استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

في صراعات «العلمنة» و«الأسلمة» على المجال العام

الاثنين 4 سبتمبر 2017 07:09 ص

فجرت دعوة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في خطابه بمناسبة العيد الوطني للمرأة في 13 أغسطس/آب الجاري، إلى مساواة المرأة بالرجل في أحكام المواريث، والسماح بزواج المسلمة من غير المسلم، جدلا واسعا تجاوز الداخل التونسي إلى فضاء العالم العربي. وتنوعت ردود الفعل من المؤيدين المتحمسين الذين رأوا في الدعوة تجديدا حضاريا، إلى الرافضين المنددين الذين رأوا فيها تمردا على ثوابت شرعية، في تجدد لجدلية الاستقطاب القديم - الجديد بين الإسلاميين والعلمانيين، إذ يقع لب الخلاف بين من يعتبر المسألة مجرد قضية اجتماعية، تخضع لقيم التطور العصري والمواثيق الحقوقية من دون اعتبار للنص الديني أو المرجعية الحضارية، ومن يعتبرها قضية شرعية، تخضع بالأساس للنصوص الدينية وقيم المرجعية الحضارية.

والحقيقة أن هذا المشهد مليء بدلالات فكرية، وسياسية، كثيفة تستحق التوقف والتحليل، فقد لقيت الدعوة ترحيبا كبيرا في أوساط القوى العلمانية في العالم العربي، والتي رأت فيها نقلة تجديدية حضارية، تحمل قدرا من العصرنة والاستنارة، وكسرا للجمود والتقليد، وهو ما يحمل قدرا كبيرا من التناقضات الذاتية التي تتصادم مع ثوابت منهجية في أصول العلمانية (!).

فقد بدا الشق العلماني من المشهد حاملا لقدر من الهزل يفوق بكثير ما فيه من الجد، حيث تقول أبسط أصول العلمانية بالفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، وهو ما يتنافى تماما مع خروج رأس السلطة التنفيذية متحدثا في شأن قضية محكومة بضوابط شرعية وفقهية، خارجة عن نطاق صلاحياته. إلى جانب أن هذه الدعوة جاءت بطريقة فوقية سلطوية، تجاهلت أبسط قواعد الديمقراطية التي تفرض الاحتكام إلى الشعب، لمعرفة رأيه في تعديلات تقع في صميم الشأن المجتمعي.

أما الطريف بحق فهو حالة الابتهاج العلماني لنزع حق أصيل من حقوق المجتمع ومنحه للسلطة، ولتغول السياسي على الديني بهذه الصورة. وقد بلغ هزل المشهد مبلغا يدعو إلى الضحك،عندما خرج علينا بعضهم من غلاة العلمانيين الحداثيين، وهم يرتدون مسوح "المقاصديين"، ليحدثونا عن ضرورة اتباع "مقاصد الشريعة" في العدل والمساواة لإنصاف المرأة (!)

وهو ما يحمل دلالات دامغة على جهل فاضح بالتراث الإسلامي، وبآليات التعامل معه، وعلى خلط كبير بين الشرعي والتاريخي، وبين الديني والسياسي، وبين الدولتي والمجتمعي، كما تعكس قدرا كبيرا من الاستعلاء المعرفي لدى الدوائر العلمانية، المصحوب بنظرة "استشراقية" إلى حال عموم الناس، دافعة إلى محاولة فرض الوصاية على المجتمع.

ويعد هذا الموقف امتدادا لمواقف غالبية العلمانيين في السنوات الأخيرة التي تمركزت حول مكايدة الإسلاميين، وافتعال معارك ورقية بغير جند، وإثارة عواصف هلامية بغير ريح، تستهدف تقويض الهوية الحضارية، وملاحقة مظاهرها، وتحجيم حضورها بأية صورة في المجال العام، مثل قضايا الحجاب، و"البوركيني"، والحضور الدستوري للشريعة الإسلامية.

انشغل العلمانيون، طوال الفترة الماضية، بمحاولة الإجابة على سؤال كيفية مكايدة الإسلاميين وتحجيم حضورهم، أكثر من محاولاتهم كسر حالة الهزال الجماهيري، والضمور الشعبي، والكساح المجتمعي، التي يعانون منها منذ عقود (يقتصر وجودهم على مجرد "شلل" نخبوية تعيش في أبراج عاجية، ومجتمعات مخملية منبتة الصلة وجدانيا ونفسيا عن واقع الغالبية)، عبر محاولة التمدد لبناء قواعد شعبية، واكتساب أرضية مجتمعية، بالاشتباك مع قضايا تمس اهتمامات عموم المواطنين، وهو ما أوقعهم في أخطاء فادحة سياسيا وأخلاقيا، وتناقضات ذاتية فجة، باصطفافهم مع توجهات سلطوية، وتأييدهم إجراءات استثنائية، مدفوعين بالنكاية والتشفي في خصومهم من الإسلاميين.

