رحلات المملكة: ما يغفله الباحثون الغربيون في حديثهم عن السعودية

الأربعاء 26 أكتوبر 2016 12:10 م

الكتابة عن الثقافات الأخرى صعبة بطبيعة الحال، وعادة تكون أصعب إذا كانت ثقافة مكتوبة حول منظور تجربة تاريخية تختلف عن تلك الخاصة بالكاتب. وتصبح أصعب وأصعب إذا تمّ تحريف الكتابة لتلائم الجمهور المستهدف، سواء كان ذلك بسبب التحيز الثقافي أو بسبب السقوط في دوامة السياسة التي تحرف الأسئلة فضلًا عن الإجابات. وفي بعض الحالات، تسببت الروايات الغربية المحرفة عن الثقافات غير الغربية في إضفاء شرعية على أعمال عنف استعمارية وإمبريالية ارتكبت ضد تلك الثقافات، مثلما حدث في الكونغو والجزائر. ولذلك، لم تكن الكتابات عبر الثقافات بريئة وأكاديمية دائمًا، لذا فإنها كانت دائمًا وأبدًا صعبة في غياب الدوافع السياسية.

عدم محاولة الغربيين الكتابة عن السعودية مثال واضح لذلك. والسعودية مع عمان، كانتا الأكثر انعزالًا عن العالم بين الدول العربية على النقيض من دول مثل لبنان وتونس. وفي الحقيقة، من الصعوبة الكتابة عن السعودية ليس فقط من الغربيين ولكن أيضًا من العرب الآخرين، بل ومن السعوديين المنتمين لنفس الثقافة، فكيف ذلك؟

في البداية، الدخول إلى السعودية غير سهل للأكاديميين الأجانب، وكذلك الكثير من الجوانب التي توضح سياسة الدولة غير سهل الوصول إليها من قبل الاكاديميين المحليين. في عام 1999 تم السماح بدخول الاجانب بتأشيرة سياحية، والسماح بدخول الأكاديميين الذين يريدون البقاء لأسبوع أو أسبوعين، وكان هذا يعدّ تطورا كبيرا.

ولفهم مثل تلك الدولة الفريدة والكتابة عنها من الخارج، يحتاج الكاتب لوعي ذاتي عال بالحزمة الثقافية الخاصة به لتجنب الإسقاطات النفسية الذاتية على تلك الدولة دون قصد. ونحن نفكر أحيانًا أن قضاء بعض الوقت في البيئة الثقافية قد يمنحنا دقة في الكتابة عنها، لكن الحقيقة تقول أنّ الأهم للأجانب هوه التدقيق الكامل حول الشرق والإسلام والوهابية، بل والصحراء نفسها. وبالطبع يجب التجرد من أية عواطف أو أحكام مسبقة تجاه الثقافة التي سيكتب عنها.

واحد ممن دخلوا منطقة التحدي هذه هو «لورينغ دانفورث»، أستاذ الأنثروبولوجيا في كلية بيتس في لويستون ماين. ويعدّ كتابه «عبر المملكة» مفيدًا بشكل خاص في تقديم بعض جوانب المجتمع السعودي للقارئ الغربي المبتدئ، حتى وإن كان الهدف منه ليس التحليل من الناحية النظرية.

ولكن «دانفورث» قد وقع فريسة على أي حال لغرابة الثقافة. ربما تكون طريقته لجعل الكتاب جذابًا للقراء، على سبيل المثال عندما كان يصف الطرق السعودية باستمرار بـ «الآخر». ولكن «دانفورث» قد قال أنّه قد أمضى بالمملكة شهر واحد، وهو أقل من الفترة التي يقضيها طالب أمريكي ملتزم لمدة فصل دراسي واحد في القاهرة أو عمّان لتعلم اللغة العربية. كما أنّه قد اصطحب طلابًا معه، وهذا يعني أنّه قد قسم وقته بين العمل الأكاديمي وبين طلابه.

وبالرغم من هذه الحدود، قدم «دانفورث» تجربة لائقة، وهناك عدد قليل من الكتاب الغربيين قد أظهروا في وقت سابق إمكانية الكتابة المبصرة عن السعودية، لا سيما عن تاريخها دون أن يقيم بها لفترة طويلة مثل «روبرت ليسي».

وفي اعتقادي أنّ «دانفورث» قد وقع في سلسلة من المواجهات الشخصية التي أجبر عليها هو وطلابه لقصر الفترة التي قضاها في المملكة. وكان أحد مرشديه خلال الرحلة قد أخبره أنّه «يركز فقط على عدد قليل من الأشياء»، وهذا ما جعله ينظر فقط «للجوانب المثيرة للقلق في الثقافة السعودية».

