أنت بعت بمليم..كيف قتلت كلمات الرسام «بهجت عثمان» الشاعر «صلاح عبد الصبور»؟

الاثنين 20 فبراير 2017 09:02 ص

ـ أنت بعت بـ(3 نكلة يا صلاح)!

كلمات قالها رسام الكاريكاتير اليساري الأبرز بمجلة «روزليوسف» القاهرية «بهجت عثمان» (6 من يونيو/حزيران 1931ـ 3 من يونيو/حزيران 2001م)، في ليلة 14 من أغسطس/أب 1981م، للشاعر الراحل «صلاح عبد الصبور»، صاحب ديوان «الناس في بلادي»، والمسرحية الشعرية «مأساة الحلاج»، وأحد الشعراء العرب الأبرز الثائرين على عمود الشعر العربي، والوزن والتفعيلة، رغم إبداعه ملتزماً بهم أحياناً،  مع «نازك الملائكة»، و«بدر شاكر السياب»، الشاعرين العراقيين، بالإضافة إلى الشاعر المصري الراحل «أمل دنقل».

ومما لا يعرفه الكثيرون أيضاً عن «عبد الصبور»، بالإضافة إلى وقائع ليلة مقتله إثر 3 كلمات فقط من أحد المثقفين، أن الشاعر الراحل كان أول الذين كتبوا أغانٍ للراحل المُغني «عبد الحليم حافظ»، (21 من يونيو/حزيران 1929ـ 30 من مارس/أذار 1977م)، وكانت قصيدة «لقاء» التي تقدم بها الأخير بطلب اعتماده مغنياً إلى الإذاعة المصرية في بداية حياته.

وبحسب ابنة «عبد الصبور» «معتزة» فقد قامت «جامعة إكسفورد» بعمل موسوعة لأهم 100 شاعر في العالم منذ خلق البشرية، وكان «عبد الصبور» واحدًا منهم بل والعربي الوحيد في الموسوعة.

حقائق وغَيْرة

عقب وفاة «صلاح عبد الصبور»، وفي سابقة نادرة لم تتكرر بعدها، فتحت زوجته السيدة «سميحة غالب» النار على مجموعة من المثقفين المصريين، متهمة «أحمد عبد المعطي حجازي»، الشاعر اليساري المعروف، وشلته الثقافية: «جابر عصفور»، والكاتب «يوسف القعيد»، ورسام الكاريكاتير «بهجت عثمان» متهمة إياهم بقتل «صلاح عبد الصبور»، وكانت تقصد التعمد في التسبب في انتقاله إلى جوار الله عبر الكلمات الحادة التي أدت به إلى أزمة قلبية مُميتة، فارق الحياة على إثرها، في واقعة ليست غريبة على حياتنا وواقعنا العربي، عرفها من قبل الإمام «محمد عبده»، أحد مجددي الدين الإسلامي في عصره، والإمام «محمد أبو زهرة»، على النحو الذي بيناه في تقريرين سابقين، وإن كان الأمر جديداً في العصر الحديث على المثقفين المُقربين من السلطة، والذين عُرفوا بلعق أحذيتها، والحياة في ظل الفُتات الذي تجود به عليهم أن يموت أحدهم لتعييره وسبّه بموقفه منها.

تعود صورة «عبد الصبور» ووقائع مقتله إلى الذاكرة بقوة لاختيار القائمين على «معرض القاهرة الدولي للكتاب»، في دورته الـ48 الأخيرة المنتهية في 10 من فبراير/شباط الجاري، كشخصية المعرض الرئيسية، بالإضافة إلى كون «عبد الصبور» نفسه، رئيس الهيئة العامة للكتاب في دورته الـ13، (29 من يناير/كانون أول ـ9 من فبراير/شباط من عام 1981م)، التي شهدت مشاركة للعدو الصهيوني بكتبه في المعرض عبر توكيل من لدور نشر مصرية للمرة الأولى، وتسبب الموقف فيما بعد في مقتل «عبد الصبور» فيما بعد، وكانت السيدة «جيهان السادات» حرم الرئيس الأسبف قد افتتحت المعرض في تلك الدورة.

