6 سنوات على «مذبحة ماسبيرو».. محطات تحالف الكنيسة والسلطة

الأربعاء 11 أكتوبر 2017 03:10 ص

في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، وقف بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الأسكندرية «شنودة الثالث» في الكنيسة المرقسية بالعباسية وسط هتافات رعيته الغاضبة التي قاطعت كلمته أكثر من مرة ونحيب أهالي ضحايا «مذبحة ماسبيرو» ينعي أولئك الشباب الذين قتلوا في تلك الاشتباكات.. ووسط الجمع الناقم على السلطة التي يديرها المجلس العسكري آنذاك، محملا العسكر المسؤولية الكاملة عما حدث؛ بدا لمراقبين أن العلاقة بين الكنيسة والسلطة قد انتهت إلى قطيعة لا وصال بعدها.

لكنه بعد 6 أعوام على «المذبحة»، وصلت العلاقة بين الكنيسة والسلطة إلى أفضل مستوياتها، بل إنه حتى يمكن الجزم إنه لم تصل إلى ذلك المستوى حتى أيام الرئيس الأسبق «محمد حسني مبارك»، ورغم أنه لأعوام لحقت 2011، ظل يوم 9 من أكتوبر/تشرين الأول في العام 2011، يوما تترقب فيه السلطات الأمنية تجمعات متظاهرين مسيحيين يحيون ذكرى قرابة 30 قبطيا قتلوا في أحداث دامية بالقرب من محيط مبنى التليفزيون المصري الرسمي، فقد مرت الذكرى السادسة لـ«مذبحة ماسبيرو» هذا العام في هدوء تام.

كما تحولت العلاقة بين الأقباط ونظام الرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي»، الذي كان عضوا بالمجلس العسكري وقتها، إلى ود وتحالف وثيق، رغم الاتهامات التي طالت المجلس العسكري، بالمسؤولية الكاملة عن المذبحة؛ ووصل التحالف بينهما إلى حد اعتماد «السيسي» بشكل لافت على الحشد الكنسي في كل سفرياته إلى نيويورك لحضور جمعية «الأمم المتحدة» كل عام.

تفاهم طويل مع «مبارك»

ما بين القطيعة والدعم، لعلاقة الكنيسة والعسكر مسارات صاعدة وهابطة، ربما كان أكثرها استقرارا أيام حكم الرئيس الأسبق «محمد حسني مبارك»؛ فطوال أيام حكم «مبارك» انحصرت أهداف الكنيسة القبطية من التعاطي في المجال السياسي في مصلحتين رئيسيتين، أولاهما هي الحفاظ على استقلالها في مواجهة مؤسسات الدولة، والثانية هي احتكار الحق بالتحدث باسم الأقباط.

نظام «مبارك» دعم مطالب الكنيسة بقوة ودافع عن زعامتها باعتبارها الممثل الوحيد لأقباط مصر، كما حمى النظام الاستقلال المالي للكنيسة، وفي الواقع فإن النظام أيضا استفاد كثيرا من ذلك؛ إذ أمنت الكنيسة دعم الأقباط لنظام «مبارك» وسياساته من خلال تصريحاتها العلنية في وسائل الإعلام، كما ضغطت الكنيسة على الأقباط المقيمين خارج مصر كي لايتظاهروا ضد «مبارك»، وخصوصا خلال زياراته للولايات المتحدة.

أواخر عهد «مبارك»، بدأت الكنيسة تفقد السيطرة على بعض الشباب القبطي، الذين رأو في صعود حركات سياسية جديدة معارضة لنظام «مبارك»، مثل «حركة 6 أبريل» و«شباب من أجل العدالة والحرية»، و«الحركة المصرية من أجل التغيير» التي تشتهر بشعارها «كفاية»، إطارا جديدا للدفاع عن حقوقهم خارج الكنيسة، وقد وصل بعض الشباب الأقباط إلى نتيجة مفادها أن المسيحيين لن يحصلوا على حقوق متساوية إلا في إطار نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ المواطنة لجميع المصريين.

في خضم ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، طلبت الكنيسة القبطية من أتباعها عدم المشاركة في الاحتجاجات، ومع ذلك، رفضت شريحة من الشباب القبطي إطاعة أوامر الكنيسة وانضمت إلى المحتجين الآخرين؛ وبعد تنحي «مبارك» في فبراير/شباط ، أصدرت الكنيسة بيانا يحيي الشباب المصري على قيادة الثورة، والجيش على حماية البلاد.

مخاوف الثورة

أول معضلة واجهتها الكنيسة بعد الثورة هو انفتاح المجال السياسي الذي أغرى شبابا وشخصيات مسيحية على تأسيس أحزاب أو الانخراط فيها، ما جعل إدارة الكنيسة تشعر أنها تفقد زعامتها على «شعبها القبطي».

