الصين وحرائق الشرق الأوسط.. غياب دبلوماسي يعكس مصالح ذاتية

الخميس 15 فبراير 2024 12:38 م

سلط ومدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جون ألترمان، الضوء على ما كشفته أزمة البحر الأحمر باستراتيجية الصين تجاه الشرق الأوسط، مشيرا إلى أن الدبلوماسية الصينية، التي اكتسبت ثقة كبيرة بعد رعاية تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران في مارس/آذار الماضي، ظلت غائبة طوال 4 أشهر من الحرب في غزة وانزلاق الشرق الأوسط إلى أعمال العنف.

وذكر ألترمان، في تحليل نشره بموقع مجلة "فورين بوليسي" وترجمه "الخليج الجديد"، أن الساحة شهدت غيابا كاملا لأي دبلوماسية صينية فعلية رغم أكثر من نصف قرن من الدعم للفلسطينيين، وأكثر من عقد من العلاقات الوثيقة مع إسرائيل، وعشرات العلاقات الدبلوماسية واستثمارات بمليارات الدولارات في إيران والسعودية ومصر وغيرها.

وفي الوقت الذي أدت فيه هجمات الحوثيين في البحر الأحمر على مدار 3 أشهر إلى إضعاف التجارة الصينية وبدأت في خنق بعض شركاء الصين الإقليميين، بدت بكين في كثير من الأحيان إما غير قادرة أو غير راغبة في التصرف دبلوماسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً لتعزيز مصالحها، فضلا عن مصالح شركائها.

ويعزو ألترمان ذلك إلى أن الصين تحب الترويج لنفسها باعتبارها قوة عالمية صاعدة، كما تحب انتقاد الولايات المتحدة لأنها لم تحقق طموحاتها العالمية في تأمين السلام والازدهار، مشيرا إلى أن المعلقين العرب قارنوا بين الدفء الذي أحاط بقمة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مع القادة العرب بالرياض في ديسمبر/كانون الأول 2022، والاجتماع الأكثر توتراً بين الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مع القيادة السعودية في جدة قبل 5 أشهر.

وعبرت صحيفة الرياض عن ذلك بنقلها عن "مصادر غربية مستقلة" زعمت أن "المنطقة ستدخل، على المدى المتوسط، في مرحلة الابتعاد عن الإملاءات والهيمنة، نحو مرحلة التوازن الجيواستراتيجي والعدالة السياسية من خلال النفوذ الصيني المبني على التنمية، الاستثمار ورفاهية الشعوب والابتعاد عن الصراعات".

ويشير ألترمان إلى أن ما ذكرته المصادر الغربية هو تحديدا المستقبل الذي ترغب الصين في أن تتبناه دول المنطقة، لكن ما يثير الدهشة هو تقاعس الصين الدبلوماسي خلال الأشهر الأربعة الماضية، ما سلط الضوء على حقيقة مفادها أنه "رغم عقود من الاستثمار في الشرق الأوسط، فإن التركيز الإقليمي الرئيسي لبكين لا يزال هو تقويض الولايات المتحدة".

ورغم أن الصين أصبحت بالفعل لاعباً إقليمياً في الشرق الأوسط، لكنها لا تزال تمارس لعبة مصالحها الذاتية بشكل ملحوظ، بحسب ألترمان.

مصالح الطاقة

وأوضح أن أصل اهتمام الصين بالشرق الأوسط هو الطاقة، وذلك بعد أن أصبحت مستورداً صافياً للنفط لأول مرة قبل 30 عاماً، وعلى مدى معظم العقدين الماضيين كانت تمثل ما يقرب من نصف الزيادة العالمية في الطلب على النفط، وطوال هذه الفترة، كان ما يقرب من نصف واردات الصين من النفط يأتي من الشرق الأوسط.

