يارب ارزقني «نصف مليون جنيه وسرطان»..«أنور وجدي» الفنان الذي قتلته أمنيته

الثلاثاء 14 مارس 2017 10:03 ص

يُمثل الفنان الراحل «أنور وجدي» حالة فنية خاصة إذ عمل كمخرج وكاتب للسيناريو، ومساعد لمخرج، بل كومبارس، ونجار ومتعهد تنظيف المسرح في بداية حياته الفنية، ورغم صعوده السلم الفني في قفزات هائلة جعلت منه نجم شاشة وفتى أول، يُشار إليه، ويتزوج نجمة نجمات عصره الفنانة الراحلة «ليلى مراد»، ثم الراحلة، جميلة جميلات السينما العربية في ذلك الوقت «ليلى فوزي» إلا أنه عانى معاناة شديدة جعلته يقرر مصيره المأساوي بنفسه في لحظة نادرة من حياته قضت عليها!

كان «وجدي» ابناً لأب يعمل في مجال التجارة، وورث بيع الأقمشة عن عائلة حلبية  هاجرت من سوريا إلى القاهرة في منتصف القرن التاسع عشر، ووُلِدَ «وجدي» عام 1904م، فألحقه أبوه في صغره بمدرسة «ألفرير» التي شهدتْ تعليم المخرج «حسن الإمام» والمُمثل «نجيب الريحاني» وغيرهما.

لكن «وجدي» الصغير أٌغرم بالفن وبشارع عماد الدين في القاهرة، فبهرته الأضواء منذ تفتح وعيه على الحياة، رافضاً إتمام تعليمه كما أراد له أبوه، وكان الأب حريصاً على المكانة الرفيعة لابنه وسط الطبقات الراقية، وكانت مهنة الفن مجلبة للعار في ذلك الوقت، ولكن الابن اختار، بعد أن تردد على شارع عماد الدين، إذ كان الشارع يلمع آنذاك بالمسارح التي تقدم العروض العالمية التأليف يجسدها كبار المُمثلين المصرين وعلى رأسهم الراحل «يوسف وهبي»، وغير بعيد منه مسرح «نجيب الريحاني»، وتحت سماء نفس العاصمة يُمثل «إسماعيل ياسين» في صناعة عملاقة للمسرح والسينما، وكان الإنجليز يحرصون عليها.

ويقف «وجدي» أمام أبيه مُعلناً أنه اختار الإخراج والتمثيل طريقاً، ويحاول الأب صرفه عن هذا الاتجاه مطالباً الابن بإكمال مسيرة التجارة والثراء محافظاً على سمت الأسرة واسمها، فيرفض الابن في تصميم، ويُوسطُ الأب زوجته، وتحاول الأم مع ابنها فتفشل، ويُسقط في يد الأب فيعلن 

قراره النهائي:

ـ إنني انفق على ابني ليكون قطعة مني، يتبعني في حياتي وعملي، ويمضي على طريقي من بعدي، فإن أخترت غير طريقي فلا تبق في بيتي.

(الصورة مع الراحلة ليلي مراد التي قال عنها في نهايات حياته لا استطيع الحياة بدونها، ولا استطيع الحياة معها في آن واحد).

نصف مليون وسرطان

كانت الفنانة الراحلة «زينات صدقي» تعقد الولائم للوسط الفني كله، وكانت كبقة المُمثلين المصريين تعرف الإرتست أو الدوبلير أو الكومبارس، وجميعهم يتبادلون العمل في مساحات الظل، فإما يحملون ما يبدو على أنه سلاح في مقدمة المسرح دفاعاً عن البطل، أو يقومون مكانه بالمشاهد العنيفة في السينما، أو حتى يتلقون الضربات عوضاً عنه، أو يعملون أعمالاً أخرى غير معروفة، وهؤلاء كانت «صدقي تدعوهم أيضاً، من باب الشفقة، لتناول الطعام في غير المأدبة الأولى، وكان «وجدي» قد عضه الجوع بقوة، فعرف الطريق إلى بيتها، ومرة بعد أخرى عرفته فصارت تقربه حتى أجلسته إلى جوار نجوم الصف الأول، وفي ذات مرة سألت بعفوية:

ـ هل المال هو سر النجاح والطمأنينة في الحياة أم الصحة؟

ولم يصبر «أنور وجدي»، وإنما اجاب على الفور:

ـ يارب ارزقني مليون جنيه وسرطان وأنا راضٍ يارب!

