هل تؤثر مقولة «الإبداع وليد المعاناة» على الخروج من أسر الواقع العربي اليوم؟

السبت 6 مايو 2017 06:05 ص

 «من رحم المعاناة يولد الإبداع» مقولة لطالما طرقتْ أسماع المهتمين بالشأن الثقافي، ويدور حولها نقاش عميق، يُقسّم أصحاب الرأي إلى فرق؛ أول يؤكد المقولة، وثانٍ ينفيها، وثالث يقرّ بوجود وظيفة للمعاناة، ولكنه لا يراها سببًا رئيسًا ووحيدًا للإبداع.

 وفي أوج الأزمة الإنسانية الشاملة التي تعصف بمنطقتنا، كتداعيات للحرب القائمة التي أنتجت قدرًا كبيرًا من المعاناة، طُرح سؤال «المعاناة» وعلاقتها بالإبداع، على عدد من المثقفين، من منطلق موقعهم من تلك المعاناة، بحسب «رأي اليوم».

مقولة مضللة.. وحالة غير مُنتجة

كان الاستهلال مع الكاتب والصحفي الليبي «جمال الزائدي» الذي يرى بأن المقولة التي تربط الإبداع بالمعاناة؛ «مُضللة»، فيما الحالة التي يعيشها الوطن العربي «غير مُنتجة»..

يقول «الزائدي» إن «المعاناة على المستوى الشخصي، وعلى المستوى العام، مُستهلكة لقوى الإبداع والخلق والإنتاج بشقيه المادي والرمزي».. ويؤكد ‘«أن تاريخ البشرية على مر العصور يقدم الأدلة والبراهين على أن الانحطاط الثقافي نتيجة وسببا للانحطاط الاجتماعي والسياسي».

ويؤمن «الزائدي» بأنه «بعيدًا عن الأمنيات والأحلام لا يمكن لنا تصور أن الحالة المزرية التي يمر بها عالمنا العربي ستكون مُنتجة لحالة إبداعية خاصة، أو حتى أن تكون مناسبة لعمل ثقافي متجاوز للتردي الذي يعيشه الإنسان العربي والوجود العربي برمته»..

نعاني أنيميا حادة ثقافية

ويكشف الكاتب الليبي «الزائدي» عن أن «السقوط المُريع الذي تعيشه الأمة أثبت أننا مجتمعات تعاني من (أنيميا) حادة في الثقافة وفي المعرفة والإبداع، وأننا طوال هذه السنوات، بين ما سُمي بعصر النهضة العربية الحديثة وحتى يومنا هذا، لم نحقق شيئا على صعيد البناء الفكري والثقافي غير الشعارات الجوفاء التي تستمد مشروعيتها ومضامينها الغريبة من أيديولوجيات مستوردة في معظمها، شأن الأدوات والسلع التي تعودنا استيرادها من العالم المتقدم»..

وبالتالي فإن الأمل الوحيد من وجهة نظر «الزائدي» «أن تستشري هذه الفوضى وهذا الانهيار الذي نشهده على الصعيد الاجتماعي والسياسي، حتى تصل بنية العقل العربي في أساسه، وتحصل هناك الثورة الحقيقية التي تهدم العالم القديم لتبني على أنقاضه صرحًا معرفيًا وثقافيًا جديدًا يُعيد للحضارة العربية حضورها وألقها التاريخي»..

المعاناة تشغل المبدع عن الإبداع

وفي السياق ذاته يرى الروائي والمؤلف المسرحي المصري «السيد فهيم».. أولًا «أن المقولة -على شهرتها- غير دقيقة؛ فبالرغم أن الكثيرين من المُبدعين والنقاد يحاولون إثبات صحتها، إلا أن الواقع يقولُ غير ذلك. فالإبداع ومضة أو منحة ربانية توهبُ لمن ملك القدرة على الاستقبال والتأثر، ثم التفاعل الايجابي مع تلك المنحة وترجمتها إلى إبداع حقيقي، وهو ما نسميه إجمالًا (الموهبة)».

ويرى «فهيم» «أن الموهبة بالعكس، تتطلب جواً ومُناخًا مناسبًا لتنميتها وإثرائها، بل وتبنيها ودعمها كي تظهر للنور وتصل للمتلقي’’. فمن وجهة نظره «وقوع المبدع تحت نير المعاناة، ربما شُغل بمشاكله الخاصة وصراعه الفطري من أجل البقاء عن هذا الإبداع»، وقد لاحظ كمنشغل بالعمل الإبداعي أن «كثيرًا من المواهب اندثرت ووُأدتْ في مهدها لعدم توافر المناخ المناسب لترعرعها ونضجها».

ويستغرب «فهيم» «أن البعض يفسر المقولة بمعاناة المبدع الذاتية واللحظية أثناء فعل الإبداع نفسه!’’، لكنه يرى ذلك بديهيًا. وفقا لما خبره في الكتابة الإبداعية يفيد «أي عمل عظيم يلزمه بذل الجهد والتعب والانشغال به، بل والتفاني في خدمته والسهر عليه والتعايش النفسي والبدني معه كي يكتمل».

 وبالتالي يرى المؤلف المصري أنه من الصحيح أن «أي تجربة مقترنة بحالة مبدعها المزاجية والنفسية، أما المعاناة التي يتوقع البعض أن نتعلق بأذيالها ونسوقها كأمثلة لمبدعين أنجزوا مشروعهم الإبداعي في غياهب السجون وتحت نيران الحروب وتحت وطأة المرض والأوجاع، فسأسوق ما يوازيها من تجارب لمبدعين لم يعانوا مرضًا ولا اضطهادًا ولا عايشوا حربًا بل توفرت لهم كل سبل الشهرة والنجاح والدعم المؤسسي، ولم يتسم إبداعهم بالابتذال أو السطحية، بالعكس قدموا نماذج فريدة واعتبروا روادًا لأجيال تلتهم بعقود».

