كيف قتلت «أم كلثوم» «إبراهيم ناجي» بتأخيرها غناء «الأطلال»؟

الاثنين 27 فبراير 2017 09:02 ص

كان يجر قدميه جراً إلى فيلتها في الزمالك، يعرض عليها «كراسات شعره» المُبتلة بعرقه، ومن قبل دموعه، ويرجوها في وقار، أن تغني له قصيدة عاطفية، بخاصة بعد أن غنت له «كوكب الشرق»، كما كانت تُسمى آنذاك، قصيدة مطلعها:

«أجل، إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا فمصر هي المحراب والجنة الكبرى!».

وكان يصمت، كثيراً، في حضورها، وهي التي إن استقبلت أحداً كانت تحب الصاخبين الضاحكين المُهللين لها المستبشرين بقدومها، وكيف لا؟ وهي التي ألف فيها أمير الشعراء الراحل «أحمد شوقي» «سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها»، وذلك إثر سماعه لها تُغني في نهاية العشرينيات (توفي شوقي في 14 من أكتوبر/تشرين الأول 1932م).

 وهي التي صاحبت الملوك والرؤساء بداية من «فاروق» الذي إهداها «نيشان الكمال» الذي نزل إلى واحدة من عامة الشعب في سابقة فريدة، بل كادت تتزوج خاله «شريف باشا صبري» لولا تدخل الخاصة الملكية.

 وحتى بعد يوليو/تموز 1952م صارت المطربة المُقربة بجدارة من جميع الذين تسموا بـ«الضباط الأحرار»، وتم استثناؤوها من التطهير وإزالة معالم العهد البائد، وقال يومها الرئيس الأسبق «جمال عبد الناصر» إلى رئيس الإذاعة الذي منع أغانيها:

ـ «وأنا اللي عمال أدور في الإذاعة على صوتها كل ليلة؟! طيب خد قوة وروح هدّ الهرم بالمرة!».

في إقرار منه بأنها كانت مثل الهرم.

تشابه أسماء فريد

كان «إبراهيم ناجي» يقصد فيلا «أم كلثوم» في الزمالك موقناً أنها إن غنت له قصيدة عاطفية ستحل عنه الجهل الذي حل به، من جراء خلط «الضباط الأحرار» بينه وبين الشاعر «محمود حسن إسماعيل»، صاحب ديوان «الملك»  قبل يوليو/تموز 1952م، ولا يعرف أعتى أديب وجه الشبه بين اسم الراحل «محمود حسن إسماعيل» و«إبراهيم ناجي»، ولا حتى مؤرخ فضلاً عن عاقل:

وأصدر «الضباط الأحرار» قائمة التطهير الأولى متضمنة أسماء: «محمد فتحي بك»، مدير الإذاعة (والمعروف بالكروان)، و«علي بك خليل»، وكيل الإذاعة، والشاعر «صالح جودت» أحد أركان الإذاعة، ثم الشاعر «إبراهيم ناجي».

وترتب على قائمة التطهير أن فُصِلَ «ناجي» من عمله كمدير للإدارة الطبية بوزارة الأوقاف وأصبح – في عرف الدولة- شخصاً يستحق التطهير، هذا مع أن «ناجي» لم تكن له أي اهتمامات سياسية ولا كان من أركان الإذاعة. وهو ظلم لحق بالشاعر دون أن يعرف له أية حيثيات.

