استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

كانت حربا شخصية بالفعل!

الخميس 18 ديسمبر 2014 04:12 ص

كان ذلك بعد عامين من غزو العراق واحتلاله أن التقيت بصديق عربي ـ أمريكي، طبيب ومتابع حريص لشؤون المنطقة العربية، على هامش أحد المؤتمرات في عاصمة خليجية. قال صديقي، ونحن نتبادل الرأي حول مجريات الوضع العراقي: ما أشعر به أن العراق بات مسألة شخصية، مسألة شخصية لكل عربي.

تذكرت مقولة الصديق قبل أيام قليلة وأنا أقرأ الملخص الذي نشرته لجنة تحقيق الكونغرس الأمريكي حول ممارسات أجهزة الاستخبارات الأمريكية خلال سنوات «الحرب على الإرهاب» السوداء، وبعض التعليقات الغربية عليه، وكيف حولت سياسة واشنطن في العقد الأول من هذا القرن مسألة أمنية بحتة إلى حرب لإعادة تشكيل المشرق العربي ـ الإسلامي كله، وعملت بالتالي على تدمير حياة مئات الآلاف وتقويض استقرار دول المشرق لأمد بعيد، وعلى السخرية من القيم التي روجت لها الولايات المتحدة طوال عقود.

نسي بعض منا، ربما، أن عقد التسعينات من القرن الماضي كان عقد الجدل حول نهاية التاريخ، بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها وساد الدوائر الغربية، الفكرية والسياسية، على السواء، شعور هائل بالانتصار، وبأن الليبرالية (والرأسمالية، شقيقتها التوأم) باتت الخيار الوحيد لقيادة خطى البشرية.

في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، فوجئت الولايات المتحدة بهجمات إرهابية متزامنة على واشنطن ونيويورك، أودت بحياة المئات. وكما بالغت دوائر الفكر والسياسة الغربية، والأمريكية منها على وجه الخصوص، في دلالات نهاية الحرب الباردة، وقفت أمام هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 بقدر كبير من الذهول وفقدان العقلانية. 

خلال أسابيع قليلة، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبدون غطاء شرعي دولي، حرباً على أفغانستان، أصبحت الحرب الأطول زمناً على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة. وبعد ما يزيد عن عام بقليل، قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً، وبدون غطاء شرعي دولي، أيضاً، لاحتلال العراق وإسقاط دولته. 

بين بداية الحربين، وخلال السنوات التالية لهما، كانت الولايات المتحدة، وبدعم ملموس من عشرات الدول الغربية وغير الغربية، تقوم بحرب من نوع آخر، حرب لمطاردة الخصوم والإعداء من النشطين المسلمين في كافة أنحاء العالم.

لم يعد ثمة شك أن تنظيم القاعدة مسؤول عن هجمات سبتمبر/ أيلول 2001، وعدد من الهجمات، أو المحاولات الفاشلة لهجمات، قبل وبعد سبتمبر/ أيلول 2001، على أهداف أمريكية وغربية أخرى، وأن التنظيم تبنى بالفعل استراتيجية للأرهاب الدولي، العابر للحدود. ولكن القاعدة، في أفضل حالاته، لم يكن سوى تنظيم يائس، يختبئ قادته في زوايا معزولة من أفغانستان، المحاصرة دولياً، ثم المستهدفة بالحرب، وتتوزع مجموعاته، التي لم تعد آنذاك أكثر من عشرات، على دول متباعدة.

لم يكن تنظيم القاعدة اتحادا سوفييتيا، ولا كان خلفه حلف وارسو؛ لا امتلك قنابل نووية وصواريخ عابرة للقارات، ولا تمتع بقاعدة شعبية في أي من بلاد العالم الإسلامي. كان نجاح التنظيم في هجمات سبتمبر/ أيلول المرعبة استثناء، ربما يعود إلى غفلة الأجهزة الأمريكية أكثر منه إلى براعة التنظيم وقدراته.

ولكن الولايات المتحدة لم ترد على الهجمات والتهديد الإرهابي بصورة متكافئة، تضع الأحداث والقوى في سياقها الحقيقي. كانت بريطانيا قد تعرضت لحرب من الجيش الجمهوري الإيرلندي طوال عقود، أوشكت في إحدى الهجمات على إبادة رئيسة الحكومة البريطانية وكبار وزرائها وقادة حزبها. ولكن بريطانيا لم تقم بعملية غزو واحتلال لإيرلندا؛ وبالرغم من التجاوزات التي ارتكبتها أجهزة الأمن البريطانية خلال عقود من التأزم في إيرلندا الشمالية، ظلت المواجهة أقرب إلى عملية شرطية منها إلى الحرب الشاملة.

تعهدت الولايات المتحدة منذ نهاية 2001 حرباً مشرقية واسعة النطاق، في منطقة من العالم وقفت دائماً، وبفضل التدخل الغربي المبكر منذ بداية القرن العشرين، على حافة توازنات القوى والحد بين الاستقرار القلق والفوضى. وما إن بدأت المدافع في إطلاق قذائفها، حتى انهار توازن القوى الهش وفتحت أبواب جهنم الطائفية والعرقية والأمنية. بالرغم من كل مساوئها، التي يعترف بها اليوم حتى أنصارها، استطاعت طالبان خلال النصف الثاني من التسعينات إعادة توحيد البلاد وإقرار حالة من الأمن وإيقاف التدخلات الإقليمية في شؤون البلاد.

