«فورين أفيرز»: وادي الملوك.. كيف أصبحت المنوفية صانعة الرؤساء في مصر؟

الجمعة 9 ديسمبر 2016 01:12 ص

على الرغم من نشأته كفقير وأمي في مزرعة صغيرة في نهاية إحدى قنوات الري، أدرك «أحمد فوزي» في سن مبكرة أن هناك شيئا غير عادي بخوص الزاوية التي يقطنها في دلتا النيل. أثناء سيره على الطريق الترابي إلى قويسنا، مركز المحافظة، كان والده يشير إلى المنازل التي ولد فيها نخبة من السياسيين ذوي النفوذ والمسؤولين العسكريين. على مشارف قويسنا، تبدأ المعالم في الظهور بكثافة وسرعة. «هنا صلى رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري،. وهنا ذهب الجمسي، قائد الجيش الأسبق، إلى المدرسة». هكذا أخبرنا «فوزي»، وهو ميكانيكي يبلغ من العمر 25 عاما، متباهيا بمعرفة والده الموسوعية بأهم معالم المنطقة.

المنوفية، هي تلك المحافظة التي يقطن بها «فوزي»، والتي أنتجت 4 ضمن آخر 5 رؤساء لمصر. يعد «أنور السادات» و«حسني مبارك» من أبناء المحافظة الأصليين على الرغم من أن عائلاتهم هاجرت إلى القاهرة قبل أن يولدوا. وكذلك الوضع بالنسبة إلى الرئيس الحالي «عبد الفتاح السيسي»، و«عدلي منصور»، رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي خدم لفترة وجيزة كرئيس مؤقت للبلاد في أعقاب الإطاحة بالرئيس «محمد مرسي» في عام 2013. «صدقي صبحي»، وزير الدفاع الحالي وأحد الخلفاء المحتلين للسيسي هو منوفي أيضا، وكذلك الحال بالنسبة إلى «إبراهيم محلب» الذي شغل منصب رئيس وزراء «السيسي» حتى سبتمبر/أيلول عام 2015. وهناك قائمة طويلة من كبار الشخصيات المدنية والعسكرية التي تنحدر من هذه المحافظة وهو أمر مثير للانتباه خاصة حين نعلم أن المنوفية هي سابع أصغر محافظة مصرية من حيث المساحة (ضمن 27 محافظة) كما تحتل المرتبة 11 من حيث عدد السكان. «نحن ننتج الرؤساء كما تنتج محافظات أخرى الأثاث»، على حد تعبير «فوزي».

المصريون في الأماكن الأخرى يدركون أيضا هذه الخصوصية التي جعلت المحافظة موضعا للتندر والسخرية. غالبا ما يوجه القاهريون سؤال «هل أنت منوفي» إلى أصدقائهم كنوع من الاتهام بالمكر أو البخل. لكن المنوفيون ينظرون إلى هذا الإنجاز لمحافظتهم بكل فخر واعتزاز. كما أن لديهم بعض الاعتقادات حول مصدر هذا التميز. «العلم والإيمان هما أهم ركائزنا التي تسمح لنا بالازدهار»، وفق تعبير «محمد مكارم»، وهو بائع عرق سوس يعمل على طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي خارج قويسنا.

وادي الملوك

بدأت قصة النفوذ السياسي الضخمة المنوفية في أواخر القرن التاسع عشر عندما شرع «عبد العزيز باشا فهمي»، وهو أحد السياسيين الليبراليين البارزين آنذاك، في جهود لتحسين نوعية التعليم هناك. مع بداية 1890، ومع سعيه إلى التحرر من البريطانيين الذين احتلوا مصر في عام 1882 وقيدوا الفرص التعليمية الممولة من الدولة التي يتم إتاحتها للمصريين، فقد أقنع «فهمي» مجموعة من زملائه من ملاك الأراضي في المنوفية بالتبرع ببعض الأراضي من أجل بناء مدارس ممولة من القطاع الخاص. بحلول عام 1914، كانت هذه الرابطة التي تشكلت بالجهود الذاتية تعلم 15% من الطلاب المحليين في مصر، وكانت المنوفية أحد أفضل المحافظات تعليما في البلاد. تلقي «إبراهيم عيسى»، أحد أبرز الصحفيين المعاصرين في مصر، تعليمه في أحد المدارس التابعة للرابطة وكذلك فعل «حسني مبارك»، حيث التقى أحد وزراء داخليته المستقبليين ويدعى «زكي بدر». في السنوات التي سبقت استيلاء «جمال عبد الناصر» والضباط الأحرار على السلطة عام 1952، كانت النشأة في المنوفية تمثل ميزة حقيقية في ظل معاناة البلاد من نقص تمويل المدارس والموظفين. وحتى الآن، فإن نسبة الطلبة الذين يواصلون تعليمهم بعد سن الـ 15 في المنوفية أعلى مما هي عليه في معظم المحافظات الريفية الأخرى في مصر، وهي نسبة تجاوزت 80% خلال العقد الأول من هذا القرن.

