استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

«دون كيشوت» في أرض الحجاز!

الاثنين 2 أكتوبر 2017 06:10 ص

هناك في فرنسا، كان ديكارت مشغولا بِصياغة التصوُّر الجديد للذات العقلانية التي تكتشف أسرار الكون وتسْبر أغواره، وفي إنكلترا كان جان لوك بمنهجه التجريبي الاستقرائي يُنازع الفيلسوف الفرنسي صاحب المنهج العقلي الاستنباطي في منهجية توصُّل العقل إلى الحقيقة، فكلاهما ذهب إلى تقديس العقل الذي ساد ذلك العصر التنويري في القرن السابع عشر.

في ذلك المناخ وُلد «دون كيشوت» في خيال الروائي الإسباني «ميخائيل دي سرفانتس»، شخصية هزيلةٌ على مشارف الخمسين، مسكونةٌ بأدب الفروسية البائدة، والشغَف بالبطل الأسطوري قامِع الظلم وناصر المقهور.

ودون أدنى امتلاكٍ لمُقوِّمات البطولة الجامحة، يُقرِّر بطل الرواية بَعْثَ الفروسية من مَرقَدها، فاستخرج سيفًا مُتهالكًا ورمحًا هزيلًا يتوافق مع جَواده الأعْجف، واصطفى في رحلة المجد خليلةً يُهدي لها انتصاراته على عادة الفرسان، ثم اختار لرفقة الطريق فلاحًا ساذجًا على وعد تنصيبه حاكمًا لإحدى الجزر التي سوف يُحرِّرها «دون كيشوت».

انطلق في غمْرة الهَوَس وتهاويِ الحدود بين الواقع والأوهام، ليقوم بمغامراته الساذجة، إلى أن قاده خياله العابث إلى الصراع مع طواحين الهواء، حين توهَّم أنها شياطين ذاتُ أذْرع تبثُّ الشر في عالم البشر، فغرس فيها رمحه فعَلَق بها، فطوَّحَتْه في الهواء، لينزل على الأرض وقد تكسَّرت عظامه، فظل في فراش المرض يلعن الفروسية والبطولة.

مقدمة طويلة أليست كذلك؟ هكذا رأيتها بعد كتابتها.

لم يكن بيدي ولا بيدِ عمرو، بل بسطْوةِ اندماجٍ بين الرواية والواقع غزا مداركي، فاستسلمت.

في أرض الحجاز دارت معركة حامية الوَطِيس، لا تختلف عن صراع «دون كيشوت» مع طواحين الهواء، تمَّت صياغة أحداثها، واختيار طرفي النزاع فيها، والنفخ فيها بالقَدْر الذي يسْتَلِب الأنظار، إلى أن تمّ حسم الصراع، فالمنتصر يتمرَّغ فرحًا بنشوة الظفر، والمهزوم يجرّ أذيال الخيبة وينشد في رثاء عالمه الحزين.

هل كانت أُمّتنا تنقصها الهموم حتى تصير قيادة المرأة السعودية للسيارات قضية كبرى تشغل الرأي العام السعودي والعربي والإسلامي، بينما الأعداء يستلقون على ظهورهم من فرط الضحك إزاء هذا الأداء الكوميدي؟

المسألة بِرُمَّتِها منذ سن قوانين المنع إلى وقت قرار الإباحة، كانت صراعا مع طواحين الهواء، لم ينتَهِ بِحسْم الأمر عبْر قرار سيادي، بل امتدَّ أُفُقه لندخل في دوَّامة من التفسيرات وردود الأفعال مُتَّشِحة بالنظرة السطحية.

فريق يرى أن السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة نازلة حلّت بالإسلام، وهزيمة للفضيلة، وفتح لأبواب الشرور، وكأن البقاع صارت المدينة الفاضلة التي داعبت أحلام أفلاطون، فلا ينقصها سوى النزاع حول مسألة لا تعدو أن تكون قرارا إداريا تمَّ دعمه بفتاوى رسمية في قضية اجتهادية لمْ يأْت بها نَصٌّ.

وفريق آخر يرى في القرار انتصارا للمرأة السعودية، وأنه أعاد إليها حقَّها المسلوب، ومكانتها المهضومة، فكان اغتباطٌ تَلفُّه تفسيرات غوغائية للحقوق من جهة المنع والمنح.

