الدفاع والمرونة والاستدامة.. 3 أبعاد مركزية لاستراتيجية الأمن القومي الألماني

الثلاثاء 20 يونيو 2023 11:49 ص

سلط الباحث عبدالمجيد أبو العلا الضوء على استراتيجية الأمن القومي الألمانية، التي أعلنها المستشار، أولاف شولتس، في مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الألمانية، برلين، في 14 يونيو/حزيران، رفقة وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، ووزير الدفاع، بوريس بيستوريوس، ووزيرة الداخلية، نانسي فيزر، ووزير المالية، كريستيان ليندنر، مشيرا إلى أن وزيرة الخارجية وفريقها أنجزا نصيب الأسد من العمل على إعداد الاستراتيجية.

وذكر أبو العلا، في تحليل نشره بموقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن الإعلان جاء بعد مضي أكثر من عام على تقديم وزيرة الخارجية رؤيتها لأسس الاستراتيجية وعناصرها الرئيسية، خلال الفعالية الافتتاحية بشأن تطوير استراتيجية الأمن القومي، في مارس/آذار 2022، وبعد عام ونصف العام تقريبًا على توقيع اتفاقية الائتلاف الحكومي، وتشكيل الحكومة الألمانية الجديدة.

وأضاف أن مضمون الاستراتيجية تأثر باندلاع الحرب الأوكرانية، التي سلّطت الضوء على عديد من نقاط الضعف في السياسات الألمانية، ومنها الاعتماد الألماني على الغاز الروسي والحاجة إلى سلاسل إمداد أكثر تنوعًا وأمانًا، وضعف وقلة الاستثمارات والنفقات الدفاعية الألمانية والحاجة إلى زيادتها.

فالحرب، وفق الاستراتيجية الألمانية، مثلت "نقطة تحول"، ترتبط بشكل كبير بالسياسات الدفاعية وتدفع للعمل على تحديث الجيش الألماني والتوجه نحو زيادة الإنفاق العسكري، بحسب أبوالعلا.

وأشار إلى أن الحرب مثلت نقطة تحول أيضًا في آراء الألمان فيما يتعلق بالمسائل العسكرية والقضايا العسكرية وحلف شمال الأطلسي وما يحدث في أوكرانيا، مع الانتباه إلى معاناة الجيش من الإهمال وضعف التمويل والتسليح.

وتظهر انعكاسات الحرب الأوكرانية على استراتيجية الأمن القومي الألمانية في مواضع عديدة منها ما يتعلق بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما تعهد به شولتس سابقًا، ووفق أهداف حلف الناتو.

ومن المقرر أن يتم تحقيق هذا المعدل بحلول عام 2024 أولًا ثم عبر "متوسط متعدد السنوات"، بالاعتماد في البداية على الصندوق الخاص لدعم قدرات الجيش الألماني الذي تم إنشائه العام الماضي بقيمة 100 مليار يورو، وهو ما يتوافق مع الخطة التي وافق عليها البرلمان الألماني في يونيو/حزيران 2022.

ويتوازى ذلك مع التعهد بجعل "البوندسفير" أحد أكثر القوات المسلحة التقليدية فعالية في أوروبا في السنوات المقبلة، بحيث يمتلك الجيش الألماني القدرة على الاستجابة والتصرف بسرعة في جميع الأوقات.

وتعتبر الاستراتيجية الألمانية أن روسيا حاليًا تعد التهديد الأكبر والأكثر أهمية للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية، وأن سياسة المنافع الاقتصادية لم تعد كافية للتعامل مع التحديات الأمنية في القارة واستمالة روسيا على غرار ما حاولت فعله عبر مشروع "نورد ستريم"، وأن ثمة أهمية لتطوير استراتيجية أمنية وسياسة دفاعية للتعامل مع تلك التحديات.

ويرى أبو العلا أن من أهم الدلالات التي تكشف عنها الاستراتيجية هي إدراك برلين لعمق التحولات العالمية وطموحها في تحمل المزيد من المسئولية في العالم ولعب دور قيادي في القارة الأوروبية، وتحمُّلها مسئولية خاصة في الحفاظ على السلام والأمن والازدهار والاستقرار في القارة بصفتها الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان وأكبر اقتصاد في أوروبا.

