في نهاية ثمانينات القرن العشرين، أنجز مركز دراسات الوحدة العربية، ومقره بيروت، مشروعاً ضخماً؛ لاستشراف مستقبل الوطن العربي، غطى أقاليمه المختلفة: وادي النيل، بلاد الشام، المغرب العربي، الخليج العربي، واشتغل عليه فريق كبير من الباحثين من مختلف الأرجاء العربية؛ حيث صدرت الدراسات المتصلة بكل إقليم على حدة، قبل أن تصدر الخلاصات الشاملة لتلك الدراسة في كتاب قيّم عن المركز نفسه، أشرف عليه الدكتور سعد الدين إبراهيم من مصر، وشارك في كتابته وإعداده باحثون كبار، هم: الدكتور غسان سلامة من لبنان، والدكتور عبد القادر الهرماسي من تونس، والمرحوم الدكتور خلدون النقيب من الكويت.
بعد المقدمات النظرية والمنهجية، استعرض الباحثون خلفيات المجتمع والدولة في الوطن العربي، والمجتمع والسياسة في الحقبة الاستعمارية، ثم عرجوا على الدولة القُطرية العربية، فدرسوا التباين في ولادة كياناتها، وبناء مؤسساتها، وتجارب المشاركة السياسية فيها منذ ما يُطلق عليه غسان سلامة «اللحظة الليبرالية الأولى» إلى الاستبداد، كما درسوا المجتمع في هذه الدولة من حيث هياكله الحضرية، وتكويناته الأثنية والطبقية، وانتهوا إلى تشخيص ما دعوه وفي ذلك الوقت المبكر أزمة الدولة القُطرية من زوايا الهوية والاندماج السياسي والاجتماعي والشرعية، وتأثير العوامل الخارجية وما إلى ذلك.
أكثر فصول الدراسة إثارة هي تلك المتصلة بالسيناريوهات المحتملة لمستقبل الدولة والمجتمع في العالم العربي؛ حيث وضع الباحثون ثلاثة مشاهد محتملة: الأول هو المزيد من التفتت والتجزئة، والثاني: التنسيق والتعاون، والثالث وهو السيناريو المتفائل: توحيد الوطن العربي.
بعد نحو عشرين عاماً فحسب على نشر نتائج مشروع الاستشراف هذا، رجح السيناريو الأسوأ والأكثر تشاؤماً: السيناريو الأول، أي المزيد من التفتت والتجزئة، الذي نعيش اليوم تجلياته في أكثر صورها فدحاً ودرامية ودموية، وإذا كنا -نحن المخضرمين- في وضع يسمح لنا بالمقارنة بين الراهن وبين ما رأته أعيننا قبل عقدين أو ثلاثة، فإننا نشفق على الجيل الأحدث الذي وعى الدنيا على هول هذا المشهد الكارثي، وإن كنا لا نفقد الأمل في قدرة هذا الجيل الذي سيملك المستقبل على تجاوز ما ورّثته له الأجيال السابقة من دمار وخراب، وصنع واقع بديل.
في العادة، فإن المخيلة تبزّ الواقع؛ لأنها تذهب إلى الأقاصي، لكن ما تخيّلته العقول الكبيرة التي وضعت سيناريو المشهد الراهن، ظلّ، على فداحته، دون ما بلغناه فعلياً، فقد كان في أذهانهم يومها نموذج الخراب الذي خلّفته الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات ليقيسوا عليه ما ينتظرنا إن لم يصلح الحال، ولكن ما شهدناه ونشهده في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال تجاوز بكثير أسوأ التوقعات.
* د. حسن مدن كاتب عربي من البحرين