جردت إصلاحات «عبد الناصر» الثورية مدارس الرابطة من استقلاليتها والكثير من جودتها كما يؤكد السكان المحليون. لكن عقودا من التعليم المتفوق مكنت العديد من المنوفيين من تبوأ مكانة بارزة في النظام العسكري الجديد في مصر. انخرط شبان المحافظة المتعلمين في الجيش وارتقوا بسرعة في صفوفه خلال الفترات الأولى من حكم «عبد الناصر». ويبدو أن هذا النجاح المبكر أقنع العديد من الشباب المنوفي بالسعي للحصول على الثروة والمكانة التي توفرها وظائف الجيش المرموقة. «إذا كنت من قويسنا ورأيت شخصا آخر من قويسنا أيضا في ثوبه العسكري، فإنك ستحرص على أن تحذو حذوه»، كما يشير «صموئيل تادرس»، وهو باحث سياسي، ومؤرخ منوفي الأصل، وهو الآن زميل بارز في معهد هدسون.

وقد استمرت العلاقات الوثيقة بين المنوفية والجيش حتى بعد أن فقدت المحافظة مدارسها المستقلة التي توفر تعليما عالي الجودة. في الانتخابات الرئاسية في مصر عام 2012، حظي «أحمد شفيق» قائد سلاح الجو السابق الذي خسر بفارق ضئيل عن «مرسي»، على نسبة تأييد من الناخبين في المنوفية أكثر مما حصل في أي محافظة أخرى.

من طلاب إلى أسياد

وعلى الرغم من هذا الإرث من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، لا تزال المنوفية فقيرة جدا. وهي واحدة من محافظتين فقط في مصر تفتقدان أي امتدادات في الأراضي الصحراوية قليلة الكثافة السكانية التي يمكن ريها واستصلاحها. ومع عدم قدرتها على توسيع رقعتها الزراعية، فقد عاني اقتصاد المنوفية الزراعي بالأساس مع النمو السكاني. يعيش سكان المنوفية في منازل أصغر من المتوسط العام للبلاد، وتمتلك المحافظة أحد أقل نسبة أسرة بالمقارنة بعدد السكان في مستشفياتها.

وهكذا يبدو أن المصدر الثالث لنجاح المنوفية تمثل في الهجرة الخارجية الوفيرة لسكانها الذين انتقلوا إلى أماكن أخرى بمعدلات أعلى من سائر المحافظات. في القاهرة القريبة، يهيمن المنوفيون السابقون وأسرهم على أحياء بأكملها وخاصة في منطقة شبرا الخيمة الصناعية. (الأكثر من ذلك أن معظم مطاعم الهوت دوج الحلال في نيويورك يديرها منوفيون). خففت الهجرات من الضغوط على المحافظة، كما أسهمت في توفير فرص أفضل للمهاجرين.

تغرق مصر الآن في أتون أزمة اقتصادية تظهر إشارات قليلة على التحسن. تشعر الطبقة الوسطى بالهلع مع ارتفاع أسعار المنتجات وبخاصة المستوردة. يعاني الفقراء وسط نقص في السلع الأساسية مثل السكر وحليب الأطفال. في الكثير من المحافظات تدنت شعبية «السيسي» جنبا إلى جنب مع تدني قيمة الجنيه المصري. ولكن إذا كان لتاريخ المنوفية أي دليل، فإن المحافظة ستصبح أكثر ولاء للنظام من أي وقت مضى.

المصدر | فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية

المنوفية مصر السيسي أنور السادات حسني مبارك