لكنني مع ذلك أجد نفسي أمام نزعتي الشخصية في تحديد المشكلة الرئيسية في ذلك القرار. هل كانت المشكلة في القرار الرسمي بذاته؟

لا أرى ذلك، فالأمر يمكن قَبُولُه بسهولة إذا كان قد أتى ضِمن منظومة إصلاحات مجتمعية، خاصة أن قيادة المرأة السعودية كما أسلفت، لم يأت دليل على منعه، وكل الفتاوى المانعة مبناها على التوسع في سد الذرائع، وهو الأمر الذي نحذر منه دائما.

إذن، هل كانت المشكلة في تغيير الفتوى؟

لا أراه كذلك، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان، وهناك علماء أجِلّاء غَيَّروا كثيرًا من آرائهم الفقهية، فالشافعي له مذهب قديم قبل نزوله مصر، وآخر جديد، والإمام أحمد كثيرًا ما تُنقل عنه في المسألة روايتان من المؤكد أنّ إحداهما سابقة للأخرى.

المشكلة في تعنُّت العلماء باستعمال أحادية القول في مسائل يسوغ فيه الخلاف، ومبالغتهم في الحظْر تحت مظلَّة سدِّ الذرائع، وهذا التوسع دائما يجلب نتائج عكسية.

المشكلة في ثورة علماء المملكة على كل من عارض قرار المنع الأول، فاتهموهم بتمييع الدين، ومنهم القرضاوي الذي أرسلَ إلى المَلك مطالبًا بالسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، إضافة إلى بعض علماء المملكة المنتسبين إلى تيار الصحوة، ألم يكن الأحْرى أن يتقبلوا الرأي الآخر ويدرجوه ضمن دائرة الاختلاف السائغ؟

والمشكلة الكبرى تكمن في السياق الذي اتُّخِذ فيه القرار، فأثار المخاوف حول الاتجاه الذي تهرع إليه المملكة التي يُعتبر مَسارُها شأنًا عامًا للأمة الإسلامية:

فجاء القرار متوافقًا مع القفزة السعودية البعيدة باتجاه (الأمركة) والإفراط في إظهار الانسجام مع توجُّهات البيت الأبيض.

بدايةً من القمة التي كلّفت السعودية أكثر من 400 مليار عاد بها ترامب إلى بلاده مُتهللا، وخلَّف وراءه انفجارًا مُدوّيًا في البيت الخليجي، وانتهاءً بتعيين فاطمة سالم باعشن مُتحدثة باسم السفارة السعودية في واشنطن، لتكون أول امرأة تشغل هذا المنصب، وهي حاصلة على الماجستير من جامعة شيكاغو، وشغلت عدّة مناصب أبرزها مديرة مؤسسة الجزيرة العربية بواشنطن، ومستشارة لمؤسسة الإمارات لتنمية الشباب.

جاء القرار كرسالة طمأنة للأمريكان والمجتمع الدولي على وضعية المرأة السعودية، ولإسدال الستار على موجات النقد الغربي إزاء مسألة قيادة السيارات.

جاء القرار مصحوبا بمظاهر لمْ تعْهدها السعودية، تُنْبئ بفتح الباب على مصراعيه أمام التيار الليبرالي، على غرار ما حدث في احتفالية اليوم الوطني، واعتبره البعض تحوّلا إيجابيا في المسار الاجتماعي للسعودية، في الوقت الذي يُضيَّق فيه الخِناق على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد تهميش دورها، في ما يبدو أنه توطئةً لإلغائها.

وجاء القرار في وقت تُطلق فيه حملات الاعتقال التي طالت رموز العلم والدعوة من غير المنتسبين إلى المؤسسة الرسمية، وهو الأمر الذي يؤكد حقيقة استلهام التجربة الأمنية للنظام المصري.

جاء القرار في خِضمِّ التناسق مع الرُؤى الإماراتية التي انطلق منها السفير الإماراتي يُبشّر بشرق أوسط جديد، يسود فيه النظام العلماني.

وجاء القرار في ظل تكهّنات بتطبيع المملكة مع الكيان الصهيوني، أجبرنا على قبولها: الصمت حِيال القضية الفلسطينية، وإظهار وجهِ العداء للمقاومة، ومحاصرة وملاحقة دُول وكياناتٍ وشخصيات مُزْعجة للكيان الإسرائيلي.

فإلى أين تتجه السعودية؟ نسأل الله لها السلامة.

عدا هذه المخاوف، فلا يعدو الأمر أن يكون إحدى معارك دون كيشوت.

* إحسان الفقيه كاتبة أردنية

المصدر | القدس العربي

  كلمات مفتاحية

«دون كيشوت» تقديس العقل عصر التنوير أوهام البطولة السعودية قيادة المرأة للسيارة حملة اعتقال الدعاة الإمارات شرق أوسط علماني