أكد «دانفورث» بالطبع في كتابه رفضه لكل أشكال التعصب العرقي والحكم على الثقافات. وانتقد أيضًا التصوير الساذج للمملكة في الإعلام الغربي في صورة صحراء واسعة وجمال ونفط ونساء يتشحن بالسواد. لقد أراد «تجنب النزعة العرقية والتبسيط المبالغ فيه والتعميم الزائد، وهي ما يميز الكثير من الكتابات الشعبية عن السعودية». وقد نجح في كثير من المرات، لكنه افتقد للدقة في معظمها.

جزء من المشكلة يرجع بلا شك لعدم التوافق في اللغة والثقافة. ومجال تخصص دانفورث الأكاديمي الأساسي كان اليونانية، وريف اليونان بالأخص. ومن الواضح أنّه لم يركز عمله الأكاديمي على مجتمع عربي أو شرق أوسطي. وكما يحدث عادة في مثل تلك الظروف، كان منحنى تعلم «دانفورث» حادًا ولكنه غير منتظم، وافتقاره للتوافق مع المشهد الاجتماعي الأساسي تركه تحت رحمة الآخرين لترتيب قائمة محاوريه.

إشكاليات منهجية

على سبيل المثال، يبدو أنّ معظم السعوديين الذين قابلهم هم  معارضين من نوع واحد، وربما يكون ذلك بسبب أنّ السعوديين الذين يتحدثون الإنجليزية بطلاقة يصلون بشكل أفضل للزوار، وهؤلاء يعبرون عن وجهة نظر واحدة. ومقابلة هؤلاء الأشخاص لجمع الحقائق من الممكن أن يعمل، لكنّ ذلك لن يفيد في فهم تجربة العيش في السعودية.

ومن النقاط الهامة أيضًا، أنّ المقابلة الأولى بين أمريكيين وسعوديين ستكون مناسبة معرضة قليلًا لسوء الفهم. وربما أرتكب الآن نفس الخطأ بالحكم على الأمريكيين على أساس خلفيتي الثقافية، ولكن الغربيين، وخاصة الأمريكيين معتادين على الانفتاح على الآخر معلوماتيًا بسرعة، على عكس السعوديين الذين يتطلبون بعض الوقت للتعرف قليلًا للشخص الذي أمامهم، ويحتاجون لبناء بعض الثقة قبل ان يفتحوا له عقولهم وقلوبهم ويحكون ما بداخلهم.

علاوة على ذلك، فإنّ السعوديين المتعلمين، سيرشحون كلامهم وفق ما يعرفونه عن صورة المملكة وما يقال عنها في الإعلام الغربي. وربما يتحول الأمر لعرض شخصي، ولا يصبح الباحث يتحدث مع الشخص نفسه، ولكن مع ما يمثله هذا الشخص. وفي كتاب لـ«باسكال مينوريت»، أصدر في 2014 بعنوان «التفحيط في الرياض»، يخبره أحد المحاورين: «يجب عليك أن تنقل إلى الغرب فكرة دقيقة عنّا، حتى لا يخافنا الناس بعد الآن ولكن ليعرفوا من نحن».

وتمثل النظرة التي يرى بها السعوديون الباحث الأجبي تحديًا آخر. فكثير من العرب ومن بينهم السعوديين ينظرون إلى الباحث الأجنبي كرجل يعمل لصالح وكالة مخابراتية ما، وكان «دانفورث» يدرك ذلك، ولكن كان عليه التعامل مع الأمر.

ولكن هناك شيء أكثر دهاءً، يبدو أن «دانفورث» قد فطن له، على الرغم من أنّه لا يشير إليه، وهي كيف ينظر السعوديون إلى أنفسهم في حضور باحث، ولماذا. فالسعوديون يرون أنفسهم مجتمعًا مختلفًا عن كل المجتماعات، بدون استثناء المجتمعات العربية المجاورة، وأنّ ديناميكيتهم الاجتماعية استثنائية. وبالطبع تؤثر هذه النظرة إلى ما يقولونه للباحثين، وما يقولونه لأنفسهم أيضًا.

هناكا مثال على كيفية نظرة السعوديين إلى أنفسهم في حضور مراقب حين يأتي النقاش حول الصراع بين الحداثة والأصالة، وهو موضوع رئيسي معاصر في المملكة. ولهذا الموضوع أوجه عدة، منها النفط، ويكتب «دانفورث» في كتابه: «إنّ صناعة النفط والثروة الدولارية الناتجة عنه، كان لها تأثير مدمر على المجتمع السعودي». ويمثل هذا تخوفًا بالفعل لدى الكثير من السعوديين وهو ما يوضح لم يرفضون الحداثة، وهو ما نراه في كثير من الحركات الشبابية حول العالم في بلدان أخرى، مع الفلاسفة الذين ينظرون لما جلبته الحداثة على حياتنا من آثار سيئة. بالطبع لا يعني هذا أنّه رأي صحيح، ولكنّها قضية عالمية لم يكن السعوديون أول من يثيرها. ولكن هناك وجه آخر أيضًا يدفع السعوديين أن يظهروا أمام الباحث الغربي كأي شخص آخر في العالم يحب الحداثة والتطور، فيقول أحدهم: «ولكننا نحب الموضة، ونحب ان نواكب التطورات».