وإزاء ذلك، فقد كان الاعتماد على الشرق الأوسط بمثابة نقطة ضعف مستمرة للصين، وكانت الولايات المتحدة هي الفاعل الأمني المهيمن في المنطقة لمدة نصف قرن، ويخشى العديد من الصينيين أن تتمكن الولايات المتحدة، في أوقات العداء بين الولايات المتحدة والصين، من قطع إمدادات الطاقة الأساسية عن الصين.

فالشرق الأوسط يضم 3 ممرات شحن حيوية للتجارة العالمية، هي: مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، وتمر عبر هذه الممرات الثلاثة العديد من الحاويات الصينية المتجهة إلى أفريقيا وأوروبا وحتى الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وتستعد البحرية الأمريكية الآن لحماية جميع نقاط الاختناق هذه، "لكنها يمكن أن تمنعها أيضًا" بحسب ألترمان.

ولذا تلخصت استراتيجية الصين في التعايش مع الولايات المتحدة بدلاً من مواجهتها، وإقناع دول المنطقة بتنمية علاقاتها الصينية إلى جانب علاقاتها مع الولايات المتحدة.

وقبل ما يقرب من 10 أعوام، أعلنت الصين عن "شراكات استراتيجية شاملة" مع الجزائر ومصر، ثم أضافت في وقت لاحق السعودية وإيران والإمارات إلى القائمة.

وليس من قبيل الصدفة نجاح بكين في الضغط من أجل انضمام الدول الأربع إلى كتلة بريكس (التي كانت تضم آنذاك: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) في أغسطس/آب الماضي، وهو ما يشكل أربعة أخماس التوسع الإجمالي للكتلة.

 وترحب دول الشرق الأوسط بالدور الإقليمي المتنامي الذي تلعبه الصين، ما يعزوه ألترمان جزئياً إلى أن الصين تحرر تلك الدول من الضغوط الغربية وتمنحهم شريكاً اقتصادياً.

وبعد أكثر من عقد من التصريحات الرئاسية الأمريكية بأن مصالح واشنطن الرئيسية تكمن في آسيا، قد يبدو من التهور أن تفشل دول الشرق الأوسط في بناء علاقة قوية مع الصين، بحسب ألترمان.

وفي السياق، استند طرح الصين على معادلة مفادها أن الدول قادرة على تطوير علاقاتها مع بكين إلى جانب علاقاتها مع الدول الغربية، ورغم أن هذا الأمر صحيح من حيث المبدأ، فقد ثبت من الناحية العملية أنه أكثر تعقيدا، حسبما يرى ألترمان، مشيرا إلى أن الحكومات الغربية تتهم الاستثمارات التكنولوجية الصينية في المنطقة بأنها تهدف إلى تضمين أدوات للتجسس الصيني. ونتيجة لذلك، تنظر الحكومات الغربية في بعض الأحيان إلى حصول الحكومات الإقليمية على تلك التكنولوجيا باعتباره عقبة أمام مجموعة من الترتيبات الأمنية التعاونية.

وعندما تم التوصل إلى الاتفاق السعودي الإيراني في مارس/آذار 2023، صوره الجانب الصيني على أنه يمهد الطريق "لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ويضرب مثالا جيدا لحل المشاكل والخلافات بين الدول من خلال الحوار والتشاور"، ووعد بأن تواصل بكين دورها البناء"، لكن الأشهر التي تلت اندلاع الحرب والعنف في الشرق الأوسط لم تشهد تقديم الصين سوى القليل من التصريحات.

ولم تدن الصين هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ولم تقدم أي اقتراح دبلوماسي لمعالجة أي عنصر من عناصر الأزمات المتلاحقة والمترابطة في المنطقة، سوى الإعلان عن الرغبة العامة في عقد مؤتمر للسلام.

وفي المقابل، ينخرط الدبلوماسيون الغربيون والشرق أوسطيون بعمق في محاولة لإيجاد طريقة ما لإنقاذ الأرواح، والحد من التوترات، وتحرير التجارة العالمية، حسب ألترمان، مشيرا إلى أن بكين تفضل هذا النهج رغم صعوبة القول بأن الأحداث في المنطقة لا تضر المصالح الصينية بشكل مباشر.

