الناصرية المحدثة.. هكذا أخذ نظام السيسي المصريين رهائن لـ "أيدولوجية القمع"

الأربعاء 31 يناير 2024 08:10 م

سلط المحلل السياسي المصري، ماجد مندور، الضوء على تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاده، واصفا تلك الأوضاع بأنها أشبه بأخذ الرئيس، عبدالفتاح السيسي، لمصر كـ "رهينة".

وذكر مندور، في مقال نشره موقع منظمة "الديمقراطية للعالم العربي الآن (DAWN)" وترجمه "الخليج الجديد"، صيف عام 2013 واحدة من أسوأ حالات العنف التي تقودها الدولة في التاريخ المصري، وهو العنف الذي كان إيذانا بفترة من القمع الشديد الذي لم يهدأ بعد مرور 11 عامًا تقريبًا.

وأضاف أن المجازر التي وقعت في ذلك الصيف لم تقض على أي أمل في استمرار التجربة الديمقراطية الوجيزة في مصر في أعقاب الانتفاضة الشعبية في عام 2011 فحسب، بل أرست أيضاً الأساس لاستقطاب اجتماعي عميق، و"هو أمر ضروري للمؤسسة العسكرية لتعزيز قبضتها على السلطة" حسب رأيه.

وتابع: "لولا العنف الجماعي الذي تمارسه الدولة، لكانت قدرة المؤسسة العسكرية على تهميش القوى السياسية المدنية بشكل كامل في انقلاب يوليو/تموز 2013 الذي أوصل عبدالفتاح السيسي إلى السلطة، من التيارات الإسلامية إلى التيارات الليبرالية واليسارية، صعبة للغاية".

لكن رغم أن مفتاح نجاح الجيش يكمن في التماس الدعم الشعبي للقمع الجماعي الذي أطلقه، في البداية، ضد أنصار الرئيس الإسلامي، محمد مرسي، إلا أنه امتد لاحقًا ليشمل المعارضة العلمانية أيضًا ثم امتد لهم كمواطنين عاديين.

وتنبع قدرة الجيش المصري على التماس الدعم الشعبي لقمعه من 3 عوامل متشابكة، حسبما يرى مندور، الأول هو: قدرة نظام السيسي على إحياء شكل "الناصرية" القمعي والمحافظ بقوة، خاليًا من التركيز الكلاسيكي على العدالة الاجتماعية الذي ميز حكم الرئيس، جمال عبدالناصر.

وأحيا هذا الشكل الجديد من الناصرية فكرة راسخة بعمق لدى عموم المصريين، وهي الوحدة العضوية للجماهير والانسجام الطبيعي فيما بينها، ما مكن النظام الجديد من تأطير المعارضة على أنها من "أعمال الخيانة التي تغذيها قوى أجنبية"، وسمح هذا التأطير لنظام السيسي بحشد الدعم الشعبي لممارساته القمعية.

ويرتبط العاملان الثاني والثالث لقدرة النظام المصري على حشد الدعم الشعبي بقدرة المؤسسة العسكرية على تعزيز هذا الدعم، بحسب مندور، خاصة بعد نفور القوى المدنية من جماعة الإخوان المسلمين بعد العام الذي قضته في السلطة بعد الانتخابات الديمقراطية التاريخية في عام 2012.

وترافق ذلك مع استمالة المؤسسة العسكرية لعدد كبير من الشخصيات العلمانية بسهولة، والتي دعمها كان ضروريا للنجاح المبكر للانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد (محمد مرسي).

تأزم دائم

وهنا يشير مندور إلى أن نظام السيسي يحتاج إلى حالة دائمة من "التأزم" من أجل البقاء في السلطة، و"إذا تم حل الأزمة، فإن الجاذبية الأيديولوجية للنظام ستتلاشى".

ويضيف أن الجيش المصري استغل الاحتجاجات الحاشدة في 30 يونيو/حزيران 2013 التي عجلت بالانقلاب، والتي كان من الممكن تجنبها لو فهم الإخوان المسلمين حجم الكارثة الوشيكة وأن هناك حاجة إلى حل سياسي.