الدين والثقافة

واحدة من القضايا الهامة عند مراقبة ثقافة ما، هو الفصل بين الدين والثقافة، وهو الإنقسام الحادث كلما أردنا الحديث عن المملكة وهو ما كان «دانفورث» حريصًا على الإشارة إليه. نعم، إنّها حقيقة أنّ الدين جزء من الثقافة، ولكنّها لا تحتويه كليًا، ولا حتى في السعودية. ولكن يوجد الكثير ليقال في هذه النقطة إذا أراد القارئ فهم كيفية عمل ذلك داخل السعودية، وهو مالا يذكره «دانفورث».

بالطبع الثقافة والدين ليسا متطابقين، ولكن من المهم أن نفهم كيف يُفهم هذا التمييز من قبل السكان المحليين لمجتمع ما. ويصر السعوديون دائمًا على الاختلاف بين الثقافة والدين. وعندما يقوم السعوديون بهذا الفصل، يتعين التركيز على الدوافع المرتبطة بذلك.

يتم استخدام الثقافة والدين في الحديث اليومي بالسعودية كمصدرين مختلفين، فعندما يتحدث مثلًا أحد أصحاب العقول المتفتحة عن قضية منع المرأة من القيادة يقول «هذه ثقافة، وليست من الدين»، ولكنّ هذا يعني أمورًا أكثر من ذلك: أولا، تدافع هذه العبارة عن الدين وتبرئه من أية أمراض مجتمعية وتلقي باللوم على الثقافة بدلًا من ذلك. ثانيا،  تستثني السلطة الدينية من النقاش، وهذا ما يعطي المتحدث الحرية في السؤال ورفض الأمر. ثالثا، تتهم المجتمعات المسلمة بالخلط بين أوامر الدين وأوامر الثقافة. رابعا، تقدم اقتراحًا أنّ إصلاح الدين يكمن في توضيح هذا الفصل. خامسا: توضح أنّه بالرغم من أنّ المتحدث «ليبرالي» إلا أنّه لازال ملتزمًا بتعاليم الدين ولكن ليس الثقافة.

يتم استخدام نفس الجملة بواسطة السعوديين المحافظين أيضًا، لكن في حالتهم فالأمر مختلف نوعًا ما. وبالطبع إذا جاءت في سياق الحديث عن الفصل بين الثقافة والدين، سيصبح الأمر أكثر تعقيدًا. لذا، فعندما يصنع السعوديون هذا الفصل، من المهم التركيز على الأسباب التي دفعت لذلك، وليس على الجوانب المفاهيمية وراء مثل تلك الجملة.

بالنسبة للدين، ابتعد «دانفورث» كثيرًا في كتابه عن الهدف. وبأخذ العلم كمثال، يدّعي «دانفورث»، مخطئا، أن أغلب العالم الإسلامي عدائي تجاه العلم الحديث، وهي العدائية التي يرجع أسبابها في معظمها للتجربة الاستعمارية ونظرية التطور. وبينما من الممكن أن توضح الذاكرة عن الاستعمار الكثير من العداء الذي يشعر به المسلمون نحو الحداثة، فالسعودية بعد كل شيء، لم تتعرض أبدًا للاستعمار المباشر بواسطة إمبراطورية أوروبية في ذروة الإمبريالية.

العديد من المسلمين وليس أغلبهم يرفضون نظرية التطور من خلال الانتقاء الطبيعي، ولكنّ ذلك لا يعني أنهم يرفضون العلم الحديث إجمالًا. سيكون من الدقة أكثر، القول أن جزءا كبيرا من العالم الإسلامي يرفض النظريات الفلسفية حول ميتافيزيقيا الكون والتي تستند، بشكل صحيح او خاطئء، على اكتشافات العلم الحديث. وداخل السعودية، تختلف المواقف تجاه العلوم الحديثة، وتتغير بوتيرة سريعة هذه الأيام.

إذا كان من الصعب على الغرباء فهم المجتمع السعودي وسياسياته، فهذا خطأ يتحمل جزءا منه النخبة السعودية، بسبب الانعزالية المفتعلة، والتي لها سلبيات وإيجابيات. ولكن على الرغم من ذلك، لا يكفي شهر واحد عبر مملكة الصحراء، ولو كان من شخص محترف في دراسة العالم العربي، لادّعاء الخبرة بهذا المكان الفريد. يحتوي الكتاب على مزايا، ولكن كنوع من الكتب التمهيدية الموجهة للطلاب الأكاديميين ربما يعمل بشكل جيد بما فيه الكفاية. ولكن إذا حاول لعب دور أكبر من هذا، فلن يكون سوى باحث استرق النظر دون تركيز لبحر من الكثبان الرملية.

المصدر | أميركان إنترست

  كلمات مفتاحية

السعودية الدين الثقافة استشراق