«الاشتباك الانتقائي»: السياسة الخارجية لتركيا بعد الربيع العربي

السبت 26 نوفمبر 2016 07:11 ص

إن السياسة الخارجية التركية مسألة محفوفة بالجدل. خلال فترة وجود «أحمد داود أوغلو» في رئاسة الوزراء، صور خبراء أنقرة على أنها تقاد بأيديولوجية توسعية ومغامرة. وتبعا لذلك، تولد توتر كبير مع قوى دولية وعدد من الدول المجاورة كالعراق. وعندما جاء «بن علي يلديريم»، كرئيس جديد للوزراء ولحزب العدالة والتنمية بنبرة أكثر تصالحية مع الرئيس «رجب طيب أردوغان»، أعلن «أردوغان» في أبريل/ نيسان 2016 أن هناك حاجة لتركيا لكسب المزيد من الأصدقاء وتقليل عدد الأعداء. وقد صورت أنقرة بعد هذا أنها تعتمد سياسة أقرب إلى الحذر، الواقعية، والنفور من المخاطر، وقد أعطت سياسات تركيا العامة مع (إسرائيل) وروسيا في هذا الوقت مصداقية لهذه القراءة.

وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز، بدأت تركيا في انتقاد علني لما تراه أنه لامبالاة غربية في التعامل مع التحديات والمخاطر التي تواجهها أنقرة. وهكذا، بدأ نقاش منذ فترة طويلة حول تصحيح وجهة تركيا، وهذه المرة، يبدو أن البلد قد تعرض لمتغيرات شحنته ليتجه بعيدا عن الغرب، ونحو تحالف مفترض مع روسيا التي عادت إلى الظهور. وعلاوة على ذلك، بدأت تركيا في عملية درع الفرات في شمال سوريا، والتي تهدف إلى إبعاد تنظيم الدولة من المناطق الحدودية، ومنع حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردي من ضم مزيد من الأراضي تحت سيطرتهم.

كما تصر تركيا أيضا على الانضمام إلى أي عملية لتحرير الموصل من تنظيم الدولة، وتبين هذه الإجراءات أن تركيا لا تريد تقليص طموحات سياستها الخارجية ولا تهتم باللهجة التصالحية في المنطقة عندما تشعر بأن مصالح أمنها القومي معرضة للخطر. ويأتي إعلان «أردوغان» لعقيدة الأمن الوقائي الجديدة لكل من التهديدات الداخلية والخارجية استمرارا لهذا الاتجاه.

لقد كان سبب قصور العديد من الروايات الشائعة حول السياسة الخارجية التركية هو تركيزها المفرط على ممثل واحد، سواء كان «أردوغان» أو «داود أوغلو». في الواقع، لقد كانت متطلبات الجغرافيا السياسية الإقليمية، إلى جانب المخاوف السياسية الداخلية لأنقرة والتحديات الأمنية هي من شكلت المعالم الرئيسية للسياسة التركية في السنوات الأخيرة.

خروج الربيع العربي عن مساره

في البداية، ركزت الثورات العربية بشكل أساسي على مطالب سياسية. واستطاعت التطلعات الديمقراطية للشعوب العربية أن تتصل مع تركيا، حيث إن الهوية الدينية لبعض من المجموعات الرائدة في هذه الاحتجاجات كانت تتجه بدافع كبير إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا لتقديم الدعم لهم، مع تزايد الاعتقاد أن الهويات المشتركة والمطالب السياسية من شأنها أن تخلق أسسا للتعاون في الفضاء الإقليمي.

في ذلك الوقت، اعتبرت تركيا ذلك تغييرا لا مفر منه وألقت بثقلها وراء الانتفاضات، واعتمدت رؤية على صعيد المنطقة، وتنبأت بالنظام الإقليمي والديمقراطي الجديد الذي تلعب تركيا دورا في بطولته وقيادته.

