استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

في محبة «علي الطنطاوي» (ر)

الأربعاء 29 يونيو 2016 10:06 ص

كان التلفزيون الأردني، بالأبيض والأسود. وفي ساعات الإفطار في رمضان، في سنواتٍ من يفاعة صاحب هذه الكلمات، كان شيخٌ شاميٌّ دافئ الحضور، يطلّ على الشّاشة، يتحدّث إلينا، نحن على المائدة، بلثغةٍ محبّبةٍ وتلقائيةٍ عذبةٍ، عن الإسلام ديناً ودنيا. وكان تطوافُه على قصص وفتاوى وأدعيةٍ وحكاياتٍ حلواً، ببساطةٍ تجعلنا ننجذب إلى ما نسمع، فنزداد بهجةً بالفطور.

تستنفر أخيلتَنا الغضّة مروياتُ الشيخ عن ذكرياته وأسفاره، وسرودُه بشأن مسائل وفيرة. وإتْيانُه على سيرة الرسول وسير الأتقياء والصالحين. كنّا نُنصتُ إلى زائرنا قدّامنا على الشاشة، كأنه شريكُنا في جلستنا "على مائدة الإفطار"، وهذا اسم برنامجه عند غروب كل يوم رمضاني.

يقول البسيطَ والعميقَ والدالّ عن تاريخ المسلمين، وعن سجايا المسلم النظيف القلب، المحبّ لجيرانه وناسِه وبلده. وينتقل الشيخ من ماضٍ إلى حاضر، وببشاشةٍ مفرحة، يرمي نكتةً موحيةً. نصغي إلى ما يقول، حتى إذا ما انتهى، ودعا لنا بهناءة البال، نصيرُ في شوقٍ لعودته ساعة إفطار اليوم التالي. 

أتحدّث عن الشيخ علي الطنطاوي (1909-1999)، الأديب والقاضي والداعية والصحافي والإذاعي والحقوقي، صاحب تلك الإطلالة التلفزيونية التي كانت تفيضُ سماحةً، وكانت حواسّنا ومداركنا تنسرق إليها، قبل أن نكبر، وقبل أن يصير الشيخ في مطرحٍ بعيدٍ في الذاكرة، وقد تناسلت التلفزات والفضائيات، وازداد الدعاةُ والوعّاظ والشّراح والمشايخ على شاشاتها.

ثم قبل سبع سنوات، أصادف خبر وفاة الرجل الجليل، في العربية السعودية حيث كان يقيم، منذ غادر سورية إليها، بُعيْد انقلاب 1963، فاستدعى الخبر إلى النفس تلك الصُّحبة معه في ساعات الإفطار الثاوية في الذاكرة، ولطافته التي لا تُنسى، وإحاطةَ علمه بالدين وشؤون الدنيا. 

أيقظت "الجزيرة الوثائقية"، قبل أيام، بعرضها فيلماً جيّداً عن سيرة علي الطنطاوي، في ذاكرة ملايين من العرب، تلك الأُلفة الحميمة معه، وجاء الفيلم على وصفه "فقيه الأدباء وأديب الفقهاء"، لدرايته المكينة بأسرار العربية وآدابها، وبقدامى شعرائها، ما أفاد منه كثيراً، وهو يتباسط مع مستمعيه في أمسياته التلفزيونية، وقبلها في أحاديثه الإذاعية في سورية والعراق، في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته وما تلاهما (هل من يتذكّر؟).

وفي السعودية تالياً، وهو يتحدّث عن سجايا المسلم كيف يحسُن أن تكون، لا عابداً ربّه فقط، بل إنساناً رفيع الخلق، ذا رحابةٍ في صلته بالناس. وأظنّنا، في أيام الخراب العربية هذه، الباهظة الكلفة على مجتمعاتنا وأوطاننا، أحوجُ ما نكون فيها إلى دروس علي الطنطاوي، إلى وعظِه وحسن دعوته، إلى قطوفٍ غير قليلةٍ مما كان يقول ويعلّم ويُفتي ويشرح ويحكي. وفي البال أن اسم واحدٍ من كتبه "تعريفٌ عام بدين الإسلام". ومن رداءة أيامنا التعيسة هذه، أننا صرنا، ناشئةً وفتياناً وشباباً وكهولاً، في حاجةٍ إلى معرفة الإسلام، ما هو، وكيف يكون المرءُ مسلماً، ولا سيما أن ذوي الهوى الداعشي صاروا غير قليلين، في منابر ومدارس وجامعاتٍ في غير بلد عربي. 

أضاء الفيلم (أعتذر عن عدم معرفتي من أنجزوه) جيّداً على مسيرة الشيخ الطنطاوي، منذ صغره تلميذاً في مدرسةٍ دمشقية، وهو الذي كان يموت حباً في دمشق التي ألّف كتاباً عنها، مروراً برحلته إلى القاهرة في 1928، حيث بدأ العمل في الصحافة هناك، ثم زاولها في غير جريدةٍ ومجلةٍ في سورية. وانصرف إلى دراسة الحقوق في الجامعة، وعمل في التعليم.

وارتحل إلى العراق معلماً في بغداد وكركوك والبصرة، ثم عاد إلى سورية، وصار إذاعياً معروفاً، ثم قاضياً، وأشرف على إنجاز قانونٍ متقدّم للأحوال الشخصية، حتى إذا ابتلي بلدُه بحكم العسكر البعثيين، خرج إلى حيث تيسّر له أن ينفع، بعلمه ومعرفته وبتآليفه ودروسه، في العربية السعودية، تلاميذ له بلا عدد، وملايين من المُنصتين إلى أحاديثه.

ولم يتزيّدوا في شيء من تحدثوا في الفيلم عنه، من بناته وحفيداته وأصدقائه وطلابه ومحبّيه، لمّا أوجزوا عن شمائل هذا الرجل البديع ومناقبه، فقد أدرك الفتى الذي كنتُه معرفةً بقسطٍ منها، على موائد إفطارٍ غير منسيّة، كانت شهيةً أكثر في صحبة علي الطنطاوي، رحمه الله.

* معن البياري كاتب وصحفي من الأردن رئيس قسم الرأي بـ"العربي الجديد".

  كلمات مفتاحية

علي الطنطاوي شهر رمضان انقلاب 1963