الكويت .. التجـربة النـيـابـية في مهـب المـنـازعـات

الخميس 20 أكتوبر 2016 04:10 ص

حظي النظام السياسي في الكويت بسمعةٍ طيبةٍ يستحقها، مع اعتماده في وقت مبكر على الخيار البرلماني. وقد كان رائداً في منطقة الخليج العربي بخياره هذا، والذي ارتدى قيمة مضاعفة حين اقترن استقلال البلاد 1961 بانفتاحها على الحياة الديمقراطية، وفي ذلك رسالة بليغة مفادها بأنّ الاستقلال، على أهميته القصوى، لا يكفي وحده، وأنه يكتمل بالمشاركة الشعبية في صنع القرار ومراقبة الأداء الحكومي والتوافق على القوانين الصادرة.

لم يقتصر الأمر على الحياة النيابية (على الرغم من نقصٍ اعتراها باستبعاد النساء من الترشيح والاقتراع 42 عاماً) إذ شهدت البلاد حياةً نقابيةً شملت نقابات العمال، وتمتّعت البلاد بحريةٍ نسبيةٍ للصحافة. 

وعلى الدوام، كانت هناك معارضة سياسية وبرلمانية هي جزء من الحياة العامة، ولا توصم بصفاتٍ تُخرجها من وطنيتها. ويعتبر الأمير الشيخ عبد الله السالم الصباح (1895 – 1965) راعي دستور الاستقلال، والتجربة النيابية، وتوقيراً منه للمجلس المنتخب، قام بأداء القسم أمام مجلس الأمة في العام 1963، على الرغم من أنّه كان قد مضى عليه في سدة الحكم 13 عاماً.

 

خمس مرات في عشر سنوات

وحتى العام 2006، كان قد جرى حل مجلس الأمة (النواب) ثلاث مراتٍ خلال 43 عاماً من عُمر المجلس، وهو وضع مقبول في الديمقراطيات العصرية، لكن السنوات العشر الأخيرة شهدت صدور خمس قراراتٍ بحل المجلس، آخرها جرى قبل أيام وقبل زهاء سبعة أشهر على موعد انتهاء فترة المجلس، الأمر الذي استوقف المهتمين بالتجربة النيابية في الداخل والخارج.

وأشّر على عطبٍ تكوينيٍّ، ما انفك يتفاقم ويحول دون ممارسة الحياة النيابية بصورة سلسة وطبيعية. إذ كان حل المجلس، في كل مرة، يرتبط باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة كل مرة. وبهذا، شمل الاضطراب عمل السلطة التنفيذية، لا التشريعية فقط.

تسوق السلطات مسوّغات الحل، بغياب التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكثرة الاستجوابات، والطابع الشخصاني لمواقف معارضين عديدين في البرلمان، وقد كان السبب المباشر لحل مجلس الأمة، أخيراً، بروز احتجاجات واسعة فيه على رفع الدعم عن المشتقات النفطية، بما فيها مادة البنزين وتحرير أسعاره. وقد لجأ برلمانيون إلى القضاء الذي قضى بقرار ابتدائي ببطلان القرار الحكومي رفع سعر هذه المادة الحيوية، وإعادة العمل بالسعر القديم. 

وكانت الحكومة تقدّمت بمقترح تزويد المواطن بـ 75 لتر بنزين شهرياً، إلا أنّ الاقتراح لم يلق تجاوباً نيابياً، وكانت الكويت قد تأثرت، مثل غيرها، من الدول المنتجة للنفط، بانخفاض أسعاره وفرضت رسوماً على بعض الخدمات، وهو أمرٌ لا يلقى قبولاً في مجتمعٍ اعتاد على دولة الرعاية الكاملة لاحتياجاته الأساسية كافة، من دون تحمّل ضرائب أو رسوم تذكر سوى الرمزية منها. كما ثارت نقاشاتٌ حامية في المجلس حول الإسكان، وما عُرف بـ "البصمة الوراثية" التي انفردت الكويت باعتمادها.

وثمّة استخلاصات إضافية، منها أنّ اعتماد طريق المعارضة يمنح المعارضين فرصةً للنجومية، عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، فضلاً عن أنّ النائب المعارض يضمن، إلى حد بعيد، فوزه في الانتخابات اللاحقة، بخلاف النائب الموالي أو الهادىء الطرح. وهناك من يذهب إلى أنّ تقاليد المعارضة السياسية لم تستقر أو لم تتبلور. إنها تختلط بمفاهيم قبلية وشخصية، وبنزعات المشاكسة والمناكفة والتحدّي، وليس بالتنافس على تقديم أفضل الحلول للمشكلات العامة، وتمكين البلاد من السير على طريق التقدّم في جميع المجالات.

أما المعارضون فيرون الاستجوابات للوزراء، بمن في ذلك الذين ينتمون لعائلة الصباح الحاكمة، حقاً دستورياً لهم، وأن تقديم وزراء استقالاتهم لتفادي الاستجواب هو ما أشاع حالةً من الاضطراب منذ العام 2006، وأنّ التعاون بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية، يجب أن يصدر عن الجهتين، لا عن طرف واحدٍ هو البرلمان، وأن السلطات تقبل على مضضٍ وجود المعارضة. 