مات يوم التطهير

وكان «ناجي» يدور في شوارع القاهرة عقب القرار باكياً عاتباً على المجهول، إذ كان يخشى القتل أو الاعتقال إن نطق إلى غير الذين يثق فيهم، بعد أن تم طرده من منزله، وتوالت الأمراض عليه، وعرف الجوع مع مرض السكري، القديم لديه، مع الهزال الشديد، وتوالت الأمراض عليه، وصار مطمعاً لراقصات الطبقة الثالثة ومَنْ ورائهن، يزورهن في الملاهي الليلية، ويكتب فيهن القصائد لمجرد أن تمنحنه شيئاً من تعاطف، وهو الشاعر الكبير المجدد في حركة «أبوللو» الشعرية، لولا جهل العسكر الذين تولوا حكم مصر غفلة، ويصف الأديب «وديع فلسطين» بعض هذه المشاهد: «.. زارني في المقطم ـ (جريدة المقطم) ـ ..ثم انفجر باكيًا كالطفل، لا على وظيفة ضاعت منه، بل على وصمه بأنه أهل للتطهير، وإيراد اسمه في أول قائمة المُطهَّرين، وظل يجهش بالبكاء وأنا أواسيه إلى أن انصرف. كنت بعد انصرافه أتوقع قراءة نعيه في الصحف كل يوم، لأن حالته النفسية كانت في الحضيض، وقدرته على المقاومة قليلة بسبب هزاله المفرط، ولم يطل انتظاري إذ قرأت نعيه في الخامس والعشرين من مارس/أذار 1953 فبكيته كالطفل، وقلت للمعزين ونحن نتبادل العزاء: لقد مات ناجي لا اليوم بل في التطهير!.»، بحسب «الشرق الأوسط».

ويضيف «وديع فلسطين» في «المجلة العربية» السعودية: «وقال ـ إبراهيم ناجي ـ إنني أصلاً طبيب وسأتفرغ للطب، ولكن هذه الطعنة النجلاء في ظهري حطمتني تحطيماً. وقال إن كل 

الناس تعرف عني أنني في عيادتي في حي شبرا الشعبي أستقبل المرضى من الفقراء وأعالجهم دون نظر إلى المادة، بل كنت توافقت مع العلامة نقولا الحداد (مترجم نظرية النسبية وأنت تعرفه خير المعرفة) وكان يمتلك صيدلية أسفل العقار الذي يضم عيادتي، على أن يصرف الأدوية للمرضى الفقراء ويقيد ثمنها على حسابي الخاص».

شاعر تحت معطف طبيب

من شاعر مرهف الحس، يرعى الوجود، ويسعى نحو الكمال، ويقدر الجمال إلى رجل يستحق التطهير لتشابه في الأسماء غريب عن غير تشابه أصلاً، وبالتالي تم طرده من عمله المميز في وزارة الأوقاف كمدير للإدارة الطبية، وغلق عيادته في شارع الخازندار في شبرا، وتخلت عنه زوجته وأبناؤوه، وصار مدفوعاً مطروداً من بيوت أصدقائه، لا يجد ثمن علبة الدواء، وهو الذي يُروى عنه أن 

عيادته كانت ملجئاً للفقراء حتى أن أحدهم ذهب بطفله الشديد النحافة لعلاجه لديه، فلم يملك «ناجي» إلا أن أخرج له عدة جنيهات، وهي ثروة في ذلك الزمان، ليقول له:

ـ «هات دجاجة وأطعمها ابنك، ثم لحم في اليوم التالي، وسمك فيما يليه، وسيخف ابنك ويصير (زي الفل) بإذن الله!».

كان رجلاً نقي القلب، يكتب على (الروشتات) أشعاره، وينصح مرضاه بالصواب، وغاب عنه الرجل والد الصبي المُصاب بالأنيميا، ليلتقيا قدراً في الشارع، ويُبادر ناجي بسؤاله:

ـ «هل أحضرت لابنك الدجاج واللحم والسمك؟».

فأجابه الرجل على الفور:

ـ «لا يادكتور ..بل ذهبت بـ(فلوسك) إلى طبيب آخر كتب له علاجاً!».

