«سي آي ايه» وانقلاب تركيا: هل تورطت الاستخبارات الأمريكية في المحاولة الفاشلة؟

الأحد 18 سبتمبر 2016 09:09 ص

قاطع السفير الأمريكي اجتماعا لمجلس الوزراء التركي. وقد كان هناك لمنعهم من اتخاذ قرار يالتدخل عسكريا في سوريا. وقال للزعيم التركي أن واشنطن «لا ترغب في رؤية الأتراك يتجاوزون الحدود. سيكون القيام بذلك ضررا بالغا».

وقد أمال رئيس الوزراء التركي رأسه، وقال إن أنقرة «تعرب عن امتنانها العميق وشكرها للحكومة الأميركية لما تقوم به للحفاظ على السلام في المنطقة». ونتيجة لذلك، امتنعت تركيا عن الانتقال إلى سوريا. وبعد ثلاث سنوات، أزال انقلاب رئيس الوزراء التركي عن السلطة، وقتله الجنرالات الذين وقفوا وراء الانقلاب بعد ذلك بوقت قصير.

لا تصف السطور السابقة ما يجري الآن في تركيا. فقد حدثت المناقشة السالفة في عام 1957، كما هو مسجل في ملفات وزارة الخارجية السرية في إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية. في حين وقع الانقلاب المذكور في عام 1960. وكان السفير الأمريكي هو «فليتشر وارن» ورئيس الوزراء التركي هو «عدنان مندريس».

سقطت سوريا في المعسكر المناهض للغرب نتيجة لطرد الرئيس الموالي للغرب «أديب الشيشكلي» في عام 1954. وقد تم تدبير الانقلاب من قبل الحزب السوري الشيوعي، والرئيس السوري السابق «نور الدين الأتاسي»، وضباط دروز في الجيش السوري.

وبعد الانقلاب، تمتعت العناصر القومية الشيوعية والعربية بأكبر قدر من السيطرة داخل الجهاز السياسي والعسكري في البلاد. وكان كل من الأتراك والأمريكيين ينظرون إلى ما بعد الاستيلاء الشيوعي على سوريا، الذي يشكل تهديدا حيويا لاحتواء المد الشيوعي في المنطقة. واعتبرت حكومة «مندريس» التدخل العسكري مهما لمنع السيطرة الشيوعية الكاملة في سوريا، كما كان «مندريس» يأمل في الحفاظ من خلال ذلك على انشغال ضباط الجيش مع سوريا. وسعت واشنطن لعرقلة الشيوعية في سوريا عبر العمل السري لوكالة المخابرات المركزية.

لم يكن السفير «وارن» يريد لتركيا أن تتدخل في سوريا لأن واشنطن كانت، في ذلك الوقت، في خضم محاولة لإزالة الحكومة اليسارية السورية عن طريق العمل السري. ووزعت وكالة المخابرات المركزية الأموال لتمويل أعمال شغب من قبل أتباع الرئيس السابق «الشيشكلي.» وكلفت تركيا بخلق الاضطرابات الحدودية في الشمال لتبرير استخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر. وكان التهديد العسكري التركي الواضح ضد سوريا يؤدي بالفعل لتماسك اليسار السوري. أرادت الولايات المتحدة أيضا تجنيب تركيا، عضو حلف الناتو، عن الإيقاع بنفسها إلى الحرب الساخنة في الشرق الأوسط.

على الرغم من أن الوضع كان مختلفا ووقع في وقت مختلف، فإن هذه الحلقة توضيحية لأولئك الذين يتعاملون مع التحديات في المنطقة اليوم. هذه القصة القديمة تشير أنه على الرغم من التكهنات، كان لدى وكالة المخابرات المركزية عدد من المسائل الملحة الأخرى سوى تحليل السياسة الداخلية لتركيا بطريقة تسمح بتقديم الإنذار المبكر من الانقلاب.

خلال كل من حلقتي 1960 و 2016، لعبت تركيا دورا مهما في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. أسهم تركيز واشنطن على المنطقة في صرفها عن التركيز على الاستقرار الداخلي في تركيا. في عام 1960، عندما أزال الانقلابيون «مندريس» من السلطة، فوجي المحللون في وكالة المخابرات المركزية بذلك لأنهم انشغلوا بالتركيز على المنافسة الاستراتيجية الشاملة مع الاتحاد السوفيتي. وهذا على الأرجح هو ما حدث مع محاولة الانقلاب الأخيرة: كانت وكالة المخابرات المركزية تركز على الأرجح على روسيا، والحرب الأهلية السورية، وكيف يمكن أن تحقق تركيا أهداف سياستها الخارجية في العراق وسوريا. على هذا النحو، لا ينبغي أن يفاجأ أحد إذا فشلت وكالة الاستخبارات المركزية في التحذير من الانقلاب حتى لو كان لديها بعض المعلومات الاستخبارية مسبقا حول أن عناصر في القوات المسلحة التركية كانوا يخططون لشيء. ويجب علينا ألا نفاجأ إذا تم رفض هذا في لانغلي (مقر وكالة الاستخبارات) لأنه، وحتى 15 يوليو/تموز، كانت الحكمة التقليدية في الغرب ترى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في عهد «أردوغان» أصبح أضعف كثيرا من ذي قبل.

