تهاوي أسعار النفط: مسببات وتداعيات

الثلاثاء 6 يناير 2015 07:01 ص

بعد أربع سنوات من الاستقرار السعري عند مستويات مرتفعة نسبياً، تهاوت أسعار النفط منذ حزيران (يونيو) بأكثر من 50 في المئة من أعلى قيمها، في شكل مفاجئ وفي فترة قياسية، لتثير كثيراً من التساؤلات والتكهنات حول مستقبل هذا القطاع وتداعيات انخفاض الأسعار على الدول المنتجة، ومن ضمنها السعودية.

ونبع ما حدث في الأشهر الماضية من انخفاض في أسعار النفط من العرض والطلب في آن، مشكلاً ضغطاً مضاعفاً على أسعار النفط، فمن جانب الطلب خفضت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها لنمو الطلب على النفط للمرة الرابعة في خمسة أشهر، لتباطؤ اقتصادات كل من روسيا والصين واليابان ومنطقة اليورو، فآثار العقوبات الاقتصادية وكلفة الحرب في أوكرانيا بدأت تنعكس على الاقتصاد الروسي الذي يُتوقع أن يدخل مرحلة الركود، أما الصين فخفضت معدلات نموها الاقتصادي إلى ما دون ثمانية في المئة، لتباطؤ النمو في الناتج الصناعي، بل وانكماشه وفق بيانات كانون الأول (ديسمبر)، كما دخلت اليابان مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي، بسبب السياسات الضريبية التي اتخذتها الحكومة مطلع العام، أما منطقة اليورو فلا تزال تعاني تبعات أزمة الديون السيادية، إذ لا يزال النمو الاقتصادي ضعيفاً جداً مع إمكان انزلاق المنطقة إلى دوامة الركود الاقتصادي.

الجانب الآخر من المعادلة الاقتصادية التي عصفت بأسعار النفط كان مصدره الولايات المتحدة، متمثلاً بطفرة إنتاجية من حقول النفط الصخري، الذي ساهم ارتفاع أسعار النفط في السنوات الماضية مع التطورات التقنية في جعل استخراجه مجدياً اقتصادياً، فمع استقرار أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل منذ 2010 تمكنت شركات أميركية من ابتكار وسائل تقنية تمكِّن من استخراج النفط العالق بين الطبقات الصخرية بكلفة تراوح بين 50 و80 دولاراً للبرميل، ومن ثم تحقيق ربح مجزٍ، شرط أن يستمر سعر برميل النفط فوق أسعار الكلفة. ونتجت من ذلك طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة، إذ ارتفع إنتاج البلاد بمقدار 3.2 برميل يومياً منذ 2010، وهو ما يعادل إنتاج إيران، وأدت هذه الطفرة إلى إغراق السوق وخلق فائض في العرض يقدره بعض المحللين بمليون برميل يومياً، وهو مرشح للازدياد، ويتوقع خبراء أن تتحول الولايات المتحدة من استيراد النفط إلى تصديره في العقد المقبل، إذا استمرت طفرة الإنتاج هذه.

ومع هذه الضغوط من العرض والطلب تهاوت الأسعار في فترة قياسية، وكالعادة اتجهت الأنظار إلى منظمة أوبك التي عقدت اجتماعها نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، للبحث في إمكان خفض الإنتاج وفق رغبات الدول التي تعيش ظروفاً اقتصادية خانقة، خصوصاً إيران وفنزويلا والعراق. أما السعودية وبقية دول مجلس التعاون فاتخذت موقف الإبقاء على مستويات الإنتاج الحالية والتعويل على آليات الطلب والعرض، لتحقيق استقرار الأسعار في المدى المتوسط. وفي نهاية المطاف اتفقت دول المنظمة على عدم خفض الإنتاج، مرسلةً موجة من الذعر في سوق التداولات، تكبد فيها سعر برميل النفط مزيداً من الخسائر.

وينجم الأثر الاقتصادي في الدول المنتجة عن اعتماد موازناتها على عائدات الصادرات النفطية، ولتحليل هذا الأثر يجب النظر في نسبة العائدات النفطية إلى غيرها في الموازنات العامة، وفي سعر برميل النفط الذي تحقق بموجبه الموازنة التوازنَ بين العائدات والنفقات، وهو ما يعرف بنقطة التعادل، وهو يتفاوت في شكل كبير بين الدول المنتجة، إذ يصل إلى 140 دولاراً لإيران و100 دولار لروسيا و70 دولاراً للكويت، وفق تقرير أخير لمجلة «إيكونوميست».

