطر استهداف المبنى بالهجمات الجوية أو القناصة.

كانت هذه العبارة التي بدأت بها كارولين ويلر، محررة صحيفة التايمز تقريرها عن مشاهداتها ومقابلاتها في كييف، حيث عايشت القصف الذي تعرضت له العاصمة الأوكرانية، والذي بدا كرد على جولة قام بها الرئيس فلوديمير زيلينسكي في المملكة المتحدة وأوروبا، والتي ضمنت تعهدات جديدة بالأسلحة والمعدات والعقوبات على روسيا.

ظنت المحررة أن إطفاء الأضواء هو تدبير مؤقت، لكنها علمت بعد ذلك أنه إجراء دائم، ولم تتمكن حتى من رؤية قدمها في قلب ممرات الحكومة الأوكرانية، إلا بفضل المصباح الموجود على هاتف أحد الجنود المرافقين لها.

وتشير إلى أن المقر عبارة عن كتلة خرسانية من المكاتب محاط بالفولاذ وحوله يوجد الكثير من نقاط التفتيش، ولا يسمح بالدخول إلا ببطاقات ووثائق صحيحة، كما لا يسمح للمدنيين بالدخول، ويطلب الجنود من المشاة كلمات مرور سرية تتغير يوميا.

وفي استطراد لوصفها للمكان؛ تقول المحررة إن النوافذ والأبواب كانت محجوبة بأكياس الرمل، ويرجع ذلك إلى محاولات اغتيال عديدة تعرض لها زيلينسكي، حيث كشف أوليكسي دانيلوف، رئيس مجلس الأمن القومي الأوكراني، أن الرئيس نجا من 3 محاولات اغتيال في أسبوع واحد فقط.

تحركات حول زيلينسكي

وفضلا عن المكان، تروي ويلر حركة الموظفين داخل المقر، ومشاهداتها لمستشارين عسكريين يرتدون الزي الكاكي، وهم يدخلون ويخرجون من المكاتب الرئاسية، ثم رؤيتها لاستراتيجي عسكري، يحمل خريطة كبيرة مطوية تحت ذراعه قبل اجتماع الحكومة العسكرية، كذلك انتباهها لحركة الجنود عندما مر زيلنسكي متبوعًا بمجموعة من المستشارين.

وتضيف المحررة أن أندريه يرماك، الصديق المقرب للرئيس وأكبر مستشاريه كان من بين المستشارين المحيطين به، حيث عاد الاثنان من جولة مكوكية في أوروبا استغرق طريق العودة منها 3 أيام.

وتشير إلى أن العام الأخير كان بمثابة اختبار تحمل لزيلينسكي وفريقه، الذي عمل 18 ساعة في اليوم، وبالكاد كانوا يرون عائلاتهم.

وحول هذا الموضوع تشير المحررة إلى أن زيلينسكي تمكن من رؤية ابنه "كيريلو" البالغ 10 أعوام، بمعدل مرة كل 10 أيام، وأن البعد عن زوجته وابنه شكل عليه ضغطا كبيرا.

وأوضحت المحررة أنها حرصت على القدوم إلى كييف لاكتشاف كيف تمكنت الحكومة من الاستمرار في العمل تحت ضغط الحرب الشديد.

تحديات غير عادية

ولهذا الغرض، تحدثت المحررة مع يرماك أقرب مستشاري زيلينسكي حول التحديات غير العادية التي واجهتها الإدارة في 12 شهرًا منذ غزو روسيا؛ بالرغم من أنه نادرا ما يجري مقابلات صحفية.

وقد قال يرماك للمحررة إنهم يستعدون لهجوم روسي، وأن الروس بالرغم من كونهم في وضع صعب إلا أنهم مستمرون في قصف البنية التحتية، ولكنه أكد أن ذلك لن يؤثر على المقاومة الأوكرانية، وأنهم لن يتخلوا عن باخموت التي تدور المعارك حولها حاليا.

وتشير المحررة إلى أن هذا الأسبوع يصادف الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي، وتؤكد هنا أن كثيرين في أوكرانيا، بما في ذلك زيلينسكي، قلّلوا من احتمال الغزو، بالرغم من التحذيرات المستمرة من المخابرات الأمريكية والبريطانية.

وتذكر المحررة أن عددا من الأكاديميين المرموقين تم استدعائهم لتقديم المشورة في مجالات السياسة الاقتصادية، مثل ألكسندر رودنيانسكي، الأكاديمي السابق في جامعة كامبريدج، وغيره الذين تمت دعوتهم على الفور للانضمام إلى زيلينسكي ومساعديه الآخرين في المخبأ تحت الأرض تحت بانكوفا.

