العراق: أميركا و«داعش» بين المتخيل والواقعي

السبت 27 ديسمبر 2014 04:12 ص

لا يمكن اختصار التعديلات التي أجرتها الحياة على السياسة الطوائفية في العراق في نمطَين من النتائج: الأول يؤكد أن «التشيع السياسي» قد فشل في بناء «حكومته» الخاصة، فكيف بالدولة، والثاني يجزم بأن «التسنن السياسي» قد عثر على ضالته في «مقاومة» الاحتلال أولا وفي «داعش» ثانيا. 

ذلك لأن الحرب الأهلية التي عاشها الطرفان، في العام 2006 حصرا، في سعيهما المفترق أو المشترك أو المتقابل، من أجل اعادة بناء الحكومة المركزية تمهيدا لإعادة بناء الدولة، قد أدت عمليا الى تركز السلطة في حكومة «التشيع السياسي»، وعمليا تحطيم «التسنن السياسي» وإذلاله. وكانت الصيغة العسكرية، «الاندفاعة» بقيادة دافيد بترايوس، هي المعول القاتل للبيئة السياسية في البلاد. أما الأحاديث الكاذبة عن نجاح «الاندفاعة» فما هي الا تعويض ملفق، أو هي، كما يقول «لويس بونويل»: «إغواء ما لتصديق الحقائق المتصورة والتي يجيد الاحتلال صناعتها من أكاذيبه الفعلية».

ما هو مطروح من «الاندفاعة الجديدة» الآن لا يختلف جذريا عن السابق وانما العدة ووسائل الايضاح والمسرح العريض للاحداث تعطيها الانطباع المغاير والملفق. أما المهمة السياسية المباشرة، فهي التمهيد البطيء واليومي لاعادة الاحتلال، كما تدعي نخب العملية السياسية، العسكري العلني والحقيقي ضمن مشاريع المستشارين العسكريين، أو تدريب العشائر وبعض القوات الخاصة، أو بناء الوساطات السياسية ولجانها وبعض مؤسساتها، من خلال رموز خائنة ومعروفة في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والاعلامية.

حقيقة الفراغ الأمني وخرافة الحلول السياسية

من المعروف تاريخيا وعبر التجارب العديدة ان اميركا لها خبرة عميقة وتمرس عريض في مواجهة المشاكل المباشرة التي لها صلة عضوية بالعلاقة بين الأمن والسياسة في مجرى تعاملها الامبريالي مع الدول عالميا، أو في سياق حروبها العسكرية المتواصلة. وفي العراق طبقت أميركا كل خلاصات تجاربها السابقة وخاصة الفييتنامية.

ويعتقد ستاثيس كاليفاس، الأستاذ في جامعة شيكاغو، أن تطبيقات اميركا «الفييتنامية» في العراق لم تكن عشوائية بالمنظار السياسي والعسكري ولكنها كانت أيضا واقعية بالمفهوم الاجتماعي العام، من خلال العلاقة المدونة بين الاحتلال والشعب المحتل، أي ملخصها ابادة المجتمعات المحلية في كل من فييتنام والعراق.

بهذا المعنى، فإن اميركا تعرف جيدا بأن الفراغ الأمني، نتيجة الاحتلال العسكري أولا والمقاومة العسكرية للاحتلال لاحقا، لا يمكن أبدا أن يملأ سياسيا من دون الوصول للحل العسكري – السياسي الشامل. وهذا تحقق في فييتنام عن طريق هزيمتها العسكرية التكتيكية والابادة الاستراتيجية للبيئة والمجتمع الفييتنامي. لكن النتائج ما زالت غير حاسمة لحد الآن في العراق. وبين فترة وأخرى، تبرز وقائع جديدة لها كل المقومات من أجل أن تتحول إلى حقائق عنيدة تفتح الطريق أمام الحل النهائي.

ان الحروب التي تخوضها اميركا هي من أجل اعادة «النظام»، ومن دون أدنى تعلق بأوهام «الحرية». لكن اعادة النظام لا يمكن انجازها ابدا في ظل الانهيار الشامل. هكذا، فإن حديقة الاحتلال الاميركية ستكون متداخلة تجريدياً، بين مكونات ما قبل الدولة وبين أجهزة تبدو عصرية للتواصل الاعلامي والسياسي، فضلاً عن منظمات خاصة للنهب الاقتصادي للطاقة.

في وسط ذلك جموع غفيرة ترزح تحت القمع والارهاب والموت الاقتصادي الطاحن والمستدام. ان كل المحاولات العبثية التي زعقت بها أجهزة الاحتلال الاعلامية حول بناء الديموقراطية في العراق قد تلاشت تحت حوافر خيول الصراعات السياسية المتنافرة والحروب العسكرية المتشابكة. أما الشرطة اليومية المناط بها الحفاظ على الأمن الفردي والعائلي، فهي من خلال مداخلة الخبير المتميز اوتاو مارينين، جريئة ومبادرة وسفاكة في وجود النظام، ولكنها رعديدة ومشلولة ومنهزمة في حالة سقوطه.