وكمثال على ما ذكر، يسوق لنا المؤلف المصري أسماء برزت في ظل واقع اجتماعي طبيعي كــ«نجيب محفوظ» و«توفيق الحكيم» و«ثروت أباظة» و«يوسف السباعي» و«يوسف إدريس» و«أحمد شوقي» و«حافظ إبراهيم» وغيرهم.

وعلى الجانب الآخر، يحاول «فهيم» إيضاح مسألة مهمة متعلقة بالموضوع، ويؤكد من وجهة نظره الشخصية، أن تجربة مثل تجربة «طه حسين» وما أصابه من فقدان البصر ومثله «أبوالعلاء المعري» وغيرهما ممن أصيبوا بمثل هذا المصاب البدني، لا شك أنها معاناة وتجربة إنسانية بالغة الأثر، إلا أنها ليست بالضرورة الدافع للإبداع والتفرد، وإن كانت تميزهم وتحسب لهم من منطلق امتلاك الإرادة والقدرة على التحدي والإصرار على التحقق رغم ظروفهم الخاصة، وهنا تكمن العبقرية ونعود إلى نظرية الومضة الربانية والشخصية التي تمتلك القدرة على استقبال الإشارة وحسن ترجمتها إلى طاقة إيجابية.

فترة حكم

ومن وجهة نظر مُغايرة تمامًا للرأي القائل بعدم وجود علاقة بين الإبداع والمعاناة، وبين كون المعانة مُكابدة ترافق فعل الكتابة، تؤكد الكاتبة السورية، «دارين سمو»، أن الأدب يولد من رحم المعاناة، «لأن المعاناة تُشكّل حالة من القلق الداخلي لدى الكاتب، فتوجّهه نحو تصويرها ليروي الحاضر، ويستشرف المستقبل».

مُضيفة أن المبدع «يُنفّس بالأدب عن نفسه، فينتقل من الواقع المؤلم إلى عالم الحريّة، متجاوزًا المعاناة التي يعيشها والتي ربما أقضت مضجعه». معتقدة أن «قدر الأديب الإحساس العالي بالمعاناة في كل مكان’’، وأن من أدواره «التجول بفكره وحواسه، لا ليلاحظ ويصوّر فقط، وإنما ليقترح ويوجه».

روابط تاريخية بين الكتابة والمعاناة

وعلى الناحية الأخرى ترى الشاعرة السورية «دلشان آنقلي» «أن الكتابة ارتبطت بالمعاناة  للأسف، وأن ثمة روابط تاريخية بينهما»، وأن هذا الرابط «يتصاعد مع تصاعد الهشاشة في العالم».

الشاعرة المُغتربة عن بلادها والمقيمة في كندا تبيّن أنه «منذ القدم إلى الآن والمنطقة مشتعلة بالحروب والصراعات النفسية، لذا بات تنصيب المعاناة هو الخلفية الزاحفة بقوة عبر لغة إبداعية تؤدي إلى رواية أو قصيدة أو شرارة تندلع فجأة! »..

لاحظت «آنقلي» أنه «منذ بداية الحرب السورية، كان الشعر هو الظاهرة الأجمل في المشهد الثقافي السوري، بل هو احتجاج مطلق’’. فبالنسبة للأدباء السوريين الذين ذهبوا إلى أوروبا، تقول «دلشان أنه في ظل اللجوء «ظهرت مُلتقيات شعرية جديدة، برزت للضوء مرة أخرى، تحت مُسمياتٍ مختلفة، فهناك مثلاً حركة (أدب لجوء) التي تحتضنها ألمانيا. لشاعرات وشعراء، لديهم أحلامهم وانكساراتهم، يحملون قبس الكتابة بينما يواصلون لجوؤهم القاسي».

وتضيف «آنقلي» «لمعتْ أسماء أدبية سورية كثيرة، وأسماء جديدة أخذتْ مكانها الأدبي كما يليق بالأدب الذي يُكرّس تفاصيل الوجع اليومي وحالة معقدة من الهشاشة التي لا تنتهي»..

فمن منطلق تجربتها الذاتية توضح الشاعرة السورية أنه «عندما كنتُ لاجئة، منذ سنوات، ولا زلت، بدأت بالتفكير في كيفية سرد تجارب الحرب، ضمن هذا الخضم من الصدمات والخيبات، كيف أكتب ولدينا ثروة غزيرة من العذاب واليأس، من أين أبدأ؟ ولا بداية بريئة  للقصيدة الشرارة، على أقل فرحٍ ممكن كتبتُ صرختي الشعرية الأولى (وداعاً للحياة كمهنة قديمة)، ولادة يغلبها الموت، قد تصير الصرخة أنشودة، نسمة عذبة تحمل أنفاسك المرتعشة لتعرف طعم الحلم الذي يستريح أخيراً.. وهكذا هو الشعر أخيرًا».

ترى أن للإبداع وجه آخر، «حيث هناك -أيضًا- من يكتب حباً بالكتابة، وأن غزارة إنتاجهم الأدبي هو الدليل على انتصار القلم أولاً، لاسيما أن هناك أدباء عالميون عاشوا تحت وطأة حياة بلا حروب، لكن الكتابة حملتهم إلى البعيد». يُجسد هذه الرؤية «جورج أورويل» الذي تساءل «لماذا أكتب؟» وأجاب في كتاب كامل بعنوان «أكتب لأن ثمة كذبة أريد فضحها».

  كلمات مفتاحية

الإبداع المعاناة الواقع العربي