بالفيديوهات..كيف قتلت حفلة قارئة الفنجان «عبد الحليم حافظ»؟ (2ـ 2)

الثلاثاء 25 أبريل 2017 09:04 ص

في مثل هذه الأيام من أبريل/نيسان 1976م من 41 عامًا شهد نادي «الترسانة» الرياضي بحي المهندسين من محافظة الجيزة آخر حفلات «عبد الحليم حافظ» في مصر؛ وكانت الحفلة الأسوأ في تاريخ حياته، إذ انفعل على جمهوره وصرخ فيهم:

ـ «بس بقى.. !» (شاهد الفيديو).

ثم تمادى ليقول في فجاجة نادرة من فنان في مواجهة جمهوره الذي جاء إليه في حفلة مدفوعة الأجر راغبًا في قضاء بعض الوقت المُرفه؛ كما هو الحال في عالمنا العربي من اهتمام السلطات على بالحفلات الجماهيرية رغبة في الاستحواذ على اهتمامهم..قال «حافظ» في فجاجة:

ـ «لو على التصفير والصراخ أنا أعرف أصفر برضه..ولو على علو الصوت أنا أعرف أعلي صوتي.. !» (شاهد الفيديو).

ظهر أن الراحل فاقد للقدرة على السيطرة على نفسه تمامًا؛ ولاحقًا في أحد مقاطع القصيدة كانت الموسيقى تسير فيما توقف تمامًا عن الغناء؛ ولم يسعفه أحد أعضاء الفرقة الموسيقية بمحاولة تذكيره؛ بل لم تُهدأ الفرقة من إيقاع العزف أو تعيد جزءًا من المقطع تمهيدًا لتذكر حافظ؛ كما كانت تُنبه «أم كلثوم» على فرقتها بشدة إن نسيتْ؛ وكثيرًا ما كان يذكرها أحد العازفين بخاصة في آخر حياتها.

قمة المجد والمرض

كانت أزمة «حافظ» شبيهة بأزمة «أنور وجدي»؛ عانى من التجاهل لموهبة متوسطة الحجم؛ ولكن بتقرب «حافظ» من «الضباط الأحرار» تم تبنيهم له؛ وبالتالي تقديمه إلى الجمهور في «احتفالات الثورة» في يوليو/تموز 1954م؛ وبأغنية «صافيني مرة» التي رفضها الجمهور له من قبل؛ واستمر التبني الرسمي له حتى عام 1964م على نفس الطقوس الاحتفالية يُغني لـ«جمال عبد الناصر» والثورة حتى منعته «أم كلثوم» بعد حفل عام 1964م للخلاف الذي رويناه في (الجزء الأول) من هذا التقرير.

تروي مجلة «الهلال» القاهرية في الستينيات أن «عبد الناصر» قال لـ«أم كلثوم» و«حافظ» إن الإخوان حاولا اغتيالهما على المسرح؛ ضمن سياق تكريه رموز المجتمع في الإخوان المُعاد اليوم؛ فاندفع «حافظ» قائلًا:

ـ «لو سيادة الريس يعطيني مسدسًا لقتلت الإخوان جميعًا وما أبقيتُ منهم أحدًا! ».

فيما قالت «أم كلثوم» في هدوء:

ـ يا «أفندم لازم النيابة تحقق في الكلام الخطير ده..وتقدم المُدانين إلى العدالة..».

كان «حافظ» مُندفعًا بشدة في موالاة السلطة دون إشارة حمراء..يعرف كيف يُداهن إلى نهاية الخط؛ وفي المقابل يُدرك أن «محمد قنديل»، «محرم فؤاد»، «فريد الأطرش» وغيرهم يُمثلون أصواتًا رجالية تمتلك قماشة أوسع وثراء في الطبقات من صوته المتوسط ؛ وأن السياسة هي التي تجعل الدولة تحتفي بأفلامه وبقصة مرضه..وتُبرزه على أنه الفتى الوسيم المحروم من الحب في الصبا باليتم وفي الشباب بالمرض.

مع «سعاد حسني»

تردد بقوة أنه تزوجها روى ذلك مقربون  منهما لكن الثابت أنه كان ضعيفًا أمام الاحتياجات الخاصة لامرأة مُقبلة على الحياة؛ بخاصة إذا كانت بمثل شهرة وتدفق حياة «حسني»، وحسمًا للعلاقة، قال لها فيما ترويه مواقع وصحف عدة:

ـ «أنا فلاح يا سعاد لن تطيقي الحياة معي..فلن أقبل بعملك في التمثيل..ولن تقبلي بتركه من أجلي..!».

قريب من هذا ما قالته الفنانة الراحلة «مريم فخر الدين» في أواخر أيامها من أنها كانت «تقرف» من رائحة فم «حافظ» حينما يقترب منها في التمثيل لشدة انبعاث رائحة غير محببة منه لاشتداد الكبد عليه..وكان هذا وعمره ما يزال في الشباب!