أما في السعودية فإن موازنة 2014 التي تشارف على الانتهاء فحددت العائدات النفطية بـ 735 بليون ريال (195 بليون دولار) والعائدات غير النفطية بـ 120 بليون ريال. وبسبب الترابط الكبير بين الاقتصاد الكلي للمملكة وقطاع النفط تتأثر العائدات غير النفطية بتقلبات سوق النفط، وإن في شكل أقل من العائدات النفطية. وبلغ إنتاج السعودية النفطي 9.5 مليون برميل العام الماضي، صُدر نحو 7.5 مليون برميل منها، واستهلِك مليونا برميل يومياً في حاجات النقل والصناعة وغيرها. ولا ينتظَر أن تتغير هذه المستويات كثيراً هذا العام).

ومن المعطيات الأخرى المؤثرة ارتباط خامات النفط السعودية بمزيج «برنت»، وكذلك كلفة إنتاج برميل النفط في السعودية، الذي يضعه بعض الخبراء عند أقل من خمسة دولارات للبرميل. ويُتوقع أن سعراً يساوي 80 إلى 85 دولاراً لبرميل «برنت» حقق موازنة متوازِنة للسعودية في 2014، علماً أن معدل خام «برنت» في 2014 يساوي 95 دولاراً، أي أن موازنة السعودية لعام 2014 تتجه نحو تحقيق فائض مالي إلا إذا تجاوزت النفقات ما رُصد في شكل كبير، أي في حال تجاوز حجم النفقات 25 في المئة مما رُصد وهو 855 بليون ريال وذلك أمر غير مستبعد، نظراً إلى نفقات 2013 التي تجاوزت ما رُصد في الموازنة السابقة، إذ بلغ حجم الإنفاق الفعلي حينها نحو تريليون ريال.

أما في 2015 فإذا استمرت الأسعار بمستوياتها الحالية مع استمرار النفقات الحكومية في الارتفاع فقد يصل معدل العجز في الموازنة إلى 30 في المئة أو 300 بليون ريال. لكن السعودية تتمتع باحتياطات نقدية ضخمة كفيلة بسد أي عجز مالي لسنوات، إذ بلغت احتياطات مؤسسة النقد العربي السعودي نحو ثلاثة تريليونات ريال، وُفرت من فوائض موازنات السنوات الماضية. وتعتبَر قدرة السعودية على الاستدانة لتسديد العجز عالية، وتتمتع بتصنيفات ائتمانية إيجابية، إذ إن الدَّين العام للسعودية يكاد لا يذكر، إذ يبلغ أقل من ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل منخفض جداً، إذا ما قورن بمعظم دول العالم الأخرى (يصل المعدل العالمي إلى 50 في المئة) أو حتى مقارنة بمستوياته في السعودية في نهاية التسعينات (قارب 100 في المئة من الناتج المحلي).

ولا شك في أن استمرار أسعار النفط في الهبوط أو بقاءها عند مستوياتها الحالية بضع سنوات سيكون له تأثير سلبي في رفاهية المواطن السعودي، بسبب اعتماد الاقتصاد الوطني والموازنة العامة على صادرات النفط. أما في المنظور القصير فمن المستبعد أن يحصل تأثير يُذكر، بفضل الوضع المالي المتماسك للسعودية، فالإنفاق الرأسمالي يعزز جودة الخدمات التي تقدمها الدولة عبر تطوير وبناء مزيد من الطرق والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والإسكان وغيرها من مشاريع التنمية، التي تساهم في تقديم حياة أفضل للمواطن، كما تساهم المشاريع في حفز القطاع الخاص وضخ السيولة في الاقتصاد الوطني. أما النفقات التشغيلية فاستمرارها يعني استمرارية الرواتب لموظفي الدولة وخلق مزيد من الوظائف في القطاع الحكومي، إذ يعمل نحو نصف السعوديين.