ولعل هذا الدور الأوروبي هو ما دفع شولتس للمطالبة بالاستمرار في مناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا بما في ذلك عند انتهاء الحرب، والعمل مع شركاء أوروبيين لتطوير سياسة أمنية مشتركة بشكل أكبر، بما في ذلك المشاركة المكثفة لتحقيق الاستقرار في جوار أوروبا، حسبما يرى أبو العلا.

كما تعيد ألمانيا التذكير بمطلبها بتخصيص مقعد دائم لها بمجلس الأمن، واضعة ذلك في إطار استعدادها لتحمل المسئولية العالمية لتقوية الأمم المتحدة، بحسب الاستراتيجية المعلنة.

 ومع التزام الاستراتيجية بسياسة الأمن الجماعي للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي أساس ألمانيا، لكنها في الوقت نفسه تدعو الحكومة الألمانية للبحث عن شركاء جدد في العالم مع الدعوة إلى توسيع الاتحاد.

الموقف من الصين

وتُعد الرؤية الألمانية للصين من أهم الجوانب التي تناولتها استراتيجية الأمن القومي الألمانية، خاصةً أن إدارة العلاقات مع الصين تعد من التحديات التي تواجه أوروبا بشكلٍ عام، مع السعي إلى بلورة مقاربة تستفيد من الفرص وتحافظ على العلاقات والمصالح المشتركة، دون إغفال ما يطرحه الصعود الصيني من تهديدات للمنظومة الغربية على الأصعدة المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية والقيمية.

وفي هذا الإطار، تستعد ألمانيا لإقرار استراتيجية خاصة بالصين، من المنتظر أن ترى النور خلال شهر يوليو/تموز القادم.

وورغم ظلال الحرب الروسية – الأوكرانية التي خيمت على القارة الأوروبية، وجعلت من أوروبا محل اهتمام رئيسي لدولها، إلا أن الاستراتيجية الجديدة لم تُغفل التحديات التي يطرحها صعود الصين من جهة، والأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الإندو-باسيفيك من جهةٍ أخرى، حيث تتوافق الاستراتيجية مع الاهتمام الأمريكي والغربي عموماً بالمنطقة كساحة تنافس جيو-استراتيجي جديدة على المستوى العالمي.

وتصف استراتيجية الأمن القومي الألمانية منطقة المحيطين الهندي والهادئ بأنها منطقة ذات أهمية خاصة لألمانيا وأوروبا، وتعتبر الصين "شريكًا ومنافسًا ومنافسًا منهجيًا لها في آنٍ واحد".

وتتهم الاستراتيجية الصين بالتصرف بشكل متكرر بما يتعارض مع المصالح والقيم الألمانية والأوروبية، وأنها تُعرّض الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي لضغوط متزايدة، مع تجاهل حقوق الإنسان، فضلًا عن محاولة إعادة تشكيل النظام الدولي، والسعي نحو مزيد من التفوق الإقليمي، مع اعتبار "التجسس الصيني" أحد التهديدات الأمنية لألمانيا.

وستهتم ألمانيا في علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الصين بمسألة تنويع سلاسل التوريد، فبعدما أرسلت جائحة كورونا إشارة للحكومة الألمانية وغيرها من الحكومات الأوروبية بمخاطر الاعتماد على الصين في الضروريات الطبية، أكدت الحرب الأوكرانية أهمية تنويع سلاسل الإمداد خشية تكرار سيناريو الاعتماد على الغاز الروسي، مع بكين في قطاعات حيوية أخرى مثل "أشباه الموصلات".

ولكن رغم ذلك كله، لا تزال ألمانيا ترى في الصين شريكًا عالميًا مهمًا لا يمكن حل العديد من التحديات العالمية الأكثر إلحاحًا بدونه، مثل مواجهة التغيرات المناخية، فضلًا عن المصالح الاقتصادية المترابطة بين البلدين.

 فطوال 7 سنوات ماضية، حافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك تجاري لألمانيا بحجم تبادل تجاري بلغ 297.9 مليار يورو عام 2022.

كما تُعد الصين سوقًا أساسيًا لكبرى الشركات الألمانية، إلى الحد الذي دفع العديد من الرؤساء التنفيذيين لتلك الشركات من التحذير من مخاطر قطع أو تقليص الروابط مع بكين.

وتعبّر رؤية الاستراتيجية للصين كمنافس وشريك عن محاولة صياغة رؤية متوازنة ليس فقط بين الحكومة ورجال الأعمال، بل داخل وزارات وأحزاب الحكومة أيضًا، بحسب الباحث في مركز الأهرام.