التحول التدريجي

ومع تقدم الأيام به صارت شهرته أعرض وماله أكثر؛ لكن لا مجال لديه للاستمتاع بدفء بيت وحياة أسرية لن يلبث ألا أن يغادرهما بالموت؛ فصار يُكثر من عارض المعرفة؛ روى الدكتور «محمد حرب»، رئيس مركز الدراسات العثمانية في القاهرة سابقًا، أنه شاهد «حافظ» يشتري مجوهرات من وسط البلد في الستينيات فتجمع الشباب حول المحل وصاروا يسألونه لمن كل هذا؟ فما كان منه إلا ان خرج وسبّهم بأقذع الألفاظ.

ومع ازدياد خطوات الشهرة كان المرض يزداد تمكنًا منه؛ وفي تحد نادر منه لانتشار تليف الكبد في جسده وافق على دور البطولة في فيلم «أبي فوق الشجرة» عام 1969م؛ وهو أحد أفلام هزيمة 1967م بامتياز إن لم يكن واحدًا من أسوأ أفلام السينما المصرية بحسب نقد.

ويروي الراحل المُخرج «حسين كمال» في حوار تلفزيوني أنه طلب من «حافظ» ارتداء مايوه من قطعة واحدة في مشاهد البحر فخلع حافظ «التي شيرت»..ليصرخ «كمال»:

ـ «إيه المجزرة دي..غطي يا بني غطي .. بنقول شباب وبلاج وحب مش مَشرحة!».

كان «كمال» يقصد أن آثار مشارط الأطباء على بطن حافظ واضحة مخيفة؛ وكان يتحدث باسلوب المُخرج الذي لا يعرف الرحمة أثناء العمل..

لكن «حافظ» بكى بشدة يومها أمام فريق العمل كله..ولم يستطع الرد حتى اضطر «كمال» إلى الاعتذار منه وتقبيل رأسه!

قرب الوصول

وأذنت رحلة «حافظ» بالأفول فصار يصعد المسرح ويصفر بفمه حين أداء مقدمة أغنية «توبة»؛ بل يخلع الجاكيت في تصرفات غير محسوبة في أغنية «أي دمعة حزن لا»؛ ويتمادى فيضع يده من وراء كتفه في أعلى ظهره لـ«يهرش»؛ فيما اعضاء الفرقة الموسيقية وفيهم أصدقاء له ينظرون في غير تعجب..وصخب الجمهور يزداد..و«حافظ» يظن أن ذلك يُرضيهم! (شاهد الفيديو).

وثارت ثائرة صديقه «مفيد فوزي» الإعلامي المُلاصق له لما صفر «حافظ» (شاهد الفيديو) في حفلة نادي «الترسانة» الأخيرة العامة له في مصر؛ وكان مما قاله «فوزي»:

ـ «لو أن حليم (كذا كان يُسميه) كأم كلثوم التي كانت تتوقف تمامًا عن الغناء حتى يصمت الجمهور لاحترمنا منه هذا..أما أن يصفر في توبة..ويرفض أن يصفر الجمهور له في قارئة الفنجان..فهو الغريب والمرفوض منه مهما علا صيته واشتهر فنه!».

واستشاط «حافظ» غضبًا ليظهر مع صديقه «سمير صبري» على شاشة التلفزيون المصري محاولًا استعادة أرصدته الجماهيرية متحدثًا عن سفره الوشيك للندن للعلاج من جديد؛ في تمسك برداء المرض الذي طالما جذب له الشفقة وحمى الشهرة؛ وأنه اُستفز من أحد حضور الحفلة لتفصيلة بذلة مرسوم عليها فنجان (سخرية من أغنية قارئة الفنجان) وأنه نسي بفعل البدلة الكلمات..وأن هناك مدسوسين عليه كانوا في الحفلة معهم صفارة حكام كرة القدم!

بدا «حافظ» بعينيه الغائرتين ووجهه النحيف وإشارات يديه يحاول إثبات أنه بكامل عقله ما يزال فيما ظهر «صبري» أمامه محاولًا بث الطمأنينة في أرجاء نفس حافظ! (شاهد الفيديو).

وكما بدأ «حافظ» الغناء في حفل في «عيد الثورة» في 1954م أنهاه بحفل زفاف «نانا محمد أنور السادات»؛ في 2 من يناير/كانون الثاني 1976م وفيه أكثر من التعليقات الساخرة من العروس (هاغني ألف أغنية في ربع الساعة..زي شكة الدبوس..كانت باعته ليه قائمة فيها يجي 10 آلاف غنوة..أغنية طلبتها العروس مني وكنت نسيتها وعملت بروفة عليها 

هأحاول أغنيها..الشلة الغجر دي هترد..سيادة الريس شكله تعبان أصله ما ارتحش من الصبح) (شاهد الفيديو).

قطار حياته كان يوشك على الوصول إلى محطته الأخيرة فيما هو يغني للحب والأحباب..ولعل في نفسه أمنية فلو استطاع لكان العريس.

وعما قريب رحل «حافظ» إلى لندن ليتوفاه الله في مستشفى «كنجز كوليدج» في 30 من مارس/أذار 1976م مُنهيًا رحلة بالغة الصعوبة من معادلة الشهرة والمال مع المرض والحرمان!

  كلمات مفتاحية

عبد الحليم حافظ قتل قارئة الفنجان