وما إن نجحت القوات الأمريكية في إطاحة نظام طالبان، حتى عادت أفغانستان ساحة لحرب طاحنة، قتل، ولم يزل، في غمارها عشرات الآلاف من الأفغان الأبرياء، وساحة لتدخلات باكستان وروسيا وإيران والهند، وميداناً آخر لتطاحنات الجماعات الإثنية والطائفية القديمة في وسط أسيا. اليوم، تنسحب القوات الأمريكية، وإن لم يكن بصورة كاملة، بعد ثلاثة عشر عاماً من الاحتلال والحرب، ولم تزل أفغانستان ساحة للحرب والصراعات الداخلية والتدخلات الأجنبية.

في العراق، لم تكن النتائج أفضل. كان العراق قبل الغزو والاحتلال محاصراً، يخضع لحكم دكتاتوري، مغامر، ويتمتع شماله الكردي بحماية غربية. ولكن الدولة العراقية كانت لم تزل قادرة على توفير الحد الأدنى من حاجات شعبها الاقتصادية والأمنية، بينما لعب العراق دور حجر الزاوية للتوازنات الإقليمية المشرقية. خلال شهور قليلة من الاحتلال، أطيح بالدولة العراقية، وقوض التوازن الإقليمي برمته.

سلمت مقاليد عراق ما بعد الاحتلال لقوى طائفية، لم تفهم مطلقاً تاريخ البلاد ولا طبيعة هويتها الوطنية الهشة، وأخذ السلم العراقي الأهلي بالتالي في الانهيار، وصولاً إلى الحرب الأهلية. لم يكن ثمة قاعدة في العراق قبل الاحتلال الأمريكي، ولكن العراق اليوم، وبعد مرور أحد عشر عاماً على الغزو والاحتلال يشهد أكبر صعود على الإطلاق لتنظيم الدولة الإسلامية، شقيقة القاعدة وصنوها. 

لم يصبح عراق ما بعد الغزو والاحتلال منطقة نفوذ إيراني، ولا ميداناً لأعمق وأخطر صراع طائفي في تاريخ المشرق كله، وحسب، بل وينحدر بصور فادحة من انقسام جماعته الوطنية إلى انقسام فضائة الجغرافي وفقدان سيادته.

في سياق الحرب على الإرهاب، قتل المئات من المشتبه بهم من عناصر طالبان، تحت إشراف مسلحي الاستخبارات الأمريكية، جوعاً وعطشاً، في حاويات نقل غير إنسانية، قتل مئات من العراقيين في غارات الجنود الأمريكيين على بيوت الأهالي ومواطن العشائر، أو أمام الحواجز الأمنية، قتل الآلاف من الأفغان والباكستانيين والعراقيين واليمنيين، أغلبهم من المدنيين، في غارات الطائرات المسيرة عن بعد، واعتقل الآلاف في مناطق الحرب أو في أنحاء العالم الأخرى، أخضعوا لجلسات تعذيب منهجية في سجون كابل وأبوغريب والبصرة وغوانتنامو، أو في سجون سرية في دول عربية أو إسلامية أو أوروبية.

ستمر ربما سنوات قبل أن يعرف العالم عدد من قتل منهم تحت التعذيب أو لظروف الاعتقال البشعة. وما لا ينبغي نسيانه بأي صورة من الصور أن هذا كله جرى، وبعض منه لم يزل يجري حتى الآن، بدون غطاء قانوني، لا من القانون الدولي، ولا القانون الأمريكي، ولا قوانين الدول المعنية الأخرى. 

بيد أن المبالغة وفقدان العقلانية لم تكن السمة الوحيدة للسياسة الأمريكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. خلف الحرب على أفغانستان والعراق، والحرب العالمية على الإرهاب، كان ثمة تصور أحمق، تسلل إلى إدارة بوش من دوائر أكاديمية عنصرية ومريضة وذات أهداف تفوق الحملة على الإرهاب وتنظيم القاعدة.

في ملحق لمقولة نهاية التاريخ، قالت هذه الدوائر إن العالم الإسلامي بات الكتلة الوحيدة في العالم التي لا تريد الاعتراف بانتصار الغرب وسيادة تصوره لإدارة العالم، وإن المسلمين، سيما العرب بينهم، يرفضون الإقرار بهزيمتهم النهائية في الحرب العالمية الأولى، وقد توفرت الآن للغرب فرصة تلقين العرب والمسلمين الدرس الأخير، وإخضاعهم بصورة لا رجعة فيها لمعايير عالم السيادة الغربية. 

بمعنى آخر، كانت الحرب على الإرهاب عقلانية وغير عقلانية، هوجاء ومفكر فيها، في الآن نفسه، حرب وضعت الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، بصورة فعلية ومباشرة وطويلة المدى، في مواجهة إمبريالية واسعة النطاق مع جزء كبير من المسلمين والعالم الإسلامي.

وكما ألمح ملخص تقرير الكونغرس، ودلت الوقائع، لم يكن عدد من تورط في هذه الحرب صغيراً، أو مقتصراً على الجنود، كما قد يتصور البعض. تورط في هذه الحرب رجال أمن واستخبارات، دبلوماسيون ومستشارون من خلفيات خبرة متنوعة، أكاديميون ومحامون، إعلاميون وكتاب وصحافيون، أطباء وعلماء نفس، وربما حتى أعضاء برلمانات، عرفوا حقيقة ما كان يجري وغضوا النظر عنه.

الحروب والأنظمة الإمبريالية، كما في كل الحقب الاستعمارية السابقة، لا تنتهك إنسانية المستعمَر وحسب، ولكنها تحط بإنسانية المستعمِر كذلك. كانت حرباً شخصية بالفعل.

 

٭ د. بشير موسى نافع كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

المصدر | القدس العربي

  كلمات مفتاحية

أمريكا غزو العراق الحروب الإمبريالية تقرير الكونجرس تنظيم القاعدة