صرخت «زينات صدقي» فيه:

ـ أنت بتقول إيه يا مجنون .. اسكت..؟!

لكنه لم يسكت..وانطلق يزيد ويعيد:

ـ صحة إيه يا ست «زينات» المال هو الأهم!

وتقبل الله دعوة «أنور وجدي» ليعيش ما تبقى من عمره نادماً عليها.

(الصورة من فيلم دهب مع المصرية الراحلة فيروز، في صغرها،  مُجسداً دور الفقير المُعدم الذي عاشه لسنوات طويلة).

رحلة هرب

قبلها رأى «وجدي» أن حياته الحقيقية نقطة الصفر فيها هي هجرته إلى أمريكا، فهناك «هوليود» التي لايرى سُلَّم حياته أقل من أن يبدأ بها، واتفق في المرحلة الثانوية من تعليمه على الهروب إليها مع اثنين من زملائه، وقبل تحرك الباخرة من بورسعيد استطاع ضابط الإمساك بثلاثتهم، وفي المدرسة الثانوية كان الزعيم فتم طرده، وكذلك كان الأب الذي فاض به.

وفي شارع عماد الدين وجد «وجدي» نفسه يكاد يموت من الجوع، فلا احد يعرفه، ووقوفه في وجه النجوم لا يعني لهم شيئاً، وذهب إلى الصحفي الراحل «مصطفى أمين» طالباً توصية لـ«يوسف وهبي» فألقى الأخير التوصية في القمامة وطرد «وجدي» إلى الشارع.

مطافىء وامرأة

وشب حريق في مسرح رمسيس بشارع عماد الدين، وكانت فرصة «وجدي» ليتفانى في إطفائه، وينتبه إليه مدير المسرح فيعينه كومبارس بقرشين ضمنا له ثلاثة أطباق من الفول المدمس وأرغفة خبز يومياً، وينام في المسرح متدثراً بألواحه الخشبية، دون ملابس ولا دواء إن مرض، فرجا «مصطفى أمين» من جديد أن يكتب عنه كلمات في مجلة «آخر ساعة» لينجو من الهلاك مطالباً برفع اجره إلى خمسة قروش، ولكن الراحل «محمد التابعي»، رئيس التحرير يرفض النشر، ويسأل مَنْ «أنور وجدي هذا حتى ننشر عنه؟ وهو مجرد كومبارس؟».

وكانت موهبة «وجدي» الهادرة غير بعيدة، إذ كان يحفظ أدوار جميع المُمثلين والممثلات فغابت أحداهن فقرر أداء دورها، ووافق «يوسف وهبي» الذي لم يكن لديه حل آخر، ولم يعرف الجمهور أن الفاتنة التي أدت الدور هي رجل، وارتفع أجر وجدي إلى عشرة قروش بعدها. 

المجد عن طريق «الترزي»

وفي المرة الأولى التي يتقاضى فيها ستة جنيهات، وهو مبلغ كبير آنذاك، قرر «وجدي» تفصيل ثلاثة بدل، وكان في خطواته الاولى إلى السينما، ولما سئل عن سبب فعله، وهو لا يجد ما يسد رمقه قال: 

ـ سأصعد سلم المجد عن طريق «الترزي»!

وأُصيب «وجدي» في نفس الليلة بحالة إغماء في الشارع لشدة جوعه، فاجتمع الناس ليحملوه إلى المستشفى لكنه أفاق ليقول إليهم:

ـ لا انقلوني لأقرب مطعم.

