«نيويورك تايمز»: الدكتاتورية المتهالكة في مصر

الأحد 29 يناير 2017 10:01 ص

يقع مستقبل مصر في نهاية طريق أسفلتي ذو اسمٍ جديد يمر عبر الصحراء الشرقية، على هيئة مشروع قومي كبير يقام في فضاء شاسع محاط بسماء هائلة. هذا المشهد من الخيال العلمي يمثّل الواقع المرير: صور ظلّية لعجلات كبيرة الحجم، وعدد كبير من السائقين يتحرّكون ببطء شديد نحو الأفق، بينما تخرج حجيرات غريبة وتوابيت من الرمال.

قال «عبد الفتّاح السيسي»، الجنرال العسكري الذي تحوّل إلى ديكتاتور، أمام الأمم المتّحدة بعد وقتٍ قصير من صعوده إلى السلطة عام 2014: «هدفنا هو بناء مصر جديدة». وفي قلب مصر الجديدة هذه، كما يتخيّل زعيم البلاد، البدء بإنشاء عاصمة جديدة، تشيّد من الصفر على الكثبان الرملية على بعد نحو 30 ميلًا من وسط مدينة القاهرة.

وحتّى الآن لا نرى الكثير سوى بعض الفتات، الخطوط الخارجية لمجمع مطاعم، وأساسات مركز تجاري، وفندق مملوك للجيش تحيطه السقّالات الخشبية. ويدار كل قسم من قبل مجموعة مختلفة من الشركات، معظمها ترتبط بأصحاب المراتب العليا في الدولة. ويبدو أنّ العنصر الوحيد المكتمل هو المنصة الاحتفالية التي سيفتتح من خلالها «السيسي» يومًا ما عاصمته الجديدة، تلّة صخرية عالية في الهواء تطل على شبكة متقنة من أماكن الوقوف، ومهابط لطائرات الهليكوبتر، ويحوطها الفراغ.

ومن بعض الزوايا، يوحي المشروع بالصلابة والديمومة، ومع ذلك، يبدو أنّه يحاول أن يتلاءم مع محيطه، وكأنّه في مرحلة متهالكة قد ينهار مع أي عاصفة رياح غير متوقّعة. قمت بتسلّق الخطوات بجهد عبر الأغطية البلاستيكية مع زميل مصري. وبعد أن حدّق في صمت لبعض الوقت، قال في نهاية المطاف: «نحن نبني وطننا في الضياع».

وبعد 6 سنوات من بداية الثورة التي أطاحت بالرئيس «حسني مبارك» وأدخلت الدولة العربية الأكثر سكانًا في الاضطرابات، فإنّ مؤسّسات الدولة أقل أمانًا ممّا تبدو عليه للوهلة الأولى. وصحيح أنّ مظاهر الاستبداد للمدرسة القديمة واضحة الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، بدءًا من 60 ألف معتقل سياسي يقبعون خلف القضبان، إلى موجة من حالات الاختفاء القسري تشنّها الحكومة على الكتّاب والصحفيين ورسّامين الكاريكاتير والمدافعين عن حقوق الإنسان. ويعدّ التظاهر بدون إذن عملًا ضدّ القانون، ويعطي قانون مكافحة الإرهاب الدّولة السلطة لتصنيف أي شخص ليس على هواها بأنّه متشدّد. وقد تمّ شحذ مجموعة أدوات بقاء النظام المتعب مع نصل جديد.

وبالتأكيد بالنّسبة للعديد من حلفائه الغربيين، ومن بينهم الرئيس «ترامب»، الذي وصف نظيره المصري بـ«الرجل الرائع»، واستقبل مكالمة تهنئة هاتفية منه في ليلة الانتخاب قبل أي زعيم أجنبي آخر، يظهر «السيسي» كوجه يمكن الوثوق به في منطقة غامضة. يظهر بصورة رئيس شرق أوسطي يقدّم خيارًا ثنائيًا بين الاستبداد أو الفوضى.

ولكن الواقع مختلف كثيرا. فلم تكن ثورة مصر عام 2011 انحرافًا وقتيًا يمكن دفنه تحت أطنان الأسمنت، بل كانت أولى المظاهر للحظة استثنائية من تاريخ مصر. وكان خطها المركزي هو الصراع حول إذا ما كانت السياسة ستبقى حكرًا على النخب، أو أنّ الدفاعات حول النظام القائم يمكن إزاحتها عن طريق السيادة الشعبية. ولهذا الصراع جذور عميقة، وقد خرج الآن للعلن لأكثر من 5 أعوام. وسيستمر بأشكالٍ مختلفة لكثير من السنوات القادمة.

والغريب أنّ مشروع حكم «السيسي» الذي يروّج له كضامن للاستقرار، غير مستقر في الأساس. إنّه يترنّح من أزمة إلى أخرى، تكشف كلٌ منها عن الشقوق الجديدة في بنية السلطة السياسية، وكل منها يصحب بمستويات جديدة من العنف الرسمي كجزءٍ غير مجد من محاولات التغلّب على تناقضات الدولة مرّة أخرى بالقوّة والإخضاع.

