كيف قتلت كلمة الإمام المجدد «محمد عبده»؟

الثلاثاء 7 فبراير 2017 09:02 ص

منذ فجر التاريخ يُجمعُ المؤرخون على وجود عظماء عاشوا حياتهم في سبيل مبادئهم، فأعلوا أصواتهم بكلمة الحق في وجه المُتنكرين لها، أياً مَنْ كانوا حكاماً أو لصوصاً أو قطاع طرق.

وواحد من الأمثلة التاريخية القريبة من هؤلاء، بشكل أو بآخر، ما رواه المؤرخون الثقات عن الشاعر الذائع الصيت في عصره «أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفرى الكندى الكوفى» المعروف بـ«أبوالطيب المتنبي» (915ـ 965م)، (لادعائه النبوة)، والخلاف بينه وبين «عضد الدولة بن بويه» (24 من سبتمبر/أيلول 936ـ 26 من مارس/أذار 983م)، إذ لم يرض «المتنبي» عن عطائه مقارنة بسابقه «سيف الدولة الحمداني» (22 من يونيو/حزيران 916ـ 9 من فبراير/شباط 967م)، فدس عليه «عضد الدولة» جماعة من قطاع الطرق بالنعمانية في العراق، بقيادة «فاتك بن أبي جهل الأسدي»، وكان «أبوالطيب» في جماعة أيضاً، أيضاً، فلما دارت الدوائر على جماعة أحد أبرز شعراء العربية، حتى لقبه نقاد الشعر بأمير الشعراء القُدامى، وقيل بل هو أمير الشعراء العرب قاطبة.

ولما دارت الدوائر على جماعة الشاعر ذي الهمة العالية، حتى أنه أدعى النبوة ثم تراجع إثر قتال مع «لؤلؤ» أمير حمص، (وكان تبع «المتنبي» جماعة كبيرة من «بني كلب» آنذاك، ففرقهم النائب الأخشيدي)، وأسر الشاعر ثم استتابه بعد سجن مُخلياً سبيله، والشاهد أن همة «المتنبي» كانت لا تبارى حتى وصلت إلى النبوة، ولكن الشاعر صاحب الهمة العالية أجاب على أمير اللصوص وقطاع الطرق في عصره:

ـ قتلتني قتلك الله!

وقاتل حتى قُتلَ هو وابنه «مُحسَد» وغلامه «مُفلح» حتى قُتِلَوا جميعاً!

أما الكلمات القليلة التي أعادت «المتنبي» إلى حيث مصرعه فكانت بيت شعره الذي صار الأشهر في التاريخ العربي، أو البيت الذي قتل صاحبه، كما اصطلح على تسميته النقاد المؤرخون:

                                                            الخيل والليل والبيداء تعرفني ..والسيف والرمح والقرطاس والقلم!

ولله در شاعر العربية، الذي كان بصمة متفردة، حتى إن نقاد شعر المدح قالوا إنه الوحيد الذي أبدع مدحاً كما أبدع في جميع أغراض الشعر الأخرى، وإن شعره في المدح لا يقل عن شعر غيره في جميع أغراض الشعر، وإن قامته الشعرية، وهو ابن القرن العاشر الهجري لا تقل عن فطاحل شعراء ما قبل ميلاد الرسول، صلى الله عليه وسلم وهجرته، لله دره لو أنه لم يستسلم لشهوة النفس، وألا يُقال عنه جبان، أو يقول ما لا يفعل، وهو الوصف القرآني للشعراء، أو بحسب قول الشاعر المتقدم عنه «الفرزدق» (38 هـ / 641م - 114 هـ / 732م) «أعذب الشعر أكذبه»!

الحميّة للدين

على أن الشجاعة والحمية والرجولة لما يلتحمون بالدين داخل النفس البشرية تجعلها تفعل ما يقف أمامه عاديو البشر مكتوفي التفكير، بحسب مؤرخي الأديان، وليس ميدان الدفاع عن الدين في ساحة الوغى أو المعارك والحروب وحدها، بل إن كلمة الحق في وجه سلطان جائر هي أعظم الجهاد، أو كما حسن «الألباني» من حديث «أبي سعيد الخدري»، وورد في «ابن ماجة» وغيره، وإن تناوله علماء بالتضعيف.