وسبق أن جرى اتهام الحكومة بتقديم منح (رشى) لنوابٍ موالين بعشرات ملايين الدولارات في العام 2011، علماً أن ذلك، إن تمّ، فهو يلحق الضرر بسمعة هؤلاء النواب، لا الحكومة فقط. وقد وحّدت هذه القضية صفوف نواب المعارضة، الليبراليين والقوميين والإسلاميين. وفتح القضاء تحقيقاً يشمل الحسابات المصرفية لـ14 نائباً على الأقل من أصل 50 نائباً.

وواقع الأمر أنّ العام 2011 شهد أوّل اضطراب سياسي من نوعه، ففيه، وعلى إيقاع موجة الربيع العربي، اندلعت مظاهراتٌ قوية تمّ خلالها اقتحام البرلمان والمناداة بإسقاط رئيس الحكومة آنذاك، ناصر محمد الأحمد الصباح، وأسهم بعض النواب بإلقاء خطاباتٍ ناريةٍ، منهم النائب مسلم البراك (60 عاماً) الذي واظب، في ما بعد، على إلقاء خطاباتٍ جرى اعتبار أحدها في العام 2012 ماسّاً بالذات الأميرية. 

ولم يلبث البراك أن توارى عن الأنظار، وصدر بحقه حكم غيابي عن محكمة التمييز بالسجن سنتين، إلى أن تمّ توقيفه في يونيو/ حزيران 2015، واقتيد الى السجن، وما زال رهن الاعتقال. وتعتبر بعض أوساط المعارضة أنّ توقيت إجراء انتخابات جديدة في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يُقصد به، بين أمور أخرى، عدم تمكين البرّاك من الترشح. والرجل هو أحد أعضاء كتلة العمل الشعبي (جمعية سياسية)، ويُصنف معارضاً قبلياً.

أدّت اضطرابات خريف العام 2011 إلى حلّ مجلس الأمة في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، وجرت انتخابات جديدة بعد شهرين، إلا أنّ قراراً من المحكمة الدستورية في 20 يونيو/ حزيران 2012 قضى ببطلان انتخابات مجلس الأمة (الجديد)، وحل ذلك المجلس، وتمت إعادة المجلس السابق، في واحدةٍ من أكثر الأزمات السياسية احتداماً التي شهدتها الكويت منذ العام 2006.

 

نزاع السلطتين التشريعية والتنفيذية

هكذا، يطغى النزاع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على الحياة السياسية والعامة في الكويت، من دون جسم اجتماعي ثالث، يجسّر ما بينهما، وبينما تتوفر في هذا البلد جمعيات سياسية، تقوم بإيصال بعض مترشحيها إلى مقاعد البرلمان، مثل الحركة الإسلامية والدستورية والجمعية الثقافية الاجتماعية، إلا أن تشكيل الأحزاب محظور.

ومن المنطقي، بعد مضي أكثر من نصف قرن على الاعتراف الرسمي الواقعي بوجود جمعياتٍ تمارس النشاط السياسي، أن يُصار إلى تنظيم الحياة السياسية بتشريع الأحزاب، إلا أن صيغة العمل الحزبي ما زالت غير مقبولة لدى دوائر الحكم، غير أن بعضهم يرى أن الأحزاب السياسية، بالمعنى الموضوعي قائمة في الكويت (د. محمد الفيلي/ كلية الحقوق، جامعة الكويت).

والمقصود الجمعيات القائمة، والتي يتخذ بعضها اسم حزب، ومنها، المنبر الديمقراطي الكويتي، جمعية الثقافة الاجتماعية، التحالف الإسلامي الوطني، جمعية الإصلاح الاجتماعي، التكتل الليبرالي، تجمع الحركة الدستورية الإسلامية، الميثاق الوطني، تجمع العدالة والسلام، كتلة العمل الشعبي، حزب المحافظين المدني، حزب الأمة، التجمع الإسلامي السلفي، التيار التقدّمي، التحالف الوطني اليمقراطي، تجمع ثوابت الأمة. وتتوزع هذه التيارات بين تكتلاتٍ إسلامية، سنية وشيعية، وأخرى وطنية محافظة، وثالثة ذات صبغة يسارية. 

غير أنّ النفوذ الأقوى يظل للتيارات الدينية التي توصل أعداداً من مترشيحها، يقل أو يزيد، في كل انتخاباتٍ عن مرات سابقة، إلا أن نفوذها في المجتمع يبقى قوياً، وهو ما ينعكس على مجلس النواب وأدائه وخطاباته.

الآن، وبعد حل المجلس للمرة الثامنة، من المؤسف أن تبدو التجربة البرلمانية في الكويت، وكأنها بلغت طريقاً شبه مسدود، وأن تفقد عنصر الجاذبية، وأن تتوقف عن كونها مصدر إلهام للآخرين، إذ على العكس من ذلك، تجد الاتجاهات المحافظة في مجتمعات الخليج في التطورات السلبية للتجربة الكويتية فرصةً للنيْل من هذه التجربة، وتبخيسها قيمتها، والتحذير من الاقتداء بها، والنسج على منوالها، وتظهير الديمقراطية وصفةً للانقسام والمنازعات.