يزرع النظام قومية شوفينية هادفًا إلى زيادة شرعيته، لكنّه في نفس الوقت يعتمد على الدعم المالي من الحلفاء الإقليميين. وعندما حاولت السعودية، وهي واحدة من هؤلاء الحلفاء، طلب تسوية نزاع على الأرض بنقل ملكية جزيرتين بالبحر الأحمر، أذعنت الحكومة، وخرج الآلاف من المصريين للشوارع غاضبين. وبينما تعهّد النظام بالعدالة الاجتماعية، يقود الآن اقتصادًا استشرى فيه التضخّم، وضربه التقشّف، والمستوى المعيشي يتراجع يومًا بعد يوم.

ويصرّ النظام أنّ تضييقه على الحريّات الديمقراطية أمرٌ ضروري بسبب الحرب ضد الإسلاميين المتطرّفين، لكن لا تزال الثغرات الأمنية قائمة، وتستمر معها الحاجة إلى شيطنة رموز جديدة في الدولة، طالت حتّى أسطورة كرة القدم الحيّة «محمد أبو تريكة»، الذي انتهى به المطاف مدرجًا في قوائم الإرهاب. ويحاول النظام أن يثبت للمجتمع الدولي أنّه منفتح لرجال الأعمال، لكنّه في نفس الوقت يقع في تخبّط نظرية المؤامرة، عندما عثر على جثّة «جوليو ريجيني»، طالب الدراسات العليا الشاب، ملقاة على الطريق السريع، وتظهر عليها علامات التعذيب.

ومثل «ترامب»، يصعد «السيسي» من رماد نظامٍ سياسي محطّم، أكثر حتّى من «ترامب»، ومع ذلك، فهو جزء من هذا النظام المحطّم ولا يمكنه خلق نظامٍ جديد. فالجيل الأصغر في مصر، قد فطم على مشاهد المتاريس والغاز المسيل للدموع في التلفاز، وأبطال الطفولة لديهم هم معلّمون ورجال دين في الفصل والمدرسة والمصنع، ولن يوافق هذا الجيل أبدًا على أنّ الوضع الراهن غير قابل للتغيير.

أيتام الثورة

قال لي ناشط شاب يدعى «طارق حسين» أواخر العام الماضي: «يبدو المستقبل الآن غامضًا جدًا وضبابيًا. لكنّنا لن نتخلّى عن المعركة حتّى ننتصر». ويعيش أقران «حسين» في مفارقات يومية بمصر، فقد تمّ احتجازه في عهد رئيس مصر عن جماعة الإخوان المسلمين «محمد مرسي»، وعاد ودخل السجن في عهد «السيسي» بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين. وقد قابلته في مقهى بوسط القاهرة، وكان معه شقيقه الأصغر «محمود»، الذي ظلّ 700 يوم خلف جدران السجن بدون تهمة، لأنّه فقط كان يرتدي قميصًا عليه شعار «وطن بلا تعذيب».

وقال لي «محمود»: «عندما تمّ إطلاق سراحي، قالوا لي اذهب إلى منزلك وابق صامتًا، ولكن ها أنا ذا».

توقّف حديثنا لوصول من بدا أنّه مخبر شرطة، يستمع لنا ثمّ يتحدّث بشكل مفاجئ في الهاتف. ومشى بنا «طارق» و«محمود» إلى مكانٍ آخر لنستطيع الحديث بحرّية. ويتعارض المستقبل الذي يريد أن يبنيه الشباب مع ما يمثّله مخبر الشرطة، والنظام الذي يرعاه. وبالرجوع إلى العاصمة الجديدة، نجد أنّها تبنى للسلطة التقليدية وشرائح خاصة مع مواقف خاصة بكبار الشخصيات ولهؤلاء الذين يمتلكون مروحياتٍ خاصة. ويتعارض هذا مع الفوضى التي تملأ القاهرة حيث نشأ رفاق «حسين».

لا أحد يعرف ما هي التقلّبات والتغيّرات التي ستحدث في عصر مصر القادم من الاضطرابات، لكن من الواضح أنّ الركود ليس خيارًا على المدى الطويل. وأخبرني صديق يدرّس علم الاجتماع السياسي لطلاب في جامعة مصرية كبرى، مؤخرًا: «كانت تلك الثورة بمثابة الأم الجديدة لهؤلاء الأطفال، شيءٌ ما أخذهم إلى عالم البالغين وجعلهم كذلك، وهم مستمرّون في الإيمان بها وسيفعلون كل شيء لها في المقابل. إنّهم أيتام الثورة، ولن يرضوا أبدًا بالحياة كما هي عليه الآن».

ويشير الواقع إلى أن المستقبل بالفعل غامض وضبابي، أكثر بكثير ممّا يعبّر عنه حكام مصر. ومن سيشكّلون هذا المستقبل لا يزالون لقمةً سائغة. وأثناء القيادة عائدين من المنصة الاحتفالية إلى الطريق الرئيسي، مررنا بمجموعة من عمّال اليومية ملتفّون حول النّار. ويظهر خلفهم قطع ضخمة لجدار بارتفاع 20 قدم، يبدو أنّه يهدف في النهاية لتطويق المدينة الجديدة.

وعندما عرجت على أحد العمّال وسألته عن الجدار، ابتسم قائلًا: «هذا جدار السيسي، وعاصمة السيسي»، ثمّ دار بإصبعه إلى موقع البناء قائلًا: «كل مكان آخر هو مصر».

المصدر | نيويورك تايمز

  كلمات مفتاحية

السيسي ترامب ثورة يناير العاصمة الإدارية