عقب «مذبحة ماسبيرو» في 9 من أكتوبر/تشرين الأول 2011، قررت شريحة من الشباب الأقباط الذين شاركوا في الانتفاضة ضد نظام «مبارك»، تأسيس حركة شبابية للدفاع عن حقوق الأقباط، تدعى «اتحاد شباب ماسبيرو»، وخلافا للسياسيين الأقباط، رفضت الحركة وضع الكنيسة بصفتها الممثل السياسي الوحيد للطائفة القبطية، كما أدانت الحركة اجتماعات غير رسمية عقدها أساقفة مع مسؤولين من مؤسسات الدولة في عهد «مبارك» وخلال الفترة الانتقالية، حيث كانت تلك الاجتماعات -وفقا لأعضاء في الحركة- غالبا ما تهدف إلى تهدئة التوترات بين المسيحيين والمسلمين في البلاد، من دون معالجة الأسباب الحقيقية التي تقف وراءها.

ورغم الشك والرفض الكنسي تجاه الحركة، فقد صمتت الكنيسة الغاضبة من السلطة على ممارسات شبابها، ولم تبذل جهدا كبيرا في بدايات نشأة الحركة احتواء شبابها، وفيما بدا احتجاجا صامتا.. انسحبت الكنيسة جزئيا من دعم العسكر ومن النشاط السياسي عموما؛ اللهم إلا في بعض الانتخابات والاستفتاءات التي حشدت لها الكنيسة لدعم مرشحين أقباط أو الحفاظ على مصالحها، وبدا أن العلاقة بين الكنيسة والعسكر في أسوأ مراحلها.. وحملت كلمات الأقباط اتهاما صريحا ومبطنا للمجلس العسكري بالمسؤولية عن «مذبحة ماسبيرو»

عودة النشاط

احتجاجات الكنيسة الصامتة وقطيعتها مع السلطة لم تدم طويلا، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وبعد 5 أشهر على انتخاب «محمد مرسي» رئيسا لمصر، خلف البابا «تواضروس الثاني» البابا «شنودة الثالث» كزعيم للأقباط الأرثوذكس في مصر، ورغم تأكيدات «تواضروس» في خطابه انتهاجه مسلكا مختلفا عن خطاب سلفه، حيث أكد على ضرورة ألا تتدخل الكنيسة في السياسة، وأن تركز بدل ذلك على الأنشطة الدينية والتنموية؛ فإنه مع ذلك، تبين البابا الجديد لن يقنع أساقفته، الذين كان بعضهم قد انخرطوا فعلا في مفاوضات سياسية، إلى أن وصلت الكنيسة إلى ما يشبه الحزب السياسي.

وكشف «تواضروس» بعد ذلك بنحو عامين، أن استراتيجيته وقناعاته لم تكن على النحو الذي صرح به أوائل تنصيبه، إذ قال في حوار له مع صحيفة «ألموندو» الإسبانية أواخر عام 2014 إن «الشباب القبطي الذي يلومني على العمل السياسي لا يفهم ما يحدث»؛ كما أسهمت البيئة السياسية المستقطبة للغاية بين «الإخوان المسلمين» والمعارضة في عهد «مرسي»، الكنيسة إلى الاضطلاع بدور سياسي متزايد.

في الوقت نفسه، فشلت جماعة «الإخوان المسلمين» في التعاطي مع مخاوف الأقباط حول الحرية الدينية وتهميشهم في مؤسسات الدولة، ورغم تعيين «مرسي» لـ«سمير مرقص»، وهو شخصية مسيحية بارزة، مساعدا له للانتقال الديمقراطي، إلا أن «مرقص» استقال بعد بضعة أشهر عندما اكتشف أنه لم يتم إشراكه في عملية اتخاذ القرارات.

عادت الكنيسة إلى واجهة الأحداث السياسية بالحشد لمظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 المعارضة لحكم «مرسي»، ووجهت شخصيات سياسية (معظمهم إسلاميون) اتهامات للكنيسة بالتنسيق مع العسكر لتدبير الانقلاب العسكري في 3/يوليو تموز من ذات العام.

الدعم المطلق

يعد أكثر الأحداث دلالة على رجوع دعم الكنيسة للعسكر، هو أن بطريرك الكنيسة، البابا «تواضروس الثاني»، أيد علنا تدخل الجيش، في يوليو/تموز 2013، ضد «مرسي» ونظامه المدعوم من جماعة «الإخوان المسلمين»، ومع انتخاب «عبدالفتاح السيسي» رئيسا للبلاد في يونيو/حزيران 2014، حاولت الكنيسة إعادة ترسيخ نفسها باعتبارها الصوت الموحد للأقباط في مصر.

الواقع أن الكنيسة أدت دورا مهما في الإطاحة بـ«مرسي»، البابا «تواضروس» نفسه فاخر بذلك، كما ألقى خطابا عبر فيه عن تأييده لتدخل الجيش وللعملية السياسية الجديدة التي أعلن عنها «السيسي»، الذي كان وزيرا للدفاع آنذاك.

