في مصر .. ذكريات برائحة الموت

الثلاثاء 10 أكتوبر 2017 07:10 ص

في ذلك الوقت، سارت مجموعة من المتظاهرين السلميين، وتقابلوا مع قوات الدولة الرسمية. وفي نهاية أعمال العنف، كان 28 شخصا قد قتلوا، وأصيب أكثر من 200 شخص. آنذاك، أصر الناشطون في مجال حقوق الإنسان على أنه لا ينبغي إجراء تحقيق في عمليات القتل فحسب، بل ينبغي أن يكون تحقيقا مستقلا، لا تؤثر فيه القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية أو تسيطر عليه، من أجل ضمان محاكمة المسؤولين عن الأحداث.

كان ذلك في 9 أكتوبر/تشرين الأول عام 2011. كانت المسيرة المسيحية القبطية إلى حد كبير (ولكن ليس حصرا) تهدف إلى الاعتصام أمام ماسبيرو، مقر التلفزيون الوطني الرسمي. وتحديدا في وقت مبكر من الثورة المصرية، كان كل من يسيطر على السرد الإعلامي الرسمي، يسيطر على السلطة. وقد جعل التلفزيون المصري الرسمي من ضحايا عمليات القتل هذه الطرف المذنب، وقبل بذلك السرد شرائح واسعة من الجمهور. وقبل عام ، رفضت مجموعة من الناشطين المؤيدين للثورة ترك ذكرى ماسبيرو تمر دون تذكرة. واليوم، سيحاول العديد منهم، من خلفيات سياسية مختلفة، الذهاب إلى ماسبيرو مرة أخرى. ويعد إحياء الذكرى بالنسبة لهم تحديا ضد السلطات، حتى يقدم المسؤولون عن هذه الوفيات إلى العدالة.

واليوم، كان يجب أن تكون البلاد في حداد وطني. حدادا على هؤلاء المتظاهرين العزل، الذين قتلوا قبل عامين من اليوم في الذكرى، وحدادا على الذين قتلوا قبل ثلاثة أيام بعد ذلك بعامين. وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 2013، في حين كانت الاحتفالات البلد عموما بانتصارات الجيش المصري في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، قتل أكثر من 50 من المتظاهرين المؤيدين للإخوان المسلمين في اشتباكات في القاهرة مع الشرطة والبلطجية. ولم تبلغ وزارة الداخلية عن أي وفيات في صفوف قوات الشرطة. وفي الواقع، لم ترد أي تقارير عن وجود سبب حقيقي يدفع قوات الدولة إلى إسقاط هذا العدد من القتلى في هذه الاحتجاجات. وبعد عام من الآن، أفترض أنه سيكون هناك نوع آخر من الوقفات الاحتجاجية.

وتعد مصر بالتأكيد أرضا للسخرية. ففي حين جرت عمليات القتل الأولى أمام ماسبيرو عام 2011، فإن جماعة الإخوان المسلمين لم تتجمع لمساعدة أولئك الذين عانوا حينها من عنف الدولة. وبعد مرور عام على ذلك، كانت جماعة الإخوان المسلمين تدعم مسيرة ضد الجيش هاجمتها قوات الدولة.

وفي حين أدى هذا الاحتجاج إلى مقتل عشرات المدنيين العزل، توجه ممثلو الدولة إلى نصب تذكاري في مدينة نصر لإحياء ذكرى شهداء الجيش الذين سقطوا في حرب عام 1973. وللمزيد من السخرية، في حين تحيي إحدى الفصائل إحدى مآسيها، يتم إحداث مأساة أخرى عند فصيل آخر. إن هذه المأساة المتمثلة في ارتكاب فصيل يحيي ذكرى مأساته مأساة جديدة ضد فصيل آخر لم يسبق لها مثيل، وتمثل  جزءا لا يتجزأ من سخرية الوضع في مصر.