الشعبوية والتضليل

وبالإضافة إلى جوانب سياسات الدفاع التقليدية المرتبطة بالقوات المسلحة، تولي الاستراتيجية أهمية لمرونة النظام الديمقراطي ضد الشعبوية وحملات التضليل، والقدرة على توفير المواد الخامة اللازمة، وحماية البنية التحتية الحيوية مثل قطاع الاتصالات وإمدادات الطاقة، وتحقيق الاستقرار المالي، وحماية التنوع البيولوجي، ومواجهة التهديدات الجديدة مثل الأوبئة والهجمات السيبرانية والتغيرات المناخية.

 كما أكدت وزيرة الخارجية تقاطع تحديات الأمن في ألمانيا مع جميع مجالات الحياة، وأن الأمن في القرن الحادي والعشرين يدور حول ما هو أكثر من الوسائل العسكرية والدبلوماسية.

3 أبعاد مركزية

وتُحدد استراتيجية الأمن القومي الألماني 3 أبعاد مركزية للأمن المتكامل هي "الدفاع" و"المرونة" و"الاستدامة".

 وتربط الوثيقة أولًا بين بتقوية القدرات الدفاعية والدفاع عن السلام والحرية، مشيرةً إلى ضرورة أن تمتلك ألمانيا القدرة على حماية نفسها والدفاع عن حلفائها، وضمان أن المواطنين الألمان يمكنهم العيش بسلام، والتمتع بالحرية والأمن في المستقبل أيضًا.

كما تشير الاستراتيجية إلى تعزيز وتحديث القوات المسلحة لضمان قدرتها على الوفاء بواجبها الذي يتمثل في الدفاع الوطني والجماعي باعتبار "البوندسفير" حجر الزاوية للدفاع في أوروبا في ظل التمسك بالدفاع المشترك بموجب المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي. مع تحسين وتحديث المؤسسات والجهات الأخرى التي يمكن أن تُساهم في تحقيق الأمن الشامل للمجتمع وحماية السكان من مختلف التهديدات.

وتنص الاستراتيجية أيضا على مواصلة الالتزام بالعمل مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وتحمُّل الحكومة الألمانية مسئولية في إدارة الأزمات الدولية، بالنظر إلى ارتباط الأمن الألماني بالأمن والاستقرار في أجزاء أخرى من العالم.

وفي هذا الإطار، تشير الوثيقة إلى سعي الحكومة الألمانية لضمان قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف جيو-سياسيًا والحفاظ على أمنه وسيادته للأجيال القادمة، وتدعم المزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي وتماسكه وتوسيعه ليشمل دول غرب البلقان وأوكرانيا وجمهورية مولدوفا وجورجيا على المدى الطويل.

كما تدعو الوثيقة إلى زيادة الجهود الألمانية لدعم الهيكل العالمي للحد من التسلح ونزع وعدم انتشار السلاح النووي على أساس معاهدة عدم الانتشار، للوصول إلى عالم آمن خالي من الأسلحة النووية.

الحفاظ على القيم

أما عن البُعد الثاني (المرونة) فيشير إلى الحفاظ على قيم ألمانيا من خلال القوة الداخلية، وتجادل الوثيقة، في هذا الصدد، بأنه لا يمكن ضمان الحياة في حرية إلا إذا كان المجتمع والاقتصاد مرنين وقابلين للتكيف ومستقرين داخليًا.

ولذلك "يجب حماية النظام الديمقراطي الحر والدفاع عنه ضد التأثيرات والتدخلات الخارجية غير المشروعة والمعلومات المضللة وجميع أشكال التطرف، مع الحفاظ على نظام دولي حر قائم على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتنفيذ سياسة نشطة لحقوق الإنسان، وتشجيع القضاء على التمييز، وتعزيز المشاركة والتنوع" بحسب الاستراتيجية.

 وتجادل الوثيقة بوجود علاقة عكسية بين درجة حماية حقوق الإنسان، وبين احتمالات نشوب الأزمات والحروب، في إشارة إلى التفسيرات الغربية لاندلاع الحرب الأوكرانية بغياب البعد القيمي الديمقراطي والحقوقي في روسيا، فضلًا عن النظريات الغربية التي تجادل بأن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض، وأن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان تحدان من احتمالات حدوث الحروب والأزمات بين الدول وبعضها البعض على الصعيد الدولي أو داخل تلك الدول نفسها على الصعيد المجتمعي.