ويمكن القول إن العلاقة بين الكنيسة والسلطة لم تصل إلى مستوى أفضل مما هي عليه الآن، وذلك ما منحها مكانة متميزة ودفعها إلى محاولة إحياء (بل وتطوير) الاتفاق القديم الذي كانت عقدته مع نظام «مبارك»، وساعدت التغييرات التي قامت بها الدولة الكنيسة على استعادة مكانتها باعتبارها الممثل الوحيد للطائفة القبطية، وجرت وعود بالسماح ببناء الكنائس وفقا لقانون لا تزال بعض بنوده غامضة، بينما اعتمد «السيسي» على دعم المتظاهرين الأقباط له في كل زيارة لأمريكا.

بمرور الوقت، عززت السلطة قبضتها على مجريات الأمور في مصر، كما عززت الكنيسة سلطتها من جديد، بينما فقدت الحركات الشبابية، بما فيها «اتحاد شباب ماسبيرو»، قدرتها على التعبئة، وفقد كذلك الساسة الأقباط نفوذهم، إذ يبدو أن النظام الجديد لايرى دورا يذكر للأحزاب، فلم يعقد «السيسي» أي اجتماعات مع الأحزاب السياسية إلى الآن، لكنه زار الكنيسة المرقسية بالعباسية في كل عيد ميلاد، كما أنه زارها لتقديم واجب العزاء بعد تفجيرات الكنيستين في أبريل/نيسان 2017، ما بدا أن السلطة عادت للتعامل مع الكنيسة كـ«ممثل للشعب القبطي».

مخرج لمذبحة ماسبيرو

كما بدا أن مخرجا لاح في الأفق للحرج الذي تتسبب فيه ذكرى ماسبيرو كل عام، إذ جرت محاولات لإلصاق التهمة بجماعة «الإخوان»، والادعاء بتورط الجماعة في تنفيذ المذبحة، وعقب خلافته «شنودة»، قال البابا «تواضروس الثاني» بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، إنه «لا يوجد أي جدل حول هذه الأحداث، فهي خدعة كبيرة من قبل جماعة الإخوان؛ حيث قاموا باستدراج الشباب المسيحي لمواجهة الشرطة العسكرية وقتها»، على حد قوله.

وأضاف: «من الناحية القضائية لا بد وأن تستكمل التحقيقات، ويتم محاكمة المتسببين بها، لكن في نفس الوقت يجب أن نكون أكثر حكمة؛ من أجل مصلحة البلد».

لكن «عاطف نظمي»، عضو هيئة الدفاع في القضية، اتهم المجلس العسكري بتجاهل تقديم الفاعل الحقيقي للمحاكمة، قائلا: «بعد إغلاق ملف القضية قدمنا 22 بلاغا للنائب العام، وقدمنا 45 مقطع فيديو شاهدا على الأحداث، التي تؤكد دهس المدرعات للمتظاهرين، وظلت البلاغات حبيسة الأدراج».

وأضاف في تصريحات نقلتها صحيفة «الوطن» اليومية الخاصة، في ذكرى سابقة للمذبحة، أن «الحديث عن تورط الإخوان في (مذبحة ماسبيرو) وسيلة لتبرئة القتلة من جريمة قتل 23 شخصا من الأبرياء».

ووقتها، طالب «نظمي» الرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي»، بالإسراع في اتخاذ قرار بإعادة فتح باب التحقيق في «مذبحة ماسبيرو» لمعرفة القاتل الحقيقي، والتحقيق مع قيادات المجلس العسكري الحاكم لمصر وقت وقوع المذبحة، وهو الأمر الذي لم يحدث إلى الآن.

مستقبل المسار السياسي

بينما ينظر أقباط وكهنة بعين الرضا عما آل إليه مسار العلاقة بين الكنيسة والعسكر، باعتباه قد أثمر اتفاقات حيوية وإعطاء أفضلية للمسيحيين في قضايا كثيرة، فإن آخرين ينظرون بعين الريبة لهذا الدور الكنسي الذي رفع حالة الاستقطاب المجتمعي منذ 2013.

وبرأي «جورج فهمي» الباحث زائر بمركز «كارنيجي» للشرق الأوسط، فإن هذا الدور ينطوي على بعض المخاطر أيضا؛ فبدلا من محاولة الكنيسة توحيد المسيحيين في مصر تحت قيادتها، ينبغي عليها الانسحاب من المجال السياسي، والسماح للأقباط بالدفاع عن مصالحهم بأنفسهم من خلال الانضمام إلى الأحزاب والحركات السياسية، وينبغي على الكنيسة أن تركز على كونها إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تدافع عن المثل العالمية، مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وعلى دعم المشاريع التنموية لكل من المسلمين والمسيحيين.

لكنه مع ذلك، جلبت استراتيجية الكنيسة السابقة معها العديد من المشاكل، وفي ظل البيئة الحالية من الاستقطاب السياسي والمجتمعي، قد تكون للعودة إلى هذا النهج عواقب ضارة على الطائفة القبطية.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مذبحة ماسبيرو اتحاد شباب ماسبيرو أحداث ماسبيرو الأقباط والعسكر الشعب القبطي