وفي وقت تنهش كبد الأمة فيه كلمات علماء انتسبوا إلى الدين، وهو منهم براء، بحسب خبراء واختصاصيون، ففي سوريا «أحمد حسون»، وفي مصر المفتي السابق «علي جمعة»، واللاحق «شريف علام»، ومن أسف شيخ الأزهر «أحمد الطيب»، مع ثلة أو مجموعة من العلماء يضيق المُقام بها وعنها، وهم يبيحون طوفان الدماء في مصر وسوريا ..يقف المؤرخون السياسيون قبل متتبعيّ أثر علماء الدين الأجلاء خاشعين أمام تضحية الإمام «محمد عبده» (1266هـ – 1323هـ / 1849م – 1905م) بنفسه في سبيل دينه وأمته وكلمة الحق التي قتلته لكن على النقيض من «المتنبي»، الذي مات نصرة لحاجة في نفسه ألا يُقال عنه جبان، فقد مات الإمام  المُجدد «محمد عبده» للحفاظ على أراضي الاوقاف المصرية من بطش الخديوي «عباس حلمي بن محمد توفيق بن إسماعيل» (14 من يوليو/تموز 1874 - 19 من ديسمبر/كانون الأول 1944).

على المبدأ حتى الوفاة

في 3 من يوليو/حزيران 1899م عَين الخديو «عباس حلمي» الثاني الإمام «محمد عبده» مفتياً للديار المصرية بمرسوم نصه: «صدر أمر عال من المعية السنية بتاريخ 3 يونيو 1899م - 24 محرم 1317 هـ نمرة 2 سايرة، صورته. فضيلة حضرة الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية: بناء على ماهو معهود في حضرتكم من العلامية وكمال الدراية، قد وجهنا لعهدكم وظيفة إفتاء الديار المصرية، وأصدرنا أمرنا هذا لفضيلتكم للمعلومية، والقيام بمهام هذه الوظيفة وقد أخطرنا الباشا رئيس مجلس النظار بذلك».

كان الأمر بعد حياة حافلة بالنضال والكفاح من قبل الإمام المجدد، والخلاف مع الخديوي «توفيق» وأيضاً الثورة العرابية.

وكان الإمام عانى من النفي خارج البلاد حتى عاد بصعوبة بعد توسط لمقربين من الخديوي الجديد، وبعد كل هذا العناء أضمر «عباس حلمي» أمراً ظن أن الإمام مطيعه فيه، إذ قّدم الإحسان إليه، وجعله للمرة الأولى مفتياً منفصلاً عن شيخ الأزهر، والأصل في الأمر كان الجمع بين المنصبين قبل الإمام.

أما عن الثمن الذي رأه الخديوي وجعله في مرسوم تعيين الإمام إشارة إلى (العلامية وكمال الدراية)، فهو استبدال قطعة أرض خاصة بالأوقاف في موقع مميز بأخرى لدى الخديوي في موقع خامل، ورفض الإمام بوضوح الأمر، وقال:

ـ بل يدفع الخديوي إلى خزينة وزارة الأوقاف 20 ألفاً من الجنيهات فارقاً للسعر بين قطعتيّ الأرض!

ورفض الخديوي الدفع، فرفض الإمام البدل، واستشاط الخديوي غضباً، وأُسقط في يديه، فالإمام هو المعني بالأمر، والخديوي يرى أنه أحسن إليه بما فيه الكفاية.

وفي تصرف مُندفع من الخديوي دعا الإمام إليه على مجمع من القوم، وحسب الإمام أن الخديوي سيناقشه في أمر الأرض، فأحضر ما يفيد الفارق بين قطعتي الأرض المراد استبدالها والأخرى، ونوى أن يرد رداً مناسباً جرياً على السياق القرآني {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)} سورة طه.