أما اليوم، فقد دفعت أربع تحولات رئيسية تركيا إلى إعادة النظر في افتراضات سياستها الخارجية في عصر الربيع العربي: كان الأمر الأول هو تحول الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية شاملة في أواخر عام 2012 وفي وقت مبكر عام 2013. أما الأمر الثاني فهو الانقلاب في مصر في يوليو/تموز 2013. هذه الأحداث أظهرت أن موجات التغيير كسرت في العالم العربي. الأمر الثالث هو صعود الدولة الإسلامية في سوريا والعراق مما دفع المجتمع الدولي لإعطاء الأولوية للأمن في المنطقة بدلا من دعم ورعاية التحولات الديمقراطية الناشئة حديثا. وبالإضافة إلى ذلك، استغلت بعض الدول في المنطقة مثل سوريا و السعودية، وإيران صعود تنظيم الدولة «لزيادة استقطاب العالم العربي على أسس طائفية ولنزع الشرعية عن الحركات الإسلامية حتى السائدة منها في الغرب، وتحريض العلمانية الليبرالية ضد الديمقراطية»، والذي خفض بدوره الدعم الغربي للانتفاضات العربية ولجماعات المعارضة عامة والسورية بشكل منها خاص.

وأخيرا، وهو الأمر الرابع فقد تسبب تنظيم الدولة في صعود الحركات الكردية في كل من سوريا والعراق، وتوسيع الأراضي الواقعة تحت سيطرتها بعد اكتساب تعاطف المجتمع الدولي، والشرعية، والمساعدات العسكرية. وقد جاءت نقطة التحول في القضية وهي الأكثر شهرة بعد حصار كوباني، البلدة الكردية السورية في سبتمبر/أيلول 2014. ومع تقديم المساعدات من الولايات المتحدة والميليشيات الكردية العراقية (البيشمركة)، تم اعتبارها كقوة مقاتلة قادرة ومشروعة. وللاستفادة من هذا التعاطف المكتسب حديثا دوليا (وكذلك المكاسب الإقليمية الكردية)، فقد اعتمد حزب العمال الكردستاني موقفا تفاوضيا أقوى ضد تركيا. ومع انهيار عملية السلام الكردية مع حزب العمال الكردستاني بدأت الدولة بشن حرب المدن في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا خلال العام الماضي، وهذا يدل على منح الأولوية للأمن القومي على المبادرات السياسية وقد تم تعديل السياسة الخارجية الإقليمية لتركيا وفقا لذلك.

ضرب تنظيم الدولة أيضا داخل تركيا، حيث استهدفت في البداية الجماعات الكردية واليسارية باعتبارها امتداد لحربها ضد حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، كما كان الحال مع الهجمات في سروج وديار بكر، وفي محطة القطار في أنقرة. في الفئة الثانية من الهجمات، نفذ التنظيم عمليات انتحارية في منطقة السلطان أحمد، وفي شارع الاستقلال، وفي مطار أتاتورك، وكانت هذه الهجمات الأخيرة في معظمها ضد السياح والأجانب، وكان الدافع المحتمل هو انضمام تركيا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، وقد تفاقمت التحديات الأمنية الوطنية لأنقرة، مما كان له أثر كبير على سياسة تركيا الإقليمية.

القوى الخارجية

في الوقت الذي شعرت تركيا أنها أكثر عرضة للتهديد من قبل حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين بإشراك ودعم حزب العمال الكردستاني من خلال منظمة شقيقة وهي حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا في حربها ضد تنظيم الدولة. وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من عدم الارتياح في تركيا من هذه السياسة حافظت الولايات المتحدة على تحالفها مع قوات سورية الديمقراطية، وهي تحالف يضم حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد استخدمتها واشنطن كقوات برية أساسية في تحرير منبج، وهو الأمر الذي أعطى الأكراد موطئ قدم قوي آخر في الجزء الغربي من نهر الفرات. وقد بقيت أمامهم خطوة واحدة لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في الاستيلاء على الأراضي المتبقية بين كوباني وعفرين لخلق تواصل جغرافي كامل بين الكانتونات. وقد تدخلت تركيا مؤخرا لمنع مثل هذه النتيجة. وقد ساهم كل هذا بالفعل في علاقات متوترة وإلى انخفاض حاد في مستوى الثقة بين تركيا والغرب.