 

للخروج من المأزق

والتحدّي الماثل الآن هو في طبيعة الرد على هذا المأزق، من السلطات، كما من القوى الاجتماعية والسياسية، فالجميع متفقون على أن لا تراجع إلى الوراء، وأن الحياة السياسية لا تستقيم بغير حياةٍ نبابيةٍ، والإقرار بشرعية الحكم، لكن عامل الثقة المتبادلة أصابه قدر من الاهتزاز، فالسلطات ترى أن الحياة النيابية تحولت، في جانبٍ منها، إلى عبثٍ سياسي، واستعراض شخصي، والمعارضة، على اختلاف تلاوينها، تشكّك في جدية المسار الديمقراطي، وترى أن السلطات تعمل على ترويض المعارضة، وتسعى إلى برلمانٍ طيّع سلس القياد.

يتطلب الوصول إلى نقطة الاستعصاء هذه من الفاعلين، في مختلف مواقعهم في الحكم وخارجه، العمل على كسر الحلقة المغلقة بالتفكير بتعديلاتٍ دستوريةٍ، تضمن رفع الحظر عن تشكيل أحزابٍ من جهة، وتفادي أن تنخرط جمعياتٌ اجتماعيةٌ أهلية في العمل السياسي من جهة ثانية، وأن تحتفظ هذه بصفتها جمعيات نفعٍ عام تشارك في التنمية. 

وإذ يبرز محذور أن تعيد أية أحزاب مستقبلية إنتاج الواقع القائم مع تغيير في المسمى فقط، من تكتل أو حركة أو منبر إلى حزب، فإن أية تعديلاتٍ مفترضة لا بد أن تضع، منذ البداية، حداً يمنع إذكاء الهويات الطائفية والقبلية، ويشدّد على مبدأ المواطنة والانتماء الوطني والقومي والاسلامي. وقد بدأت ترتفع في الكويت أصواتٌ في هذا الاتجاه، حيث دعا "النائب" عبدالله التميمي إلى إطلاق حرية تشكيل الأحزاب "بدلاً من الفوضى القائمة"، على أن تكون الأحزاب المرخصة خارج الانتماءات العرقية والطائفية. 

ليس سراً ان البلد يشهد، مثل غيره من بلدانٍ ذات ظروف مشابهة، استقطاباً طائفياً بين السنة والشيعة. ولكن، تحت مظلة من التعايش الحذر والمنضبط، ومع ولاء الطرفين للدولة وقيادتها الشرعية. وتختلط الطائفية بنزعةٍ قبليةٍ وعائليةٍ ومناطقية، بما يجعل البلد "الصغير" عًرضةً لارتفاع الحواجز بين مكوناته الاجتماعية. 

ومن أجل تحقيق غايات الاندماج الاجتماعي والوطني، فإن الأحزاب، كمؤسسات سياسية، مؤهلةٌ نظرياً لأن تؤدي دور تجديد الاندماج بالتدريج، بما يفتح الطريق أمام تحديث الدولة والمجتمع، علماً أن جمعيات سياسية قائمة نشأت بعيداً عن الانتماءات العرقية والطائفية، على أن تتضمن التعديلات الدستورية المفترضة ما يفيد بتشكيل حكوماتٍ تستند إلى واقع الحياة النيابية، وتضم وزراء ينتمون إلى الأحزاب الممثلة في البرلمان، إلى جانب وزراء مستقلين.

والدرس البليغ، بعدئذٍ، من التجربة، بحلوها ومُرّها، هو أنّ الحياة النيابية والديمقراطية لا تستقيم بصندوق الاقتراع وخيارات الناخبين فقط، فلا بد من بيئةٍ سياسيةٍ وثقافية متطورة، وتطويرٍ مضطرد في القوانين، لضمان التنافس من أجل الصالح العام، والاعتراف بحقوق الآخر وكرامته لا التعايش معه فقط (رفض مجلس الأمة الاعتراف بحقوق النساء في الترشيح والاقتراع حتى العام 2006)، والاقتداء بالمجتمعات المتقدّمة، فلا تتحوّل الخصوصية، أو الهوية، إلى قيدٍ يعيق الانتفاع الفعلي من تجارب الآخرين الناجحة. 

وقد فاخرت الكويت، على الدوام، بتجربتها النيابية المثمرة، ولها الحق في هذا، لكن الأوان آن لمراجعة التجربة، من أجل تطويرها ورفدها، من داخلها ومن خارجها، بكل ما يفيدها، في أجواء من تنميةٍ سياسيةٍ مزدهرة، واحتكامٍ إلى سيادة القانون، يشمل المواطن والمقيم، ومن حرياتٍ عامة وفرديةٍ مصانة.

* محمود الريماوي كاتب صحفي وروائي أردني/ فلسطيني

المصدر | محمود الريماوي | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

الكويت الحياة النيابية الجمعيات السياسية التعديلات الدستورية الاندماج الاجتماعي عبدالله السالم الصباح المعارضة الدستور