أخفق العلمانيون طوال العقود الماضية في "علمنة" المجتمع بصورة تحتية، بتحقيق اختراق ملموس أو اكتساب أرضية مجتمعية ذات بال خارج دوائرهم الاجتماعية النخبوية المحدودة، فلم يبق لديهم إلا القيام بتغيير فوقي "دولتي"، يجنح إلى تحقيق "العلمنة" بصورة قسرية، من أجل تفكيك النظام الاجتماعي، وإعادة صياغة البنية الحضارية المجتمعية التي فشل العلمانيون في تغييرها عبر أكثر من قرن، وتعد تلك المحاولات وقودا مثاليا لنشر التطرف.

وهنا يتجاوز مفهوم العلمانية نقطة فصل الدين عن السياسة إلى مرحلة فصل الدين عن المجتمع، وسلخه عن هويته، وتبني قطيعة معرفية كاملة معها، والسعي إلى الصدام مع قيم مرجعيته الحضارية، ونفيها كليا من المجال العام، وشطبها من العقل الجمعي للمجتمع، وتحويله إلى مجتمع منزوع المرجعية.

وهو أمر غير قابل للتحقق، حيث لا توجد دولة، ولا نظام، ولا فرد، ولا جماعة، إلا ولها مرجعية ما في تعاملاتها، ونظمها، وعلاقاتها، تتكون من الأصول الفكرية، والثقافية العامة التي تؤمن بها الجماعة، وتشكل قوة التماسك الأساسية في تشكلها، بوصفها جماعة بشرية، وفقا لطارق البشري.

عملية "العلمنة" التي يتبناها بعض العلمانيين هي الوجه الآخر لعملية "الأسلمة" التي ينتهجها بعض الإسلاميين، وكلتاهما محكوم عليها بالفشل، لأنهما تقومان على فرضية نقصان أهلية المجتمع وعدم بلوغه الرشد، واستخدام أنياب الدولة لفرض الوصاية عليه، فكما أن فكرة قيام تنظيم باختراق مؤسسات الدولة والاستيلاء عليها، من أجل إدخال المجتمع بطريقة تعسفية إلى حظيرة التنظيم، وإعادة اكتشافه هويته الحضارية، فكرة عقيمة وبائسة.

كذلك فإن فكرة استعمال مطرقة الدولة من أجل "علمنة" المجتمع بصورة إكراهية، وتغيير خواص تربته الحضارية، أشد عقما وبؤسا، فالمجتمع وحده الذي يختار مرجعيته الحضارية، وليس بإمكان أحد، أيا كان، أن يفرضها عليه، كما أن المجتمع هو الوصي على المنظومة القيمية والأخلاقية، وليست الدولة وصية عليها إلا بالقدر الذي يمنحه لها المجتمع.

أصيبت ثورة 25 يناير في مصر بانتكاسة كبيرة، بعد سقوطها في هاوية الاستقطاب الإسلامي – العلماني الذي أشعله فريقان "سلطويان" لا يعرفان الديمقراطية، ظن الأول أن الثورة قامت من أجل إعادة اكتشاف الهوية الحضارية، وظن الثاني أنها فرصة لسلخ المجتمع عن هويته، وغابت مطالب الثورة، وغاب الوعي بالتناقض الرئيسي مع شبكات المصالح الفاسدة، وبجوهر الصراع السياسي والاجتماعي، والمعركة الحقيقية مع البنية السلطوية المتجذرة، واحتكار السلطة والثروة، وتغول الدولة على المجتمع، وبكل أسف يبدو أن هذا المشهد الاستقطابي مرشحٌ للتكرار مستقبلا.

ليس هذا المشهد الجدلي حالة استثنائية منفصلة، وإنما هو حلقة في سلسلة طويلة متصلة، تمتد جذورها إلى نشأة الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، والتشوهات الخلقية التي صاحبت ولادتها، بعد فشلها في تقديم إجابات على أسئلة بنيوية كبيرة، متعلقة بالهوية الحضارية، وحضور الدين في المجال العام، والموقف من التغريب، وتذويب الذات الحضارية، والموقف من التراث، والصراع التاريخي بين الوافد والموروث، وإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي.

وعليه، من المتوقع أن نشهد، في المستقبل القريب، حلقات جدلية جديدة ذات طبيعة استقطابية نخبوية، حتى يأتي وقت تحصل فيه تلك الأسئلة العالقة على إجابات "الحد الأدنى" التي تقود إلى نواة تمثل توافق "الحد الأدنى" بين النخب من الإسلاميين والعلمانيين، يتفقون فيه على إطار فكري وسياسي، لإدارة الخلافات فيما بينهم، وعدم انفجارها إلى صراع صفري، يجنح خلاله كل طرف إلى الإجهاز على الآخر، فلن يشهد المجال العام العربي قدرا من الاستقرار، حتى يعرف العلمانيون أن احترام المرجعية الحضارية للمجتمع، وحضور الدين في المجال العام، لا يعني ردة حضارية، أو النيل من الحريات، وحتى يعرف الإسلاميون أن مناخ الحريات لا يعني الانحلال القيمي والأخلاقي، أو استباحة المقدسات.

* أحمد طه - كاتب وأكاديمي وقانوني مصري

المصدر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر العلمنة الأسلمة المجال العام طارق البشري الديمقراطية السلطوية المصالح الفاسدة الصراع السياسي المرجعية الاستقطاب الإسلامي العلماني