الفلاحون ..يأمرون

ولمن الغضب كان قد أعمى عيني الخديوي فاندفع يقول:

ـ ما بال بعض الفلاحين يدخلون علينا، فلا يكفيهم هذا الشرف، لكنهم يريدون أن يعلموننا ماذا نفعل وما ينبغي ألا نفعل؟!

وكان الحديث موجهاً للإمام، فلم يحر جواباً، إذ لم يعتد على هذه اللغة، ولا الفجور في الخصومة إلى هذا الحد، ولكنه غادر المجلس بعد قليل وفي نفسه جرح غائر.

ولم يمض وقت حتى أصيب الإمام بسرطان في الفم، جعله يلتهب، وأخذ المرض يتمادى في جسده، وزاره بعض العلماء فطالبوه بكتابة إلتماس إلى الخديوي لعلاجه في الخارج، إذ لا علاج لحالته في مصر، فرفض الرجل وأصر على الرفض.

حتى جاء يوم 11 من يوليو/تموز 1905م، ليبلغ المرض مداه بالإمام، حتى يروى أنه كان يتحدث بصعوبة، وهو مصر على موقفه بعدم طلب شىء من الخديوي، ليعجل إلى ربه، ويلفظ أنفاسه نتيجة كلمة حق عاش عليها، ومات بها، ويروي أهله أن آخر ما قاله كان:

الله أكبر!

وليشيع المصريون بعرفان شديد جثمانه بعدها بساعات من القاهرة.

رؤية الإمام  الإصلاحية

«الثورة العرابية على ذكر الإمام الأستاذ محمد عبده» عنوان كتبه الأديب الراحل «إبراهيم عبد القادر المازني» (1890ـ 1949م) في ملحق جريدة «السياسة» في 19 من مارس/أذار 1932م، مستحضراً رؤية الإمام بعد أكثر من ربع قرن على وفاته، ليقول:

«عاش الشيخ محمد عبده قبل الثورة العرابية، وشهد عهدها، وبقي بعدها زمنًا مديدًا، وهو في رأينا أوثق مصادر تاريخها وحوادثها، وليس يضعف هذه الثقة به أنه كان يعترض على الطريق الذي أخذه عرابي والاتجاه الذي مال إليه، فقد كانت خصومته لعرابي خصومة رأي، وكان لبعد نظره ونفاذ بصيرته يلمح المغبة السيئة التي انتهى إليها أمر العرابيين، ويتوقع الاحتلال الإنجليزي الذي أسفرت عنه حركتهم، على أنه لم يسعه حين وقعت الواقعة إلا أن يجعل ضلعه مع الثائرين مخطئين كانوا أو مصيبين، وأن يحتمل نصيبه من النفي والتشريد».

إن «المازني» يُقر أن «عرابي» واصدقاؤوه تعجلوا أمر الثورة، وأن منظومة الوعي أبرز ما يخسر المصريون منذ كثير، ولله در صاحب النظرية الإصلاحية وواحد من أوائل الذين نبهوا إلى أهمية توعية الشعوب..فلكم كنا نحتاج كلماته بعد 112 عاماً من وفاته، وهو من بعد الخلاف مع العرابيين في الرأي يدفع الثمن راضياً حتى الممات ..يقول «المازني» في المقال نفسه عن الإمام فلكأنه يذكر واقعاً عربياً اليوم:

 «ولم يكن هناك خلاف في الغاية، وإنما كان الخلاف على الوسائل، فكان عرابي وزملاؤه يلهجون بالاستبداد والحرية والحكومات المطلقة والدستورية، وينادون بأن إنشاء حكومة مقيدة قد آن في مصر أوانه، ويسعون لذلك بقوة الجيش، وكان الأستاذ الإمام يُعارض في ذلك ويقول إن تربية الأمة أول ما يجب البدء به لإخراج رجال قادرين على الاضطلاع بأعباء الحكومة النيابية (على بصيرة مؤيدة بالعزيمة)».

المصدر | الخــليـــــج الجـــديــد

  كلمات مفتاحية

الإمام محمد عبده كلمات قتل