وبطبيعة الحال في تركيا، حيث تزدهر نظريات المؤامرة، فإن كثيرين اليوم يعتقدون أن وكالة المخابرات المركزية كانت على علم بمحاولة الانقلاب الشهر الماضي. وحتى بعض السياسيين الأتراك رفيعي المستوى أفصحوا عن هذا الرأي.

ولكن هذا لا معنى له عند النظر في وكالة الاستخبارات المركزية كوكالة لديها ميزانية وموارد بشرية محدودة. وتتمثل مهمتها في إبلاغ صناع القرار حتى يتمكنوا من التعامل مع التطورات التي تؤذي المصالح الأميركية. يجب أن يكون هناك أولويات لبعض المناطق. إنها ببساطة لا يمكنها التركيز على كل شيء. الأدلة التاريخية من الحرب الباردة تدلل بوضوح ما هي أولويات وكالة الاستخبارات المركزية في تركيا، وكيف أنها تسببت في التغاضي عن أدلة على وجود انقلاب يقترب في عام 1960.

أولويات أخرى

خلال أواخر الخمسينيات، كانت وكالة الاستخبارات المركزية معنية بشكل كبير بتركيا لأسباب تتعلق بالحرب الباردة. لقد كانت نقطة انطلاق جيدة لإطلاق عمليات التجسس والدعاية التي تستهدف الكتلة السوفيتية.

وتحقيقا لهذه الغاية، أجرت وكالة الاستخبارات المركزية الكثير من عملياتها بالاشتراك مع خدمات الأمن القومي (MAH)، الوكالة السابقة لمنظمة الاستخبارات الوطنية التركية (MIT). عند الإطلاع على وثائق رفعت عنها السرية في إدارة السجلات الوطنية والأرشيف الأمريكية في وقت مبكر من عام 1956، يتضح أن وكالة الاستخبارات المركزية وخدمات الأمن القومي قاما بالاشتراك في تدريب وحدات مكافحة العصابات في المواقع العسكرية التركية ضد الغزو السوفيتي المحتمل. وفي الوقت نفسه، كشفت وثائق المخابرات البريطانية السرية في الأرشيف الوطني البريطاني أن أنقرة كلفت خدمات الأمن القومي بتسليم أسلحة إلى الأتراك في قبرص لتحقيق التوازن مع التمرد اليوناني هناك ضد الحكم البريطاني.

في الوقت نفسه، راقبت وكالة الاستخبارات المركزية الأتراك عن كثب للتأكد أنهم لن يسحبوا واشنطن إلى أي صراع أكبر مع السوفيت. وكان هذا الاحتمال قائما لأن أنقرة لديها طموحات في الشرق الأوسط أكبر من قدراتها. وتظهر الوثائق السرية في مكتبة «أيزنهاور» الرئاسية على سبيل المثال، أنه خلال التدخل الأمريكي في لبنان في عام 1958، أمر الرئيس التركي «جلال بايار» خدمات الأمن القومي بالاتصال مع الشبكات القبلية في العراق، وتحديدا بالقرب من الموصل وكركوك. وكانت خدمات الأمن القومي تفعل ذلك من أجل تمهيد الطريق لغزو تركي محتمل.

أبقت واشنطن نفسها مواكبة لطموحات تركيا الإقليمية، ولكنها كانت أقل وعيا حول تنامي السخط داخل الجيش التركي. تجسست حكومة «مندريس» على الضباط الذين كانوا يظهرون استياءا واضحا من حكومة «مندريس». لم تتوقع وكالة المخابرات المركزية حدوث الانقلاب على الرغم من التقارير التي أشارت إلى عكس ذلك.

في الواقع، قبل عام واحد فقط من الانقلاب، تلقت وكالة المخابرات المركزية معلومات مباشرة من وزير الدفاع التركي «ابراهيم أدهم مندريس»، الذي ذكر أنه «في حال استمرت التوجهات القمعية الحالية للنظام الديمقراطي فإن القادة العسكريين سوف يتدخلون وسوف تكون نتيجة دكتاتورية». وقد كان تقييم وكالة المخابرات المركزية لوجهات نظره إلى أنها «ملونة سياسيا»، وبالتالي مشكوك فيها، وذلك وفقا لتقارير الاستخبارات الرئاسية السرية.