وكان الحد الأدنى من التوافق مع القوى السياسية الأخرى ضروريًا لتجنب خطر الانقلاب العسكري، لكن عناد جماعة الإخوان وسذاجة المعارضة العلمانية ونزعتها الاستبدادية الصريحة سمحا للجيش بتهميش كلا الفصيلين، مستخدماً "موجة عارمة من القمع المدعومة شعبيا" حسب تعبير مندور.

ولم تمهد الموجة الأولى من القمع، والدعم الشعبي الذي استندت إليه، الطريق لرئاسة السيسي فحسب، بل سمحت أيضًا للجيش بالسيطرة الكاملة على جهاز الدولة واستخدام ذلك في إعادة تشكيلها والهيمنة على الاقتصاد، وهو ما أرسى الأساس لـ "ثورة السيسي السلبية"، التي نُفِّذت بمستويات كبيرة من العنف.

ويرى مندور أن تحليل أحداث النصف الثاني من عام 2013 يعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم أساس النظام الحاكم في مصر ومصاره المستقبلي، فضلاً عن احتمالات التحول الديمقراطي في البلاد، مضيفا: "لا بد من إعادة النظر في الجراح الاجتماعية العميقة التي خلفها ذلك الصيف من أجل تحقيق أي احتمال للتعايش السلمي".

ويلفت مندور إلى أن "الإرث الأيديولوجي السام الذي خلفته هذه الأحداث هو العاقبة الأكثر خطورة، وربما الأكثر ديمومة. إذ تطلبت أعمال العنف الجماعي التي قامت بها الدولة دعم قطاعات كبيرة من السكان، الأمر الذي استلزم تلقين هذه القطاعات أيدولوجية شديدة الاستبداد والشوفينية، ذات طابع فاشي".

وينوه مندور إلى أن هذه الأيدولوجية ساهمت في المشاركة الشعبية لإيما سماه "القمع المجتمعي"، الذي لم يشمل أعمال القمع الجسدي المباشرة فقط، بل النبذ الاجتماعي لأعضاء المعارضة من الإسلاميين والعلمانيين أيضا، ما هدد بالعواقب التالية:

أولاً: سمح القمع المجتمعي للنظام العسكري المصري، ليس فقط بتعزيز قاعدته، بل أيضاً بخلق رابطة نفسية قوية مع شرائح واسعة من السكان، الذين رأوا أنفسهم شركاء في حملة النظام لتخليص البلاد من "الخونة"، ولحماية الدولة من الانهيار الوشيك.

 ومع ذلك، فإن الخوف من الفوضى الاجتماعية لا ينبع فقط من الخوف من الاضطرابات السياسية أو سيطرة الإسلاميين، ولكن أيضًا من التحدي الذي تواجهه القيم المحافظة التي كانت سائدة في المجتمع المصري لعقود من الزمن، حسبما يرى مندور.

فالانتفاضة الشعبية في عام 2011 خلقت "مرحلة انتقالية" بين حالتين اجتماعيتين معياريتين، حيث بدا كل شيء ممكنا، ومكّن هذا الوضع من التشكيك في الأعراف الاجتماعية القائمة بطريقة تسببت في قلق عميق لدى جمهور كبير من المحافظين في المجتمع، الذين رأوا في الجيش وسيلة لإنهاء حالة السيولة الاجتماعية السائدة.

وأثار هذا التحدي، الذي انبثق عن الاحتجاجات الجماهيرية عام 2011، رد فعل شرسًا من النظام وقاعدة دعمه، وكان أحد ساحات الصراع الرئيسية بين النظام ومختلف قطاعات المعارضة.

المؤامرة الخيالية

أما النتيجة الثانية، والتي لا تقل أهمية، عن "القمع المجتمعي"، فهي أن المشاركة في قمع النظام "تتطلب الإيمان بعدد من نظريات المؤامرة الخيالية، التي تكاد تكون السخيفة"، وكان هذا الاعتقاد ضروريًا للنظام، ليس فقط لتلقين أتباعه نسخته من الناصرية، بل أيضًا لغرس عقلية استبدادية لا تقبل الجدل بين قاعدته.