 وكان الأب يلتقي ابنه أحياناً، فيشفق عليه ويدعوه لتناول الطعام في البيت، ويعرض عليه العودة عن طريق «الفن والشحاذة»، ولإن «وجدي» كان ينتظر الطعام فكان يقبل على الفور، حتى إذا أكل عاد للرفض، فطرده الأب من جديد، أما الحبيبة «نيللي»، عاملة المانيكير المقيمة في حي غمرة القريب من شارع عماد الدين فكانت تستقبله في أوقات الطعام لكن مع غيرتها الشديدة عليه لم يطق قربها، فطردته هي الأخرى.

كان حلم حياة «وجدي» في ذلك الحين أن يحصل على راتب خمسة عشر جنيهاً، ينفق منها اثنتا عشرة على الملابس، وثلاثة للسكنى والطعام، بحسب «مصر العربية».

(الصورة عقب العرض الأول لفيلم فاطمة بين كاتبه الراحل مصطفى أمين، الذي شهد سنوات فقره المدقع، وبين الراحلة أم كلثوم).

إلى أمريكا

وفي خضم المعاناة قرر «يوسف وهبي» السفر برفقة فرقة مسرح رمسيس إلى أمريكا لأداء عرض هناك، مختاراً كبار النجوم، واستعطفه «وجدي» للسفر معه، فرفض إلا بعد أن قايضه واتفق معه على أن يعمل في النجارة والتنظيف والإدارة والتمثيل وبلا مقابل، ووافق «وجدي» مُعتقداً أن بينه وبين معشوق النساء في أمريكا آنذاك «روبرت تايلور» شبهاً سيجعل النساء يُهرعن إليه، وتفتح «هوليود» له أحضانها، ولكنه اكتشف ألا أحد يعيره انتباهاً فعاد لمصر خائباً من جديد.

 المعجزة تتحقق

ودب المال في جيب «أنور وجدي» إذعرفه المنتجون والمخرجون في معجزة لم يعرف هل سببها مداومته على التمثيل ومحاولة الإخراج، ساعد «كمال سليم» على إخراج فيلم «العزيمة» عام 1939م، أم لإصراره على الشهره وملازمته شارع عماد الدين لا يبعد عنه إلا ليبت في مقهى الفيشاوي أحياناً، وكانت الإنطلاقة الحقيقية بفيلم «غرام وانتقام» مع «يوسف وهبي وأسمهان» عام 1944م، بعد أن شارك في فيلم «ولاد الذوات» أول فيلم ناطق بالعربية عام 1933م.

وكان المنتجون إذا رأوا دور شرير أو محتال شاب في فترة من عمر السينما حجزوه لـ«وجدي»، وفي عام 1945م، وكان قد طلق زوجته المُمثلة «إلهام حسين» لأنها لا تصلح زوجة لمليونير، ليحقق حلمه بالزواج من «ليلى مراد»، وتم تصوير الحفل ليشاهده الناس ضمن فيلم «ليلى بنت الفقراء»، فقد أخرج الفيلم ومثل فيه،  وفي عمارة الإيموبليا الشهيرة بناصية شارع شريف بقصر النيل بوسط العاصمة القاهرة، وهناك اشتكت زوجته من صوت مؤذن الفجر الذي يرهبها، لتعلن إسلامها بعد عام.

وفي عام 1946م كان «وجدي» على موعد مع قمة الشهرة ببطولة وإخراج فيلم «غزل البنات» مع زوجته الحسناء، وبمشاركة نجوم السينما الذين لم يكن يحلم بالجلوس معهم من: «نجيب الريحاني»، «يوسف وهبي»، بل «محمد عبد الوهاب» بفرقته الموسيقية وموسيقاه التصويرية، وحقق الفيلم أرباحاً ضخمة بعد توزيعه بالدول العربية، وأسس «وجدي» شركة إنتاج فني مع زوجته، لكنه تمادى في البخل إلى نيل نسبة من نسبتها في الربح دون إخبارها، فلما اكتشفت الأمر طلبت الطلاق، إذ أحست منه بعدم الشفافية مع عدم قدرتها على الإنجاب منه كما تمنت، وإن كانت لم تتوقف عن التمثيل معه كما في «قلبي دليلي» 1947م، و«عنبر» في العام التالي له بمشاركة نجوم عصرهما بالإضافة إلى الراحل «إسماعيل ياسين» وبأرباح أضخم.