وفي الوقت نفسه، وجدت تركيا نفسها على خلاف مع إيران، مما أثر على السياسة الإقليمية التركية وعلى أنشطتها في شمال العراق وشمال سوريا. وكانت إيران كقوة إقليمية ماضية في توسيع النفوذ والسلطة بالقوة في البيئة الإقليمية الحالية، أما تركيا فقد كانت مقارباتها مع ظواهر الربيع العربي تقوم على التركيز على المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعندما تحولت الثورات إلى حروب عرقية وطائفية، فقد تم تعزيز يد إيران التي استثمرت فترة طويلة في ميليشيات شيعية تعمل بالوكالة. وعلى عكس تركيا فإن إيران تعول على مجموعة من الوكلاء والميليشيات الشيعية الملتزمة، من العراق إلى اليمن ومن سوريا إلى لبنان. وهذا يعطي سياستها الإقليمية أساسا قويا.

ولمواجهة النفوذ المتنامي لإيران، سعت أنقرة إلى بناء شراكات مع حلفاء محليين وإقليميين. وقد سعت في سوريا، لتحقيق أهدافها من خلال دعم معارضي «الأسد» بثبات، وبالتالي اتخذت سياسة معادية لإيران ولكن مع نجاح محدود. في العراق، حاولت تركيا الحد من النفوذ الإيراني الكبير في البلاد من خلال تحالفها مع حكومة إقليم كردستان وخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني والعرب السنة.

وكان من المنطقي أن تسعى تركيا إلى دور في عملية استعادة السيطرة على الموصل من تنظيم الدولة للحد من نفوذ إيران (وحليفتها الحكومة المركزية العراقية) عن طريق منع أي تغيير في التوزيع الديموغرافي في الموصل وحولها، ومنع حزب العمال الكردستاني، الذي له وجود غربي الموصل فقط ، من الاستفادة من العملية وربما من الفوضى المصاحبة لها. وعلى المستوى الإقليمي، بدأت السعودية وتركيا في التعاون لمواجهة التوسع الإيراني. حيث تؤيد تركيا التدخل السعودي في اليمن، وقد دعت إيران إلى الانسحاب من البلاد. على الرغم من أن العملية لم تنته، فقد اقترحت أنقرة أن توفر الدعم اللوجستي للعملية. كما تعاونت بشكل وثيق مع السعودية في سوريا.

السياسة الخارجية المستقبلية

يبدو أن تركيا الآن لديها سياسة خارجية تقوم على المخاوف الأمنية، وتتمحور حول التحالفات القائمة على مسائل بعينها. مؤسسيا، لم يكن هناك أي انحراف بعيدا عن حلف شمال الأطلسي وعن التوجه الغربي عموما، ولكن أنقرة لم يعد لديها نفس وضوح الرؤية التي كانت قائمة في عهد ذروة الانتفاضات العربية والمتعلقة بأملها في انهيار النظام الإقليمي القديم والاستعاضة بأنظمة أخرى جديدة أكثر ملائمة لمصالحها. لم يتحقق أي من ذلك حتى الآن، ولذا لم يبق أمام تركيا خيارات كثيرة للتعامل مع التحديات الناشئة.

لقد أصبحت إدارة المخاوف الأمنية المرتبطة بالأزمات الإقليمية هي الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية التركية الحالية. في المستقبل المنظور، سوف يكون لدى أنقرة ما يسمى بسياسة المشاركة الانتقائية في المنطقة وسوف تضع جانبا المسؤوليات في المناطق التي تعتبرها ذات أهمية ثانوية، في حين ستتعامل بجدية مع المخاطر وستحرص على استثمار الوقت، والمال، والطاقة، والدم في المجالات المتعلقة بمخاوف أمنها القومي.

المصدر | غالب دلاي - فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية

تركيا سوريا إيران حزب العمال الكردستاني الربيع العربي