خسارة وفرصة

ويشير ألترمان، في هذا الصدد، إلى أن 90% من سفن الحاويات، التي تمر عادة عبر جنوب البحر الأحمر، غيرت مسارها لتجنب المنطقة، وفي الأوقات العادية، تمثل طرق البحر الأحمر حوالي ثلث إجمالي حركة الحاويات العالمية، و40% من إجمالي التجارة بين آسيا وأوروبا.

ويؤدي عنق الزجاجة في مجال الشحن إلى مضاعفة أسعار الحاويات 3 مرات أو 4 مرات، ما يدفع شحنات الطاقة المتجهة إلى أوروبا للإبحار حول أفريقيا وشل سلاسل التوريد بسبب التأخير في التسليم.

والصين ليست دولة تجارية فحسب، بل هي أيضًا دولة بحرية، وتؤثر المشكلات الخاصة بالتجارة العالمية عليها سلبا بشكل مباشر، كما تضر الاضطرابات بالاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط. وفي السياق، ينوه ألترمان إلى أن الصين ضخت عشرات المليارات من الدولارات في منشآت بالبحر الأحمر، تشمل قاعدة عسكرية في جيبوتي ومنشآت بالموانئ والسكك الحديدية والمصانع وعدد لا يحصى من المشروعات الأخرى في شرق أفريقيا والسعودية والسودان، وذلك من خلال شراكتها مع تلك الدول بمبادرة الحزام والطريق التي تم الترويج لها على نطاق واسع، وجميعها باتت معرضة للخطر بسبب تعطل حركة الشحن في البحر الأحمر.

وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، يهدد وكلاء إيران بدفع المنطقة نحو الحرب، ويفعلون ذلك جزئياً من خلال هجماتهم على إسرائيل، التي كانت هي نفسها تعمل بشكل مطرد على تنمية علاقاتها مع الصين منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.

ووفقا لتتبع الاستثمار العالمي في الصين، التابع لمعهد المشروعات الأمريكية، فقد استثمرت الصين ما يقرب من 9 مليارات دولار في إسرائيل على مدى السنوات العشر الماضية وبنت مشاريع بقيمة 3 مليارات دولار.

ومع ذلك فإن هذه الأزمة تمثل "فرصة" للصين من زاوية أخرى، وقد فعلت بكين أمرين للاستفادة من الأزمة: الأول هو انتقاد الولايات المتحدة، والسعي إلى تحفيز العداء في الجنوب العالمي للدور الأمريكي في الشرق الأوسط، والثاني هو الاهتمام بمصالحها الاقتصادية المباشرة، إذ استفادت السفن الصينية من طلب متزايد لأنها بمأمن عن مظنة استهداف الحوثيين لها.

بل إن بعض السفن التجارية، التي تبحر عبر البحر الأحمر، تتعمد الإعلان عن أن "جميع أفراد طاقمها من الصين" على أجهزة تتبع السفن؛ لتجنب الهجمات.

ويخلص ألترمان إلى أن دبلوماسية الصين في الشرق الأوسط تسعى جاهدة إلى التكيف مع الظروف المتغيرة بسرعة، وتُظهر في الوقت نفسه نفورًا من القيام بأفعال صعبة تخدم المنفعة المشتركة، وبدلاً من ذلك، يلجأ المسؤولون الصينيون إلى البحث عن طرق هامشية لتعزيز مصالحهم الخاصة على حساب الشركاء والحلفاء.

 ويرى مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في هذا النهج تناقضا مع منطق "الربح للجميع" الذي تروج له الصين في كثير من الأحيان باعتباره بطاقة الاتصال الإقليمية الخاصة بها، معتبرا أن "بكين تجلس الآن على الهامش بينما يخسر الجميع، بما في ذلك الصين".

المصدر | جون ألترمان/فورين بوليسي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الصين الشرق الأوسط إسرائيل الحوثيين العرب بكين