الظاهرة «ترامب»: نظرة على سلوك الجماعات الإنسانية

السبت 12 نوفمبر 2016 07:11 ص

دعنا نبذل بعض الجهد لفهم التحيزات النفسية والمجتمعية التي دفعت البعض إلى التصويت لصالح «دونالد ترامب»، ودعت البعض الآخر لتوليد مشاعر كره نحو مناصريه، عندها يمكنك أن تعقلن أفكارك وتختار تحركاتك بشكل رحيم.

لاحظ كيف أن التأثير «الترامبي» له القدرة على تفسير ميكانيكية عمل المجموعات والثقافات بشكل عام، ليس فقط حين تمارس في لعبة السياسة الأمريكية.

في هذه المقالة لم اتخذ موقفًا متحيزًا إلى أي من الأجندات السياسية فأنا ببساطة أنوه إلى بعض الظواهر التالية للانتخابات الأمريكية، حيث استشعر بعض الناس الكثير من القوة والسلطة في حين استشعر الآخرون الإحساس بالرفض والمرارة والخوف. أنوه أيضًا إلى الظاهرة الواضحة التي نشأت بانتهاء اليوم الانتخابي، وهي نشوء حالة من الكراهية القوية بين المجموعات المختلفة.

كيف تتضح أهمية علم النفس وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في فهم مشاكلنا المعاصرة؟

مهمتي الأساسية كمتخصص في علم الإنسان الإدراكي (العلم الذي يهتم بدراسة سلوك إدراك الإنسان في سياق الثقافة والمجتمع)، هي دراسة القوى النفسية، البيئية، والمجتمعية التي تدفع مجموعة من الناس للتصرف والتفكير بنفس الطريقة، بل وامتلاك نفس المشاعر حين يتواجدون داخل نفس الإطار المجتمعي والثقافي ،ولِمَ تختلف تلك العوامل باختلاف ذلك الإطار. عندما ندقق النظر في الصورة المصغرة والظاهرة للاختلاف في الرأي والتصورات بيننا وبين المجموعات الثقافية الكبرى، فإننا نفقد القدرة سويًا على إدراك الصورة الشاملة التي تنتج عنها تلك الاختلافات،فلا نملك القدرة إلا على أن نقصر رؤيتنا عليها. والسبب في ذلك هو التكوين النفسي المشترك الذي يزيد من ميلنا لتبني نفس التفكير الحدسي الذي تتبناه عشيرتنا، وبالتالي نميل إلى فقد الثقة، وأيضا إلى كره أولئك الذين ينتمون إلى منظومات ثقافية أخرى وبالتالي منظومة حدسية أخرى.

في حين تمسك البعض منا بمواطنهم وعاداتهم الغذائية وملبسهم كما ورثوه، قرر البعض الآخر الخروج من المنظومة، فبعضنا ذهب إلى الجامعة ،وزار العالم ،واختبر أنواع الطعام المختلفة، واستقر في المدن الكبيرة حيث التعدد والاختلاط الثقافي الذي يفرض علينا أسلوب حياة لابد وأن يختلف عما وجدنا عليه آباءنا، حتى أننا تمردنا عليهم فيما يخص الدين والسياسة. هنا تكون رؤية المشكلة ذاتها أصعب، فنحن نعتقد أننا تحررنا بذلك من تبعية الجماعة وأصبح لنا الحق في الحكم على الآخر دون وضع احتمالية أن حكمنا سيكون كذلك قاصرًا على الصورة الصغيرة غير مدركًا للصورة الكلية، وذلك لأننا لم ندرك أننا حينها قد طورنا وأنتجنا قبائل جديدة ذات منظور ثقافي مختلف، ولكن لها نفس خصائص القبيلة أو الجماعة التي تضع عقلها الجمعي معيارًا ثابتًا للحكم على الآخر.

السياسة والتحيزات الجماعية

دعنا نلقي نظرة على تجلي هذا المثال على الحدث السياسي الأخير، فقد استشعر أولئك غير المناصرين لـ«ترامب» الفزع من التعصب الأعمى الذي نسبوه لأنصار «ترامب»، فقد سمعنا الكثير من الشعارات العنصرية من مناصري «ترامب»، ولكن دعنا نعيد النظر:

تلك الشعارات مثل (أنا اكره المسلمين والمهاجرين والنساء) لمؤيدي «ترامب»، و (أنا أكره القمامة البيضاء) التي طلق عليهم من قبل معارضيهم بنوعيها تتبنى ذات الهيكل المنطقي ،فكلاهما يعبر عن نفس التحيز الإدراكي لأبناء العشيرة ونفس الاحتقار لمن هم بخارجها. كلا الحالتين تمثيل لشيء واحد وهو (أنا أكره الآخر)، والآخر لكليهما هو من لا يتشارك معهم نفس الفكر و الآراء. ولكن يجب التنويه الى قدرة الإنسان على توليد رؤي منصفة متجاوزة لمطلق التأثير الخارجي برغم احتياج ذلك إلى بذل جهد أكبر مما قد تتوقع حتى لا تسقط في الفخ الشائع للجماعة.