وينوه مندور، في هذا الصدد، إلى أن الأمر لم يقتصر على قيام السيسي ونظامه باحتجاز شريحة كبيرة من السكان كرهائن، بل امتد ليشمل مؤيدي النظام عن غير قصد، إذ ترتكز لحظة هيمنة النظام على حالة من الاستقطاب والعنف الجماعي الذي تمارسه الدولة.

وأثبت هذا البناء الإيديولوجي أنه جذاب للغاية وأكثر ديمومة مما كان متوقعا في صيف عام 2013، ويكمن سر هذه جاذبيته في قدرة النظام على إدامة حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي، فضلا عن قدرته على الاستمرار.

كما أن قدرة النظام على استمالة قاعدته ترتكز على العنف الجماعي الذي تمارسه الدولة والذي ينبغي أن يستمر لتبرير الحكم العسكري المباشر.

ويلخص مندور هذه الحالة بأن النظام المصري يحتاج إلى "أعداء داخليين دائمين وخونة وإرهابيين ومنحرفين اجتماعيين" لقمعهم وليستمر خطابه في جذب قاعدته، مشيرا إلى أن ذلك له عدد من العواقب المقصودة وغير المقصودة، التي سيكون لها آثار طويلة المدى على آفاق التحول الديمقراطي في مصر.

وأوضح نتيجة مقصودة لهذه العواقب هي تلقين شريحة كبيرة من المجتمع روح النظام التي ترتكز على مفاهيم ضرورة التوحد الوطني، وهو التلقين الذي يعمل كحاجز قوي أمام تطور الروح الديمقراطية والمدنية، وهو أمر ضروري لازدهار الممارسة الديمقراطية.

وهذا التلقين ضروري، ليس فقط لبقاء الجيش في السلطة، بل لتبرير احتكاره لها وإعادة هيكلة الدولة والاقتصاد بطريقة لم تشهدها مصر منذ عام 1952، وكل ذلك باسم النسخة الناصرية المتشددة، التي وفرت القاعدة الأيديولوجية لثورة السيسي السلبية ولحظة هيمنتها، بحسب مندور.

ومع ذلك، فإن العواقب المقصودة لأيدولوجية النظام المصري، مصحوبة أيضًا بتداعيات غير مقصودة، ما سيقيد بشدة خيارات النظام السياسية، فعلى سبيل المثال سيكون البناء الإيديولوجي للنظام، الذي يعتمد بشكل كبير على تشويه سمعة المعارضة والإصرار على ضرورة القمع، بمثابة "قيود أيدولوجية تخنق الإصلاح الذي تقوده النخبة" بحسب تعبير مندور.

فالنظام المصري بحاجة إلى حالة من الأزمة الدائمة من أجل البقاء في السلطة، وإذا تم حل الأزمة فإن جاذبيته الأيديولوجية ستتلاشى، ما يتركه أمام خيارات سياسية محدودة في التعامل مع المعارضة.

ومن ثم، فإن احتمال المصالحة الوطنية أو تخفيف القمع يبدو غير مرجح، بحسب مندور، لأن "القمع ضرورة أيديولوجية لا يستطيع النظام الهروب منها"، مشيرا إلى أن ذلك يجعل النظام "غير مستعد للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية، لأنه بدلاً من استيعاب الاحتجاجات الاجتماعية من خلال التسوية، فمن المرجح أن يدعو إلى القمع الجماعي باعتباره الرد السياسي المفضل لديه، مما يحد بشدة من قدرة النظام على امتصاص الغضب الشعبي من خلال التنازلات".

وإذا فعل النظام المصري خلاف ذلك، فسيتعرض لضغوط هائلة، ليس فقط من قاعدته الشعبية ولكن أيضًا من داخل الأجهزة الأمنية، التي تم تلقينها أيديولوجية القمع بعمق.

ولذا يخلص مندور إلى أن الأمر لم يقتصر على قيام السيسي ونظامه باحتجاز شريحة كبيرة من المصريين كرهائن، بل امتد ليشمل مؤيديه عن غير قصد.

المصدر | ماجد مندور/DAWN -ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر عبدالفتاح السيسي محمد مرسي الإخوان المسلمين الاستبداد جمال عبدالناصر

للمرة الثالثة.. صندوق النقد الدولي يواصل خفض توقعاته لنمو الاقتصاد المصري