حماية الموارد

وآخيرًا، يرتبط بُعد "الاستدامة" بحماية الموارد الطبيعية والتركيز على الوقاية، فتشير الوثيقة إلى العمل على  الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي من خلال التحول إلى أنظمة زراعية وغذائية مستدامة، بالنظر إلى الأضرار التي يسببها الجوع وسوء التغذية لصحة الناس، وتهديدها الأسس الاقتصادية للمجتمعات للدرجة التي قد تؤدي إلى انتكاسات في العمل التنموي.

وتؤكد الوثيقة أن الوقاية العالمية من الأوبئة والاستجابة السريعة لها أمران أساسيان لضمان الأمن البشري، وتدعو الحكومة الألمانية إلى تعزيز المرونة من خلال ضمان القدرة طويلة الأجل على توفير الرعاية الطبية والحفاظ على سلاسل التوريد، وتدريب الخبراء المتخصصين، وتحسين الاكتشاف المبكر لمخاطر الأوبئة، والاستثمار في البحث والتطوير المرتبط بالأمن. مع الدعوة إلى قواعد ملزمة دوليًا بشأن كيفية التعامل مع الأوبئة.

وتحذّر الوثيقة من أن تؤدي عواقب أزمة المناخ والتهديدات التي يتعرض لها الأساس الطبيعي للحياة والبيئة الطبيعية إلى ظهور تهديد أساسي للأجيال القادمة.

ولذلك ترى الاستراتيجية الألمانية أن العمل المبكر يمكن أن ينقذ الأرواح من خلال مكافحة تغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي والنظام البيئي.

وفي هذا الإطار، ترى الوثيقة أن التحول العالمي والمستدام والأخضر والعادل يوفر اجتماعيًا فرصًا كبيرة، لأنه لا يعني فقط استخدام الطاقة النظيفة، ولكن أيضًا تقليل تبعات ومخاطر التغير المناخي، وهي أزمة عالمية تحتاج إلى مشاركة جميع الدول في مواجهتها.

التنفيذ والتمويل

ويشير أبو العلا إلى شكوك في تحول الاستراتيجية الألمانية إلى سياسات واقعية، ترتبط بجذور خلال الفترة السابقة من حكم شولتس، ومنها حديث زعيم المعارضة، فريدريك ميرز، خلال مناقشة برلمانية، في فبراير/شباط الماضي، عن أن أجزاء كبيرة من عناصر "نقطة التحول" التي تحدث عنها شولتس في فبراير/شباط 2022، تحدث إلى حدٍ كبير على الورق فقط.

 ووجّه ميرز انتقادات حادة لاستراتيجية الأمن القومي إلى حد وصفها بأنها "خيبة أمل كبيرة" وأنها "ليس لها قيمة ولا جوهر ولا أهمية" وذلك بسبب اعتبارها ضعيفة الجوهر، وغير ذات صلة من الناحية الاستراتيجية، وبدون إجراءات عملياتية، وأنه تم وضعها دون التشاور مع حلفاء ألمانيا.

ورغم أن التصريحات الحكومية أشارت إلى عمليات التشاور والمشاركة داخليًا وخارجيًا في عملية وضع الاستراتيجية.

وفي حين تهدف الخطة إلى تعزيز الاستثمارات في العديد من القطاعات مثل تحديث القوات المسلحة وحماية البنية التحتية الحيوية والقدرات السيبرانية والدبلوماسية الفعالة والحماية المدنية، والمساعدة الإنسانية والتعاون الإنمائي، فإن هذه الأهداف لن تتجاوز توصيف "التطلعات" دون تخصيص تمويل إضافي لتحقيقها، حيث يرتبط تنفيذ الاستراتيجية بالموارد، في الوقت الذي لا توجد فيه ميزانية أو موارد إضافية جديدة لها.

 وتتعزز الشكوك حول هذا الأمر بإشارة الوثيقة إلى السعي لتنفيذ الاستراتيجية دون أي تكلفة إضافية على الميزانية الفيدرالية نظرًا للالتزامات الحالية والمطالب الكبيرة على الموارد المالية الألمانية العامة في الوقت الحالي. 

المصدر | عبدالمجيد أبوالعلا/مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

ألمانيا الأمن القومي الألماني أولاف شولتس الصين روسيا أوكرانيا