لكن الحقائق الماضية، لا تنفي بحال من الأحوال، أن مجموعة من مدعي الانتساب إلى الأدب والثقافة اجتمعت على مقتل شاعر، ربما والى وانحاز إلى السلطة علناً في نهاية حياته، إلا أن المثقفين، المُتسببين في مقتله، لم يكونوا أكثر منه وطنية، بل حسدوه على اختيار السلطة له من بينهم، وإلا فهاهو «أحمد عبد المعطي حجازي»، الذي نفى عن نفسه نية القتل، (ولم يستطع نفي الفعل)، في حوار مع الناقد «جهاد فاضل» فيما بعد، «حجازي» يُعد أحد كُتّاب جريدة «الأهرام »الحكومية شبه الرسمية، أما «جابرعصفور» فتولى وزارة الثقافة، لا الهيئة العامة للكتاب فقط كما فعل «عبد الصبور»، وفعلها «عصفور» لمرتين، مرة في وزارة «أحمد شفيق»، آخر وزارة في عهد «مبارك» وقت ثورة 25 من يناير/كانون ثانٍ 2011م، ودماء الشهداء لم تجف في ميادين مصر بعد، ومرة أخرى في عهد الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، بعد الانقلاب العسكري، وفي الحالين لم يتجرأ أحد على القول لـ«عصفور»:

ـ أنت بعت (بدون نكلة أو مليم يا جابر)!

مثلما قالوا وتبجحوا لـ«عبد الصبور» وقتلوه في واحدة من قصد المثقفين قتل أحدهم لمعرفتهم برهافة الحس التي يفتقدونها.

دماء على مكتب «عبد الصبور»

أما (النكلة) التي قال «بهجت عثمان» لـ«عبد الصبور» أنه باع نفسه بـ3 منها، فهي عملة معدنية كانت معروفة أيام الرخص الشديد بخاصة في عهد الملك «فؤاد» وابنه «فاروق»، بداية من العقود الأولى من القرن العشرين في مصر وحتى بعد منتصفه تقريباً، وهي اثنين مليم (الجنيه المصري الواحد يحتوي على ألف مليم وخمسمائة نكلة)، وكان يُتندر بها (النكلة) فيما بعد إذ لم يعد لها وجود في الواقع المصري في ظل انهيارات الجنيه المصري المُتعاقبة، بخاصة بعد الانفتاح الاقتصادي الذي قاده الرئيس الراحل «السادات» منذ السبعينيات من القرن الماضي، وهو ما تناوله المثقفون في لقائهم مع «عبد الصبور» المؤدي إلى وفاته.

أما بداية الليلة الأخيرة في حياة «عبد الصبور» فيرويها الوزير «عصفور»، فيما بعد،  في «مجلة الدوحة»، محدداً عناصر الليلة وأهمها البشرية، ومفتتحاً تذكر واحدة من أغرب الليالي الثقافية على طريق مقتل المبدعين منذ واقعة «المتنبي» المعروفة، قال «عصفور»:

ـ «التقينا صلاح وزوجته سميحة غالب وابنتيه مي ومعتزة، وأمل دنقل وزوجته عبلة الرويني والرسام بهجت عثمان نجم الحركة الشيوعية المصرية في الكاريكاتير، من روز اليوسف وكان يئن من التطبيع والانفتاح الاقتصادى».

أما عن خلفية الليلة، الحاضرة بشدة ليلتها، فهي أن «عبد الصبور» في دورة 1981م من «معرض الكتاب» فوجىء بالدماء، دماء الشباب المصري الثائر، الذي كان يصر «عبد الصبور» أنه منه، تنير مكتبه وأوراقه، إذ إن «عبد الصبور» كان مكتبه داخل المعرض، كالعادة، ولكن الشباب اعترض بقسوة على مشاركة (إسرائيل) العلنية في مرة واضحة صريحة عقب اتفاقية «كامب ديفيد»، إذ تشارك (إسرائيل) بقوة في الحياة المصرية كلها، لكن دون صراحة أو إعلان عن ذلك.

وفهم «عبد الصبور» أن مكتبه تم اتخاذه لمكان لتعذيب المعارضين لاشتراك (إسرائيل) في المعرض، وأن الأمن المصري آنذاك قام بالأمر غير عابىء به كرئيس للهيئة ولا بسمعته كشاعر محسوب على المُناضلين، ولكن «عبد الصبور» صمت طمعاً في مزيد من التقرب من السلطة، وخوفاً من بطشها وتنكيلها به.

وتردد بقوة آنذاك أن «عبد الصبور» كان يريد الوصول لمنصب وزير الثقافة لذا لم يستقل من رئاسة الهيئة بعد واقعة الدماء.

بعت فلا تتحدث

واستمر الألم في قلب الشاعر يعمل داخل نفسه فيؤرقها ويضنيها نتيجة تخاذله في أخذ موقف مناسب من تعذيب وربما قتل لمواطنين دافعوا عن حق الوطن في ألا يلوثه الغاصبون من الصهيانة ببذائتهم بخاصة في معرض الكتاب، حتى ليلة 14 من أغسطس/أب من نفس العام، وبعد أشهر على نهاية المعرض.

واشتد حر الصيف على المجموعة في بيت «حجازي»، فانسحبوا إلى البلكونة ليستمعوا إلى قصيدة تقول بالعامية المصرية:

«هذا أوان الأونطة والفهلوة

 والشنطة تعرف تقول جود نايت وتفتح السمسونايت

 وتبتسم بالدولار

وتقفل ببان الوطن وترمي مفتاحها وتبيع في أمك وأبوك».