وبالنسبة إلى أسواق النفط، من غير المتوقع أن تتخلى أي من الدول المنتجة في المرحلة الحالية عن مستويات إنتاجها في شكل أحادي وطوعي، فدول «أوبك» لا تزال متمسكة بحصتها السوقية.

وفي المواقف الأخيرة لوزراء النفط، خصوصاً في السعودية والإمارات، ثمة مؤشرات إلى تغيير جذري في استراتيجية «أوبك» في التجاوب مع انخفاض أسعار النفط، فالسعودية والدول المؤيدة لموقفها في «أوبك» لم تعد مستعدة لتحمل عبء الحفاظ على استقرار الأسعار والتخلي عن حصصها الإنتاجية لمصلحة الدول المنتجة للنفط من خارج «أوبك»، وأهمها روسيا وكندا والبرازيل، التي لم يسبق أن تعاونت في شكل فعلي في الحفاظ على استقرار السوق، فروسيا رفضت التعاون مع «أوبك» وتقليص حصص الإنتاج خلال 2001 و2008 وجنت ثمار ارتفاع الأسعار نتيجة إجراءات خفض إنتاج دول «أوبك».

لكن أكثر التساؤلات تداولاً حول جانب العرض أخيراً هي عن مدى قدرة حقول النفط الصخري على الاستمرار في الإنتاج في ظل الضغوط السعرية الحالية؟ وللإجابة عن ذلك تكفي فقط معرفة كلفة الإنتاج لهذا النوع من النفط، ولكن لتفاوت هذه الكلفة من حقل لآخر (بين 40 و90 دولاراً للبرميل) فإن عدداً لا بأس به من إنتاج الحقول سيبقى ذا جدوى اقتصادية حتى في ظل المستوى الحالي للأسعار. ويجب الأخذ بالحسبان مبدأ الكلفة غير المتكررة أقبل الجزم بدخول بعض حقول النفط نطاق الخسارة الإنتاجية، ومعنى ذلك أن الجزء الأكبر من معدل كلفة الإنتاج لكل برميل نفطي تُصرف عادة في مرحلتي الحفر وإنشاء البنية التحتية للآبار النفطية، بينما كلفة مرحلة الإنتاج المسماة هنا بالكلفة الحدية أو الهامشية لا تكاد تذكر بالمقارنة.

نستنتج هنا أن استمرار انخفاض الأسعار وعلى رغم استمرار إنتاج النفط الصخري بمستوياته القياسية يهدد مستقبل نموه في السنوات المقبلة. وبدأ بالفعل ظهور علامات ضعف الثقة فيه من خلال انخفاض تصاريح الحفر في ولاية نورث داكوتا بمقدار 30 في المئة، وفق بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فيما أعلنت شركة «كونوكو فيلبس» خفض موازناتها الرأسمالية للعام المقبل بنسبة 20 في المئة. ويراهن تنفيذيو قطاع النفط الصخري على ارتفاع الأسعار إلى مستوياتها مطلع العام، أو تطورات تقنية نوعية تسمح باستخراج النفط الصخري بكلفة منافسة للنفط التقليدي.

لا شك في أن تهاوي أسعار النفط بهذا الحد وبهذه السرعة يكلف الدول المصدرة للنفط وعلى رأسها السعودية مليارات الدولارات، ولكن خفض الإنتاج قد يكلف «أوبك» في المديين المتوسط والطويل أكثر من ذلك، إذ سيفتح المجال أمام أهم المتسببين في انهيار الأسعار، وهم منتجو النفط الصخري، لزيادة إنتاجهم على حساب دول المنظمة. والأهم بالنسبة إلى السعودية أن تكون هذه الأزمة في سوق النفط تذكيراً بأهمية تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط من خلال دعم وتطوير قطاعات الصناعة والتقنية والخدمات، فبناء اقتصاد متنوع ومزدهر ومستدام لم يعد خياراً بل ضرورة ملحة وواجب تجاه الأجيال المقبلة. 

* عبد الكريم اليوسف مستشار اقتصادي

 

المصدر | عبدالكريم اليوسف | الحياة

  كلمات مفتاحية

أسعار النفط أسواق النفط الدول المصدرة أوبك خفض الإنتاج النفط الصخري الحصص السوقية

النفط يتعافى لكنه يظل قرب أدنى مستوى في 6 أعوام ونصف