والشيء الأكثر خطورة الذي وصلت مصر إليه، هو أنه لا يوجد فصيل يهتم أو يتعاطف مع أي مأساة ويحيي ذكراها، سوى المأساة التي تخصه فقط. ولم تعد مأساة الموت المجردة حدثا يستدعي التعاطف أو الذكرى. بل تصبح مجرد مشاعر من الحزن مصحوبة بخسائر في الأرواح. وعلى الناس اعتبار الموت قضية «إنسانية»، حيث يعتبر كل الدم مقدسا، لكن لا يحدث ذلك. وما لم يكن كل الدم مقدسا، في الواقع، فسوف تستمر دورة الموت - المأساة - إحياء الذكرى، ولكن فقط بشكل انتقائي. حيث يمارس كل فصيل الاعتراف بقتلاه فقط وتكريم تلك الخسائر التي تخصه، لكن لو لم يكن المقتول ذو صلة شخصية بك أو بقضيتك، فلن تتحرك.

وكان ثوار ميدان التحرير قد طالبوا بإجراء تحقيق كامل ومفتوح لمقاضاة من قتلوا المتظاهرين خلال الـ 18 يوما، واستمرت تلك الدعوة إلى المطالبة بتحقيقات علنية في عمليات القتل في ماسبيرو. واستمرت أيضا بعد عمليات القتل في شارع محمد محمود في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011. وخارج قصر الاتحادية الرئاسي خلال فترة ولاية «محمد مرسي» في ديسمبر/كانون الثاني عام 2012. وخارج الحرس الجمهوري في يوليو/تموز عام 2013 بعد الإطاحة به. وأكبر خسارة في الأرواح بين الجميع، الذي تمثل الفض القسري للاعتصام الموالي لـ«مرسي» ​​في ميدان رابعة والنهضة في أغسطس/آب عام 2013، والذي أدى إلى ما أسمته هيومن رايتس ووتش «أخطر حوادث القتل الجماعي غير القانوني في التاريخ المصري الحديث»، وكل هذا حتى الآن لم يخضع للتحقيق العام. ومن غير المرجح أن يحدث في أي وقت قريب، حيث يتكلم الرؤساء والسياسيون عن الأخطاء التي أدت إلى ذلك، ويصلي الجميع معا من أجل الموتى، ثم يتم فرض الانضباط مع ضمان ألا تحدث هذه المآسي مرة أخرى.

واليوم، يجب على جميع المصريين إحياء ذكرى قتلى ماسبيرو. لا ينبغي أن تكون ناشطا ثوريا في ماسبيرو لتفعل ذلك، بل إن ذلك واجب الدولة وجميع القوى السياسية. وفي الشهر المقبل، لابد أن يحيي كل منهم ذكرى قتلى محمد محمود. وفي ديسمبر/كانون الأول، يجب إعلان الحداد من الجميع على قتلى الاتحادية. وفي العام القادم، يجب أن يتذكروا قتلى الحرس الجمهوري ورابعة وعمليات القتل التي وقعت قبل أيام قليلة. وإن حدثت وفاة واحدة بسبب الدولة فيجب أن تكون دافعا لإجراء تحقيق واسع النطاق. وبدلا من ذلك، نرى العشرات والمئات يموتون، ولا تزال صيحات الدعوة إلى إصلاح عميق للقطاع الأمني ​​تصرخ دون فائدة، مع احتمال ضئيل أن يحدث ذلك قريبا.

وهناك طريقة أخرى للحل. وذلك حين يعتبر الجميع حياة الجميع ودماء الجميع أمرا مقدسا، أي عندما نخسر روحا واحدة، نشعر وكأننا فقدنا البشرية جمعاء. ويمكن ذلك بالعودة إلى روح الأيام الأولى للثورة المصرية، الاهتمام بالخسائر في الأرواح وتذكر قدسيتها، بغض النظر عن هوية من يقتل، أو من الذي قام بعمليات القتل. نسمي المقتول ثوريا، نسميه إسلاميا، نسميه مصريا، أو نسميه إنسانا، مجرد إنسان، أو نسميه كما نريد، طالما كانت حياته مقدسة. لأنه إذا لم يحدث هذا، فستكون هناك مآسي جديدة أكثر فتكا، ولن يكون هناك طائل من التحقيق فيها.

المصدر | بروكينغز

  كلمات مفتاحية

مصر مذبحة ماسبيرو فض رابعة