دعنا الآن ننظر إلى المزيد من الاختصارات العقلية (الحدسية) التي تجبرنا على التفكير بشكل غير سوي، والنظر للآخر بصورة غير منصفة.

السياسة والتحيزات الشخصية

أغلب حالات الاستياء التي تعلقت بالانتخابات الأخيرة كانت سرعان ما تسقط اللوم على شخص «دونالد ترامب»، لأخطائه الشخصية من ناحية، ولصفاته المتلاعبة الشريرة من ناحية أخرى. هنا يتجلى نوع جديد من التحيز الإدراكي الشخصي والذي يطلق عليه (خطأ الإسناد الأساسي) أو (التحيز الشخصي)، وهو الميل لإلقاء اللوم على الآخر عند حدوث مشكلة وإصدار الأحكام عليه دون محاولة رؤية الصورة الأكبر وفهم تداعيات الحدث وسياقه.

بات الآن من الأوضح أن نفسيتنا الشعبوية ليست مؤهلة تمامًا للتعامل مع الأحداث السياسية المشابهة بشكل من المنطق والإنصاف.

بعضنا يمكن أن يتمسك بوجهة نظر تآمرية للمستجدات السياسية، ولكن إذا كانت نظريتنا الأفضل عن السياسة تتمركز حول أن الجماهير هي عناصر يسهل التلاعب بها، فعلينا إبراز نظرية نفسية أخرى لشرح ذلك بشكل أوضح.

التهرب من المشكلة                

هل سبق لك وتساءلت: لماذا ننشأ ونجد بداخلنا حب لمدينتنا التي نشأنا بها وتشجيع فطري لفريق كرة السلة الخاص بها؟، بل واستعداد فطري لمنافسة المدن المجاورة ومواطنيها؟ لماذا اجتمع الكنديون على عشق الهوكي، بينما ذاب البرازيليون هيامَا بكرة القدم؟

أعد السؤال لشخصك، لماذا تحب أنت ما تحب؟ ومتى وكيف كونت آرائك حول الأزياء، ومذاقك فيما يخص الموسيقى؟ كيف كونت معتقداتك الأخلاقية والسياسية؟

البناء الأخلاقي المقلد

عندما قدم عالم النفس «جوناثان هايت) بعض النماذج الصادمة حول (جنس المحارم) و(ممارسات الجنس المنحرفة) كمواضيع للنقاش وإصدار الأحكام حولها، قدم (جوناثان) النماذج لمجموعة من الناس من ذوي المرجعيات الجماعية والثقافية المختلفة. تلقى (جوناثان) الأجوبة والتي كانت متسعة المدى في التفاوت، ولكنها مع ذلك اتسمت بالاتساق، فكانت الأحكام حول كونها مواضيع مقبولة أو مرفوضة أخلاقيًا تتوافق كلما توافقت الرؤى الثقافية التي أتى منها أصحاب الآراء، وفي الوقت ذاته، فإن معظم الأشخاص لم يستطيعوا توضيح تسلسل منطقي لأحكامهم، فكانت أحكامهم مجردة بذاتها.

هذه ثلاث نقاط هامة يمكن استخلاصها من بحث (جوناثان هايت»:

أولا: نحن تقريبًا لا نفكر مطلقًا في مبعث آرائنا الأخلاقية.

ثانيا: يستهلك الأمر جهدًا كبيرًا للخروج من منطقة الحكم البديهي والنظر للصورة بشكل أشمل وأكبر، الأمر الذي لا نتقنه جيدًا.

ثالثا: نحن نستقي الكثير من معتقداتنا ،أذواقنا، وتصرفاتنا من أولئك الأشخاص بداخل الجماعة، فذلك يحدث بشكل بديهي فطري دون إدراك منا.

التأثير (الترامبي) يشرح النموذج الاجتماعي والثقافي بشكل عام

بعدما بات واضحَا لنا ما سبق ذكره، فإننا نملك الآن أفقَا أوسع لفهم وتعلم بعض المكونات التي تشكل الوصفة النفسية التي تتحكم في تصرفاتنا. يمكن أن يكون لدى أصحاب نظرية المؤامرة بعض الحق عندما يصرون على أن آليات القوة هي المكون الرئيس لهذه الوصفة، لكنهم بالجزم مخطئون إذا اعتبروا أن القوة هي كل ما هناك.