وانسحب «عبد الصبور» من لسانه فقال:

ـ «صحيح شعب يستاهل مايجري له مادام يسكت على سارقيه ومادام لصوصه مطمئنين إلى أنه لايمكن أن يقرر».

كانت القصيدة من أحد دواوين الشاعر الراحل «عبد الرحمن الأبنودي» (1938 ـ 21 من أبريل/نيسان 2015م) والذي وافق كل العصور الجمهورية المصرية حتى الآن، من «عبد الناصر» حتى «السيسي»، مروراً بـ«السادات» و«مبارك»، وأجاد الغمز واللمز، ولكنه أحب الحياة أكثر من المبادىء، وإن تم سجنه أحياناً، ونقم على الرئيس الراحل «السادات» أحياناً أخرى.

ويقول الكاتب «يوسف القعيد»، صاحب المواقف الشهيرة المنافقة لـ«مبارك»، حتى آخر أيام حكمه، المُنقلب عليه فيما بعد مدعياً الثورية، وأحد أشد الموالين لنظام «السيسي» اليوم، يقول «القعيد» إن رسام الكاريكاتير «بهجت عثمان» كان مخموراً في تلك الليلة، فرد على «عبد الصبور» على الفور:

ـ«كيف يقرر الشعب إصلاحًا ومثقفوه خانوه وباعوه؟».

ولم يكن الأخير ليخفى عليه معنى الكلمات ..لكنه سأل في محاولة للتماسك بخاصة أمام أسرته وبناته:

ـ «ماذا تقصد بالمثقفين الذين باعوه؟».

فوجدها «عثمان» فرصة سانحة للقضاء على «عبد الصبور» تماماً، فقد لا تأتي ثانية فقال بلسان تفوح الخمرة بمعناها منه، ولكن خمرة الانتقام فيه كانت أشد:

ـ «أقصد أمثالك ياصلاح الذين باعوا قضيتهم بمليم».

هذه رواية «جابر عصفور»، أما رواية «يوسف القعيد» فقالت بـ(3 نكلة).

انتظر الجمع رداً من «عبد الصبور» يُعنف فيه «عثمان» ويأخذ ولو ببعض حقه منه، لكنه لم ينطق، بل بدأ العرق يغزو وجهه والضيق الشديد يظهر عليه، حتى طلب أن يدخل ليرتاح على الأريكة، وآلمه أن أحداً لم يرد عنه، وفي الداخل بدأت الحياة تنسحب منه، ويعلوه الشحوب، فأسرعوا به إلى أحد مستشفيات مصر الجديدة، وهناك قال الطبيب الشاب:

ـ «سأتصل بأستاذي إذ أتوقع أمراً ..خيب الله ظني».

ولكن ما توقعه الطبيب كان أزمة قلبية أودت بحياة «عبد الصبور»، ولم يشعر بعدها لا «بهجت عثمان»، قاتله بكلماته، ولا «حجازي» الذي قُتِلَ «عبد الصبور» بكلمات ضيف في بيته، ولا «القعيد»، ولا «عصفور» بالندم على ما فعلوه ولو للحظة، بل راح الأخيران يقصان القصة للمجلات العربية متقاضين المكآفأت المالية السخية عليها.

وفي أحد هذه اللقاءات أكد «القعيد» أن «عبد الصبور» كان مرهف الحس يتأثر بكل كلمة تُقال وبكل موقف يتعرض له، مضيفًا: «صلاح» قُتل قهرًا بموقف وكلمة.

أما «عبد الصبور»  فقال عن الكلمة من قبل الموقف الذي قتله:

«إن الألفاظ ثمار الأشجار..

أبهى ما تحمل من نوار..

وكما أن الشجر الطيب.. يعطى ثمراً طيب..

فالإنسان الطيب..

لا ينطق إلا اللفظ الطيب..».(شاهد الفيديو).

ميلاد وأحلام

وُلد «محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكي»، في 3 من مايو/أيار 1931 في شارع الحمام بحي كفر الصيادين في مدينة الزقازيق، وهو الأخ الثاني لستة أشقاء، كان يرغب في الالتحاق بالكلية الحربية لكن ثمة مشاكل طبية حالت دون دخوله، فالتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية، عُين عقب تخرجه مُدرسًا في المعاهد الثانوية.

حصل «عبد الصبور» على جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج»، وحصل بعد وفاته على جائزة الدولة والدكتوراة الفخرية في الآداب، وفي عام 2014 تم  إهداء فعاليات الدورة السابعة من المهرجان القومي للمسرح إليه، بالإضافة إلى الدورة الـ48 لمعرض الكتاب القاهري الأخير.

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

صلاح عبد الصبور بهجت عثمان قتل مليم كلمة