الديموقراطية والحروب و«داعش»

لكن كاليفاس يعيد مقولاته في العراق على ضوء الاخفاق الفييتنامي لاميركا بأشكال مختلفة. هنا يمكن أن نضع كلا من «التقنية العالية» في الاستخدام العسكري، و«العنف المميز» في السلوك اليومي الحربي، أحيانا جنبا الى جنب، وأحيانا بصورة متعارضة كليا من أجل تحقيق غايات معينة لكل من طرفي القتال. وتبدو في الحالة الاعلامية السائدة وأحيانا حتى في غرف التحليل السياسي الخاصة، ان تحديد الفوارق والتناقض بين النمطين من الصعب تعريفه في مجرى الصراع الدموي.

فمن السذاجة القول ان العنف الاميركي، يرتبط فقط بالاندفاع الامبريالي للرأسمالية المعولمة في امتداداتها. ومن الجهالة أيضا أن نقول بأن عنف «داعش»، فقط، له جذوره العميقة في التاريخ الديني السابق او تأثراته في تجارب الاسلام السياسي المعاصر، مع اضافات جديدة لتطور الحالات الطوائفية داخل الاسلام وخارجه. بهذا يمكن أيضا الرجوع مرة أخرى إلى التشبث بأهمية المفاضلة بين امكانية تشكيل الحكومية وضرورة بناء الدولة. 

إن التردد الاميركي هو الوجه الثاني للعملة ذاتها، أي إصرار الاسلام السياسي، ومنه «داعش»، على بناء الدولة، بغض النظر عن ميزان القوى المحلية والاقليمية. ذلك أن التردد الاميركي يستند ببلاهة على فكرة قديمة – حديثة، وهو ان الحرب يمكن ان تكون اختزالية وتنصب استخداماتها على الصعيد الانتقائي الحاد، كما اشار المحلل المحافظ تشارلز كروتهامر في مطالعته حول «الديموقراطية الواقعية»، التي تشكل منصة مسوغة للحروب على دول الطغيان في العالم وفي المنطقة العربية.

يقول باختصار إنه يمكن التعاون موقتا مع الطغيان النفطي الريعي، الموافق لفظا على الحياة الغربية وديموقراطيتها، لاطاحة الطغيان القومي المعادي للديموقراطية الاميركية. ان الدولة هنا وضمن العقيدة الريغانية ليست هي الحل، بل هي المشكلة. وعليه، فإن الديموقراطية ضرورية في دول، والطاقة بدورها ضرورية جدا في دول أخرى.

الحرب والمذاهب والصراع السياسي

يعتقد، روبرت سكيلز، وهو عميد كلية الحرب الاميركية سابقا، أن المعركة الآن مع «داعش» غير متطلبة في خطوطها العريضة والمفصلة. الانتظار لا يعني السكوت، بل العمل الحثيث على تجميع الموقف السياسي باتجاه العمل العسكري المجدي. والأهم هو دراسة الجدوى السياسية والعسكرية بطريقة مترابطة، وتحديد نتائجها المؤثرة في الوضع الاميركي الخارجي، مثلا في الشرق الأوسط، وكذلك المضاعفات المتوقعة في الداخل الاميركي.

أما بخصوص «داعش»، فتراه يعتقد جازما أنها استقرت حاليا في سياقها العسكري المندفع، ووصلت الى ذروة انتصارها، ولا يمكنها العبور راهنا الى حالة نوعية جديدة ارقى مما حصل. والتوقف عند بغداد لا يرتبط بالدفاع الايراني عنها فقط، أو بعدم الرغبة الاميركية في انجاز ذلك ايضا، وانما بانكسار الموجة العسكرية في جبهات المواجهة، في لحظة بدأت فيها «داعش» تحضر للمرحلة القادمة.

لقد توقفت ساعة «داعش» ذاتياً، لدراسة ادارتها للأراضي التي احتلتها، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية. لكن الحدود العسكرية القائمة الآن هي مرتبكة ورجراجة، بل غير ثابتة في المفهوم السياسي. بمعنى آخر، فإن «التشيع السياسي» الرابض ضمن وزارة «التفويض» لم يحسم أمره الكلي للمعارك القادمة من الناحية السياسية قبل العسكرية، في الاتجاه الذي يريده أو يراد له. كما أن «التسنن السياسي» الذي يعيش حالة الانتصار، بفعل «داعش»، لم يعد قادرا على تطويره بالمضمون السياسي الذي يريده أو يراد له.