(الصورة بين الراحلتين ليلى مراد وزينات صدقي التي صرخت به محاولة سحب أمنيته بالسرطان والمال ففشلت).

 أول الانكسار

لم تكن «ليلى مراد» راضية عنه قبل زواجها منه، فطاردها، لتشترط عليه أن تعمل مع جميع المُنتجين، وليس لحسابه فقط، ويكون لها حسابها الخاص في البنك، وكان متعهدي الدول العربية يُوقعون على أي عقد فيه اسم «أنور وجدي مما كان يُغري المنتجين ويزيدهم نهماً به، وكتبت الصحف المصرية 

عقب زواجهما أنهما أسعد زوجين في العالم، وهو ما لم يتحقق له، إذ لم تنجب له «ليلى مراد»، ولم تكن تطيعه، فضغط عليها بالمال وبمختلف الطرق فهجرته، فجن جنونه فطلقها لتخضع، لكنه هو الذي خضع بل ركع، وقبل أن يندم أمامها وصل إليه خبر زواجها من المخرج «فطين عبد الوهاب» بل إنجابها منه، وهو الذي كان يظنها عاقراً!

كان «وجدي» عاشقاً لـ«ليلى مراد» بلا حدود، كان يريدها نجمة تدر الذهب له، وفي نفس الوقت «الست أمينة» في البيت، وكثيراً ما قال:

ـ «لا أستطيع أن أعيش معها ، ولا أستطيع أن أعيش بدونها».

النهاية

ولكي ينسى اشترى قطعة أرض في مكان مميز من وسط القاهرة، ولكنه ما إن بدأ في بنائها، العمارة المعروفة باسمه حتى الآن، حتى هاجمته آلام المرض الذي تمناه في مأدبة «زينات صدقي» ورفض ندائها له بـ«المجنون» ليصمت، وأخبره الأطباء بأنه مصاب بمرض الكليتين، ولم يخبروه أنه «السرطان» وفي الكليتين، وحاول النسيان، فتذكر الجميلة «ليلى فوزي» التي تقدم لها قبل أن يصبح بطلاً في عام 1944م، قبل فيلم «غرام وانتقام» بفترة بسيطة، وكان فاتحة لشهرته، وكان يكبرها بعشرين عاماً، وكانت حينها مثلت في أحد عشر فيلماً، فرفضه أبوها وزوجها لـ«أمين عثمان» الذي يكبرها بثلاثين عاماً.

كان قد اعتاد تناول «الفول النابت» لما التقى «ليلى فوزي» في فيلم «خطف مراتي» مع الراحلين «صباح» و«فريد شوقي» عام 1953م، وكانت «فوزي» مُطلقة تعرف قصة حياته، وندمه على أمنيته، وتمنيه أن يأخذ أحدهم النصف مليون جنيه نظير كليتيه، ولم يكن الطب متقدماً في تلك الجراحة حينها، وكان يحلو له أن يقول:

ـ كنتُ فقيرًا لا أجد ثمن الرغيف، وكانت صحتي حديد ، وعندما انهالت على الفلوس، أصبحت لا أستطيع ان أتناول لقمة عيش!

(الصورة مع آخر زوجاته الراحلة ليلى فوزي متظاهرة بقراءة الفنجان لتعرف المُخبأ من حياته الباقية).

وكان في قمة الألم يصرخ:

ـ سأعطى نصف مليون جنيه لمن يعطيني كلية..خدوا فلوسي ورجعوا لي صحتي وشبابي.

وفي غمرة جنونه بما يحدث له كان يقرر انفاق ماله، فقرر السفر إلى أوروبا بعروسه قيل لقضاء شهر العسل وقيل للعلاج لكنها عادت به في 14 من مايو/أيار 1955م من استكهولم في السويد جثة هامدة في صندوق ليبقى المال الذي تمناه ليستمتع به غيرهن ويلقى الله ليحاسبه عنه، ومن قبل عن الجرأة في الأمنية!

 

 

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

أنور وجدي أمنية نصف مليون سرطان