من المغري الآن أن نسمي تلك الوصفة (التأثير الترامبي)، ولكن من واجبي كمتخصص في علم الإنسان الإدراكي أن أتجنب الوقوع بفخ (خطأ الإسناد الأساسي)، وأن أركز البحث حول ديناميكية الجماعات بدلًا من قصر النظر على السمات الشخصية لأصحاب القوة. فأفضل أن أطلق على الوصفة اسم (السلطة المعرفية).

الإبستمولوجيا هي فرع من فروع الفلسفة وعلم الإدراك والمهتم بنظرية المعرفة وكيفية نشوءها وتعلمها.

بتبني فكرة (السلطة المعرفية)، فيمكنني الإشارة على بعض العلامات التي تتحكم في القوة التي ترشدنا لتكوين أفكارنا ،مشاعرنا، وتصرفاتنا بشكل آلي وغير واعي. كما سبق توضيحه فإن عقولنا تأقلمت مع سلسلة من التحيزات أو (الاختصارات العقلية)، التي تجعلنا سريعي التفاعل مع العلامات التي تملك السلطة على خياراتنا فتجعلنا قليلي التدقيق في الأفعال التي تقوم بها مجموعتنا الثقافية، كما تجعلنا منعدمي القدرة على إدراك الصورة السياقية الأكبر.

هنا تظهر قائمة من العلامات التي تملك المقدار الأكبر من السلطة على تحيزاتنا، عندما يحتاج العقل إلى إرشاد سريع لتكوين وجهة نظره حول قضية ما ،فسرعان ما يتوجه بنهم باحثًا عن هذه العلامات (القوى) وهي تشمل بقية أفراد الجماعة، والأفراد المميزون ذوي الوجاهة الاجتماعية داخل الجماعة.

التحيز المتأثر بالوجاهة الاجتماعية (البريستيج)

أحد النقاط الهامة التي يمكن ملاحظتها في القائمة السابقة، هي أنه عندما نحاول الاستعانة بمصادر خارجية لتكوين بديهياتنا من داخل الجماعة، فإننا نلجأ إلى حيلة تحيزية أخرى، وهي (من هم الأفراد الذين يجدر بنا التعلم منهم؟)، عندها دائمًا ما نبحث عن أولئك المرشدين بين أوساط النماذج المجتمعية والأشخاص ذوي الوجاهة داخل العشيرة.

يبدأ هذا النوع من التحيز معنا منذ الطفولة، حيث تكون النماذج المتبعة هي أولياء أمورنا والأشخاص الأكبر سنًا والأشخاص ذوي السلطة الأولى في محيطنا، بعد ذلك نتطلع إلى المعلمين في المدرسة، وأيضَا لزملائنا المتسلطين وأصحاب خفة الظل، ثم إلى العلماء والمشاهير.

السمعة والنميمة: حب النميمة هو أمر فطري خلقنا به، فنحن نتبع أخبار الآخرين بشكل مهووس، فعندما ينجح شخص ما أو يفشل في تحقيق أمر مرغوب فيه، فذلك يؤثر كثيرَا على مدى جاهزيتنا للاقتداء به.

القوة العددية: دائمَا ما نميل بشكل فطري للأمر الذي جمع العدد الأكبر من المنحازين، فنجد أننا أكثر ميلَا للخيارات ذات المتابعين الأكبر ،واختيار الأمر ذي المتابعين الأقل هو أمر يتطلب الكثير من الجرأة.

الخلاصة: احتو تحيزاتك

يمثل العلاج السلوكي المعرفي حلَا فعالًا للتخلص من السلوكيات الغير سليمة، يمكننا تحقيق الكثير من التقدم إذا قمنا باختبار أنفسنا وتحيزاتنا بشكل واعي.

العلاج الشخصي يمكن أن يبدأ بملاحظتنا (للاختصارات العقلية) التي نتبعها في سبيل الوصول إلى التحيز الأسهل، وتسجيل مشاهداتنا حول نهمنا نحو المكوث في منطقة الهدوء بالنسبة لجماعتنا الثقافية، وحول اتباعنا بسهولة للأشخاص ذوي الوجاهة أو للأعداد الأكبر من الأفراد.

سيتطلب هذا منك أن تبدأ ممارسة بعض التشكيك في انحيازاتك وميولك الأولى، فقد أثبتت التجارب أن هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحب) يلاحظ إفرازه بشكل أكبر عند تبنينا للخيارات المتوافق عليها بين أفراد المجموعة، وابتعادنا عن الخيارات التي قد تؤرقنا بينهم.

فاستمر دائمًا في اختبار ميولك واسأل دائمًا عما إذا كنت وعشيرتك قادرين علو تقديم أفضل مما هو موروث.

  كلمات مفتاحية

الانتخابات الأمريكية فوز ترامب دونالد ترامب أوباما

7 سياسات لـ«ترامب» قد تغير وجه أمريكا تماما