كما تضيف أن الاجتماعات تكون سريعة وقد كان أحد قرارات إحداها إعلان الأحكام العرفية، ونقل الشخصيات البارزة في الحكومة الأوكرانية على الفور إلى المخابئ تحت الأرض بأوامر من الجيش بالبقاء.

وتمضي المحررة بناء على مقابلاتها للحديث حول صعوبة الحياة في هذه الأوضاع دون رؤية الشمس.

ووفقًا لمصدر حكومي، كانت الخطة الأولية هي البقاء تحت الأرض لمدة أسبوع، لكن الأحداث في الخارج تسببت في تغيير الخطة عندما استولت القوات الروسية على العديد من البلدات والمدن في كييف وحولها.

وتقول المحررة إن زيلينسكي وكبار مساعديه أمضوا الجزء الأكبر من شهرين في العيش تحت الأرض، وظهروا بشكل متقطع لطمأنة الناس بأنهم لم يفروا.

هناك سرية كبيرة كما تقول المحررة، حيث أن الموجودين وقعوا على تعهدات بعدم إفشاء أي تفاصيل حول طبيعة المكان أو موقعه أو حتى نوع الطعام.

وقد عايش هذا الفريق الحرب معزولا وتابعها عبر أجهزة "الآيفون" الخاصة به معانيا من قلة النوم وكثرة الاجتماعات والاتصالات.

البداية

وحول اللحظات الأولى للغزو، تشير المحررة أن الحراس أطفأوا الأنوار، واندلعت بعض الاشتباكات قرب الحي الحكومي، كما قدمت للرئيس وفريقه ومساعديه سترات واقية ورشاشات هجومية.

ووفقا للمحررة، كانت اللحظة الحاسمة عندما خرج زيلينسكي ويرماك وكبار المستشارين الآخرين لفترة وجيزة من مخبأهم تحت الأرض في الليلة الثانية من الغزو لتسجيل خطاب مدته 40 ثانية لشعبه؛ ردا على إشاعات هرب الرئيس، حيث قال زيلينسكي: "نحن جميعًا هنا"، "نحن في كييف. نحن ندافع عن أوكرانيا".

كان الأمر المدهش، أن أوكرانيا لم تقاوم فحسب، بل بدأت بالرد، وكان مربط الفرس هنا أن روسيا استخفت بالقدرات الأوكرانية ولم تتوقع خططا ذكية في الوقت الذي بالغت موسكو فيه في تقدير قوتها الذاتية.

وبالرغم من عودة الحياة لكييف وتراجع الروس شرقا، بقيت الأمور في بنكوفا بحالة أزمة، حيث قال داشا زاريفنا، أحد كبار مساعدي زيلينسكي: "لم تكن هناك فترة زمنية لم يكن لدينا فيها وضع معقد في ساحة المعركة .. ما يميز الرئيس وفريقه هو أنهم دائمًا ما يضعون توقعاتهم عالية جدًا. حتى عندما لا يؤمن أحد... يفعلون كل شيء ممكن. وعندما تعمل معهم تبدأ في الحصول على الإلهام من طاقتهم ".

ويذكر التقرير أن عددا من المستشارين بقوا مندهشين من أداء الحكومة الذي تضمن اجتماع كل صباح اثنين بشكل مستمر بالرغم من عقده تحت الأرض.

حياة الحرب

وحول الحياة داخل المدينة تقول المحررة إن الحكومة تكيفت وشعبها مع الحياة في حالة حرب بالرغم من أن كييف لا تزال تحمل العديد من ندوب الصراع، وأن الناس يمارسون حياتهم بالرغم من الاختباء في أوقات الغارات الجوية المتكررة.

وبشأن الصعوبات تذكر المحررة أن العديد العديد ممن التقت بهم خلال زيارتها أخبروها أن أصعب شيء في الحياة في حالة حرب هو عدم القدرة على التخطيط للمستقبل.

وفي لقائها مع أحد الجنود تذكر كارولين أنه كان متشائمًا من أن الحرب ستنتهي قريبًا، حيث أخبرها: "أعتقد أن الحرب ستستمر لفترة طويلة... من الصعب جدا هزيمة العدو. إن قوتهم البشرية وأسلحتهم أعلى بكثير من قوتنا. الطريقة الوحيدة للفوز هي من خلال التقنيات الغربية، وإرادتنا".

فيما أصر جندي آخر على ضرورة إنهاء الصراع قبل هذا الخريف، وقال: "لقد عشنا بالفعل شتاءً واحدًا بدون تدفئة وكهرباء.. من الصعب جدًا على عائلاتنا العيش في مثل هذا الوضع. سيكون من المستحيل علينا القيام بذلك مرة أخرى".