هنا يبدو مصير بغداد «السياسي» عائما أكثر من مصيرها «العسكري» الغامض. وعليه، فإن التدخلات الخارجية، لا سيما أطراف الكوندومينيوم: اميركا وتركيا وايران والخليج، لا تستطيع ان تسلك الا ضمن هذه «الذروة» العسكرية وتعيد حساباتها السياسية على ضوء الجوانب الناجحة أو الفاشلة فيها.

ويمكن ملاحظة ذلك بدقة من خلال قراءة جدول «كرونولوجيا» المعارك العسكرية المهمة الدائرة رحاها بين «داعش» وكل خصومه في كل الميادين. إن «داعش» الآن لا بد له من أن يستقر في المناطق التي سيطر عليها ويجب ان يديرها في المرحلة الجديدة الى ان تظهر حقائق جديدة على الأرض «السياسية» تكون واضحة من خلال التجربة السابقة. ساعتها سيكون مستعدا لخوض المعارك الفاصلة. بمعنى آخر ان الطرفين، التشيع السياسي والتسنن السياسي، هما اللذان يحددان طبيعة المعارك القادمة العسكرية والسياسية معاً.

أفضلية الصراع الداخلي أم البيني؟

إن الصراع السياسي داخل الطرفين يبدو في كثير من الأحيان هو الفاصل في العلاقة بينهما، وأكثر زخما في تحديد سمات الصراع بين الطرفين وطريقة سلوكه اللاحق. بهذا يكون الصراع المباشر بينهما هو امتداد مادي عضوي للصراع الداخلي في كليهما، خصوصاً في قلب المؤسسات الرسمية والشعبية التي تزعم انها الممثل الشرعي والتاريخي للمذهب أو الطائفة. فالصراع القديم لم يحسم على صعيدي «الخلافة» في السلطة أو «الامامة» في المعارضة.

ان آلية الدولة «شبه الطائفية» والحكومة «شبه العلمانية» كانت من مظاهر بناء السياسة في البلاد منذ العام 1921 وحتى الاحتلال في العام 2003. وفي إطار الاستقلال المشوه ومحاولة الحصول على أفضل شروط «السيادة» المقيدة، كانت التسوية التاريخية الكالحة شبه ناجحة، ولكنها مفعمة بالصراعات السياسية بأبعادها ومضامينها الوطنية وحتى القومية. وهي لم تصل، الا في النادر، الى حدودها المذهبية، وحافظت على هذه الروحية خارج اطار التدخلات السياسية والاحتلالات العسكرية.

في هذه الأجواء يتحدد مصير «التشيع السياسي» عبر وزارة «التفويض» العبادية ومصير «التسنن السياسي» عبر امارة «الاستيلاء» البغدادية، ودون ذلك خرط القتاد. بمعنى آخر، فإن وزارة «التفويض» العبادية لا يمكن أن يكتب لها النجاح، كما تبخرت قبلها وزارة المالكي الحديدية، في مسار خارج التدخلات العسكرية والسياسية الخارجية. كما أن «داعش»، امارة «الاستيلاء»، من المستحيل أن يحقق نجاحاته العسكرية والسياسية في ظل انحسار التدخل السياسي والعسكري. وآلية الصراع بين الطرفين لا يمكن، أيضا، اختزالها بالمعارك العسكرية «المدورة» الجارية فعلياً ما لم يتم حسم المسار السياسي العام والخاص لكليهما.

غياب النموذج التاريخي وصلابة الهدف المركزي

إن نجاح تجربة «الحكم» بما تتطلب من حالة «الحاكم» وكذلك نمط «الحكومة» في عراق 1921 – 2003، لم يكن خاضعا للتسوية التاريخية بين التسنن السياسي والتشيع السياسي. ان دائرة العلاقة بين الطرفين في «الدولة الوطنية»، واحيانا في الأهداف القومية، كانت غير محمية في ظل المناخ العام للعهد الملكي وفقدان الاستقلال والسيادة، لكنها ظلت متماسكة في مواجهة اخطار التدخلات السياسية والعسكرية الأجنبية.

لكنها، وبالعكس وبما يثير الفضول، قد أصابها الخلل وبدأت الشروخ تغزو جدرانها وتفككت عرى وحدتها الشعبية، خصوصاً في ظل الحروب والتدخلات والاحتلالات العسكرية الخارجية. وهذه النتائج لم تكن فقط ثمرة سامة من السياق المتدرج لتطور الأحداث، وانما كان للنخب الأمية والفاسدة في الطرفين دورٌ متميز في تأجيج الصراع ودفعه الى الأبواب الموصدة. بمعنى آخر، ثمة حاجة ملحة إلى مؤسسة جديدة قادرة أن تضم هذه «المكعبات» الافتراضية الزائفة، كما تدعي الاستشراقية المعولمة، في جهاز واحد موحد. 

 

المصدر | طارق الدليمي، السفير

  كلمات مفتاحية

العراق أمريكا العشائر الدولة الإسلامية الطائفية

العراق: الأمير الأمريكي وقتل المجتمع