وقيل إن وكالة المخابرات المركزية لم تعط المعلومات ما يكفي من الاهتمام لأنها ركزت على الحرب الباردة، وليس على مراقبة الجيش التركي وتخطيطه لمؤامرات انقلابية محتملة. في ذلك الوقت، كان أكبر قدر من طاقة وكالة الاستخبارات المركزية في تركيا قد خصص لإجراء عمليات التجسس السرية ضد السوفييت. الوكالة ببساطة لم يكن لديها متسع لتطوير وجهة نظر حول قادة الانقلاب المحتملين أو نواياهم، فقد أبطل إطار الحرب الباردة كل الاعتبارات الأخرى.

معلومات تم التغاضي عنها

من الأسلم إذا أن نفترض أن نائب الرئيس الأميركي «جو بايدن» على الأرجح كان صادقا تماما عندما حاول مواجهة المضاربات بشأن معرفة الولايات المتحدة مسبقا بمحاولة انقلاب يوليو/تموز بالقول: «إن الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لديها أي معرفة مسبقة بما حدث ليلة 15 يوليو/تموز». اليوم، كما كان الحال في عام 1960، تركز وكالة الاستخبارات المركزية بشأن المسائل الإقليمية الأكبر، وأبرزها الدولة الإسلامية، والحرب الأهلية الدائرة في سوريا، والتحركات الروسية في المنطقة. وينظر إلى تركيا إلى حد كبير من خلال منظور هذه القضايا. السؤال الأساسي الذي يشغل المحللين في وكالة المخابرات المركزية الذين يركزون على تركيا هو: كيف ستكون تركيا مساعدة أو معيقة للسياسة الخارجية لواشنطن؟

وعلاوة على ذلك، فقد تضاءلت أهمية الجيش في الشؤون السياسية التركية بشكل كبير منذ الانقلاب الذي أطاح بـ«مندريس». وأكمل الرئيس «رجب طيب أردوغان» على ذلك من خلال سلسلة من عمليات التطهير، وقال انه حقق ما لم يحققه زعيمان مدنيان قبله عل صعيد تدمير «الدولة العميقة» التي تسيطر على الجيش و الشبكة السرية التي تعمل على تشكيل السياسة والعملية القضائية. من خلال سلسلة من عمليات التطهير، وعلى الأخص ما من خلال ما تسمي بقضية «أرغيننيكون»، أو محاكمات المطرقة، قام «أردوغان» بإزالة الجيش من وضعه في السلطة.

في هذه البيئة، فإن وكالة الاستخبارات المركزية من الطبيعي أن تكون أقل ميلا لاتخاذ مؤشرات أن الجيش سوف يزيل «أردوغان» من السلطة بشكل جدي. حتى لو لم تكن الوكالة منشغلة عن ذلك بقضايا الدولة الإسلامية والمسائل الجيوسياسية الأخرى، فإن معظم المحللين على حد سواء في الوكالة وأماكن أخرى لن يشتبهوا في تلك الدولة العميقة التي ظنوا أنها تواجه سكرات الموت.

وقد قال المدير «جون برينان» عندما سئل عما إذا كانت وكالة الاستخبارات المركزية استشرفت محاولة الانقلاب: «عند قراءة ما بين السطور، وبيانات وكالة المخابرات المركزية فإن ذلك يشير أن الوكالة لم تعرف ما سيحدث. وبوضوح لم يكن مثل هذا السيناريو مصنف كاحتمال خطير».

في انتظار ظهور أدلة جديدة، وبالنظر في المقارنة التاريخية مع عام 1960، واستخدام الحس السليم، لا توجد هناك إشارة تذكر أن وكالة الاستخبارات المركزية كان لها يد في محاولة الانقلاب الفائتة. ورغم أنه قد هناك بالتأكيد بعض معلومات حول التذمر وصلت للوكالة أثناء قيامها بجمع المعلومات الاستخباراتية، إلا أنه من المحتمل أنه التغاضي عنها، كما حدث في عام 1960. وعلى الرغم مما تقوله نظريات المؤامرة، فقد فوجئت وكالة المخابرات المركزية كما فوجئ الجميع بمحاولة الانقلاب .

المصدر | وور أون ذا روكس

  كلمات مفتاحية

تركيا واشنطن سي آي ايه أردوغان انقلاب تركيا العلاقات التركية الأمريكية الانقلاب الفاشل