استمرار الاقتصاد

وحول أولويات الحكومة تشير المحررة أن من أولويات بنكوفا الحفاظ على استمرار الاقتصاد. منذ بداية الحرب، كان هناك انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20-30%، وتشير هنا إلى أنه بالرغم من أن هذا سيء إلا أنه أفضل مما توقعت الحكومة.

وقد تجنبت البلاد الإفلاس وساهم في ذلك المساعدات الخارجية التي تمثل نصف عائدات الدولة مع اعتماد نسبة كبيرة من الباقي على صناعتها الزراعية العملاقة.

فمن المعروف أن أوكرانيا تسمى سلة خبز أوروبا، وهي تساهم عادة بنسبة 15% من الذرة العالمية، و10% من القمح العالمي، و15% من الشعير، وما يقرب من نصف زيت عباد الشمس. ويعد الحفاظ على الإنتاج والصادرات في مواجهة الصواريخ الروسية هو المسؤولية الرئيسية لسولسكي، وزير السياسة الزراعية في ظل تحدي ضعف الخدمات اللوجسيتية وارتفاع تكلفتها وتوجه عدد من المزارعين للتطوع للمشاركة في الحرب.

كان لنقص الصادرات تأثير مذهل على الإمدادات الغذائية العالمية، لا سيما في إفريقيا، حيث تعتمد العديد من الدول على الحبوب الأوكرانية.

وقد عمل زيلينسكي على برنامج لإفراغ المخازن الضخمة عبر إقناع المؤسسات الخيرية والحكومات بدعم الدول المنكوبة عبر  برامج الغذاء الانسانية المعتمدة على الحبوب الأوكرانية.

باختصار تم استخدام إمدادات الغذاء كأداة دبلوماسية لمواجهة نفوذ روسيا عبر إفريقيا؛ حيث توفر مجموعات "فاجنر" المرتزقة التابعة لبوتين الأمن للقادة الأفارقة في دول مثل جمهورية إفريقيا الوسطى، مقابل السيطرة على الذهب والماس والموارد الأخرى.

ومن الجيد التذكير أن 19 دولة أفريقية امتنعت عن التصويت على قرار للأمم المتحدة يدين ضم موسكو لأربع مناطق في أوكرانيا في أكتوبر/تشرين الأول، بينما صوتت 26 دولة لصالحه.

وبالعودة لأهمية الاقتصاد يشير التقرير أن ما يحدث على خط المواجهة له أيضًا تأثير "هائل" على الاقتصاد. فالمكاسب العسكرية تخلق "توقعات إيجابية، لذلك يعود الناس من الخارج، ويبدأون في الاستثمار والإنتاج هنا ويشعرون بمزيد من الثقة. وإذا كان هناك أدنى خبر سلبي. يصبح الناس خائفين، ويبدأون في الفرار ويتوقف الإنتاج".

((5))

دعم الحلفاء

سيتحدد مصير أوكرانيا من خلال قوة الدعم المقدم من حلفائها الغربيين، لكن مصادر بارزة في بنكوفا أعربت عن قلقها من احتمال فوز الحزب الجمهوري بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024، وسط تقارير تفيد بأن الحزب الجمهوري يفضل إنفاق الأموال على الأولويات المحلية.

تنفق أوكرانيا الكثير من الوقت والموارد على التواصل الدبلوماسي، وتستهدف البلدان التي "لم تكن مؤيدة" في البرلمان الأوروبي؛ ومن بين هؤلاء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي ينتقد نظام زيلينسكي، والذي قال إنه سيستخدم حق النقض ضد أي عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي ضد روسيا تؤثر على الطاقة النووية.

يأمل الأوكرانيون أن يحصلون على دعم أكبر من كبار الفنانين ومن عمالقة التكنولوجيا الغربيين في مواجهة الدعاية الروسية ومن الشركات الكبرى في مقاطعة روسيا.

وبشكل عام يرى التقرير أن مسؤولي بنكوفا فخورون بحق بما حققوه في غضون عام؛ قلة من قادة العالم اعتقدوا أن أوكرانيا يمكن أن تنجو من الغزو الروسي لفترة طويلة.

وبينما يُجبر يرماك على العمل في الظلام النسبي لبنكوفا، يأمل أن تكون الجهود الدبلوماسية الأخيرة قد أثارت لحظة مضيئة لبقية العالم.

المصدر | كارولين ويلر / صحيفة التايمز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

أوكرانيا زيلينسكي بوتين بانكوفا

ألمانيا: بوتين لا يريد التفاوض وبإمكانه حشد مليون جندي