أما «أم كلثوم» فنظرت في شعر الرجل، وعلمت أنه جيد وأنه يصلح لأن تغنيه ولكنها أدركت، بحس الشهرة لا الفنانة ولا غيرها، أنها إن غنت له أضاعت شاعرها المُقرب «أحمد رامي»، والقصيدة التي ستغنيها لـ«ناجي» ستتبعها قصيدة فأخرى، وبذلك تحييه من موات، وتقدمه كشاعر لا يعرف عن السياسة شيئاً إلى «الضباط الأحرار»، ومن هنا لا يعلو «أحمد رامي» فحسب بل يعلوها «ناجي»، هي أيضاً، في الأهمية والشأن داخل مصر، وهو ما رفضته تماماً، مفضلة الاحتفاظ بأوراقه لديها، حتى تتم وفاته، وكان أقرب إلى الموت لمّا يزورها لفرط الجوع والهزال.

وبلا رحمة أو شفقة انتظرت الفنانة سيدة الغناء خبر وفاة الرجل ولم يتأخر حدسها ولا ظنها إذ انتقل إلى جوار الله ناجي في 25 من مارس/أذار 1955م، بعد أقل من 3 سنوات من المعاناة من حركة يوليو/تموز التي بادر الدكتور «طه حسين» بتسميتها ثورة!

«الأطلال» وثورة في غناء القصائد

وعام 1963م بعد وفاة «ناجي» بثمان سنوات كاملة، لئلا تمنحه فرصة للشفقة أو التعاطف عقب موته مباشرة بغنائها، وتوضيح جراحه التي تسبب الجهلاء فيها، وبالتالي تفتح على نفسها ألسنة النيران باستتباع ذلك أن يعرف الناس أنها كانت تعرف قصته، ولكنها تتطهر من خطيئتها في حقه، ولكنها لم تفعل، وانتظرت حتى ينمحي ذكره من الأذهان تماماً، ثم شكلت لجنة رأسها الراحل «كمال الملاخ»، صاحب فكرة «بلا عنوان»، الباب المعروف في الصفحة الأخيرة من «الأهرام» المصرية (توفي عام 1978م)، لاختيار أبيات تغنيها من قصيدتيّ «الأطلال» و«الوداع»، ثم اختلفت مع الملحن «رياض السنباطي» في «القفلة الموسيقية» المصاحبة لبيت النهاية من الابيات التي غنتها:

                «ومضى كلٌّ إلى غايته ..لا تقل شئنا فإن الحظ شاء!».

إذ كانت ترى وجوب أن تكون القفلة هادئة، فيما رأى «السنباطي» أن غناءها لـ«محمد عبد الوهاب» و«بليغ حمدي» عوداها النعومة في أغانيها، والاستسلام لسحب العمر التي تتجمع على صوتها، ليبدو الإرهاق عليه (ولدت أم كلثوم على أصوب الآراء عام 1898 واستمرت تغني حتى عام 1972م)، فضلاً عن أن «السنباطي» لم يكن يستسلم بسهولة لطلباتها بكثرة التبديل والتعديل، واستجابت «أم كلثوم» للأخير بعد قرابة عامين، في إحدى الروايات، لتغني «الأطلال» عام 1965م لتعد واحدة من أشهر مائة أغنية عالمية، في استفتاء أُجري عام 2000م، وأفضل ما غنت في حياتها، ولتتخلص من شهرة كاتبها، إذ إنه رحل، وحقوق ملكيته للقصيدة أيضاً!

وحضر «جمال عبد الناصر» حفلاً غنتها فيه بصحبة «الضباط الأحرار» دون أن يعرف شيئاً عن صاحب الكلمات الذي تسبب في مقتله هو وطاقم الحضور إلى جواره.

وُلدَ «ناجي» عام 1898م، وأصيب بالسكري في شبابه، ورقد رقدته الاخيرة عام 1955 الى جوار جده لأمه الشيخ «عبد الله الشرقاوي» في مسجده بجوار الحسين في القاهرة.

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

إبراهيم ناجي أم كلثوم قتل الضباط الأحرار