في الذكرى الخمسين لمقتله.. سر اللحظات الأخيرة بحياة «جيفارا»

الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 07:10 ص

بمناسبة حلول الذكرى الخمسين لمصرع «تشي جيفارا» (14 من يونيو/حزيران 1928 ــ 9 من أكتوبر/تشرين الأول 1967)؛ وفي 9 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري 2017 جرت احتفالات في كلّ من الأرجنتين، مكان ولادته، وفي كوبا التي احتضنته ثورتها، وفي بوليفيا حيث لقي مصرعه.

وفي هذه المناسبة نشرت جريدة «صحفيّون في اللغة الإسبانية» (Periodistas en Español) مؤخراً تحقيقًا مثيراً للصّحفية والمُمثلة الأرجنتينية «أدريانا بيانكو» مع أحد المشاركين إلى جانب الجنود البوليفيين في إلقاء القبض على «جيفارا» في أدغال بوليفيا.

هذا الطبيب الذي غدا، في عُرف الكثيرين، رمزاً للكفاح، والتمردّ، والانتفاض في وجه الظلم في مختلف أنحاء المعمورة، وكان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع العالم الثالث، ولهذه الغاية أسّس جماعات، وخلق حركات عصيان ومواجهة، وزرع بؤرَ حرب العصابات أو ما يعرف بـ (La Guerrilla) التي سنّها الزعيم «عبد الكريم الخطّابي» في حرب الرّيف التحرّريّة الماجدة ضدّ الإسبان، التي انتشرت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وآسيا وفي مناطق أخرى من العالم، بحسب ترجمة «القدس العربي».

وبتعاون مع الجيش البوليفي، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) تمّ نصب كمين لـ«جيفارا» في بوليفيا منذ نصف قرن، بحسب أحد رجال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السّابقين المواطن الكوبي «فيليكس رودريغيس».

وحكت «أدريانا بيانكو»، في سرد مثير اللحظات الأخيرة من حياة «جيفارا»، على لسان واحد من أشدّ المعارضين لـ«فيديل كاسترو»، الذي كانت الحكومة الأمريكية قد أوفدته في مهام سرية خلال الغزو الأمريكي لخليج الخنازير في كوبا عام 1961، كما أُرْسِل إلى بوليفيا ليساهم في إلقاء القبض على «جيفارا».

كان «فيليكس رودريغيس» آخر من استجوبوا «جيفارا»، وكان بجانبه لحظة مصرعه، وهو أوّل من تحدّث عن هذا الموضوع اليوم، وأفصح عمّا دار بينه وبين «جيفارا».

وفي هذا السياق، أيضا، حلّ الرئيس البوليفي «أوغو موراليس» لإحياء هذه الذكرى في المدرسة الصغيرة نفسها المتهالكة الواقعة في مدينة إيغيرا، وهو المكان الذي أَطلقَ فيه على «جيفارا» النار الضابط البوليفي «ماورو تيران» عام 1967، كما حضر الرئيس الكوبي «راؤول كاسترو» إلى فييّا كلارا في كوبا، حيث دُفن «جيفارا» بعد العثور على رفاته عام 1997، وحضرت هذه المراسيم وفود أخرى من هذه البلدان وسواها، من بينهم أبناء «جيفارا» الأربعة «أليدا»، «سيليا»، «كاميلو» و«إيرنيستو».

لا تطلقوا النّار إنني «جيفارا»

يحكي «رودريغيس» أنه عام 1967 جاءه موظف سامٍ في وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية من ميامي، ليختار اثنين من الكوبيين (كان أحدهما) للذهاب في مهمة سريّة إلى بوليفيا لإلقاء القبض على «جيفارا»، فوقع الاختيار عليه وعلى زميل له، فشدّ الرّحال هو وزميله إلى بوليفيا التي كان بها بعض المواطنين الكوبيين يعملون كمساعدين لوزير الداخلية البوليفي وجهاز المخابرات البوليفية.

وعلى إثر وصولهما انطلقا في العمل على الفور إلى جانب القوات المسلّحة البوليفية، وطفقا يجمعان المعلومات من الأسرى الذين كانوا مُوالين لـ«جيفارا»، وبعد أن أنقذ «رودريغيس» حياة أحد الأسرى منحه بعض المعلومات الأساسية عن كيفية تحرّك «جيفارا» في الأراضي البوليفية.

وعندما سألته الصحفية «أدريانا بيانكو» عن نوعية المعلومات التي سلمها له الأسير؟ أخبرها أنه أبلغهم أنّ «جيفارا» كان يتحرّك في ثلاث مجموعات، (الطليعة، والوسط، والمجموعة الخلفية) وكانت الطليعة تتألف من 8 إلى 10 رجال، وكانوا يسيرون على مسافة كيلومتر واحد من المجموعة الوسطية التي كان يوجد بينهم «جيفارا»، وكانت المجموعة الخلفية تسير في المسافة الآنفة الذكر نفسها، بغية حمايته في حالة وجود كمين منصوب له، وبذلك يكون في استطاعته التحرّك لإنقاذ حياته.

عندئذ ذهب «رودريغيس» ليلتقي بالعقيد البوليفي «سينتيرو أنايا»، الذي عمل على إمداده أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول بالجنود النظاميين البوليفيين لمنع مرور «جيفارا» والمحاربين المرافقين له في تلك المنطقة.

وأشار «رودريغيس» إلى أنهم في بداية الأمر لم يكونوا يعرفون بعد بالضبط مكان تواجده في 7 من أكتوبر/تشرين الأول، أي بيوم واحد من وقوعه في الكمين، إذ عند صبيحة 8 من أكتوبر/تشرين الأول بدأت المعركة حوالي الحادية عشرة صباحاً، فجرح على إثرها «جيفارا» في قدمه اليمنى، وعلموا أن مواطناً بوليفيا يُدعى باسمه الحربي «ويلي» واسمه الحقيقي «سيمون كوباس سارابيا» كان يساعده على الفرار من الكمين الذي نصب له، وعندما دنونا منه صاح «جيفارا» بصوتٍ عالٍ: «لا تطلقوا النار إنني تشي جيفارا أساوي حيّاً أكثر ممّا أساويه ميّتاً».

الأسد في الأسر

في تلك اللحظة تمّ إلقاء القبض عليه رفقة «ويلي»، أما باقي المحاربين الذين كانوا معهما فقد سقطوا في تلك المواجهة، ونقل «جيفارا» إلى مكان يُسمّى «إيغيرا»، ووصلتنا كلمة السرّ وهي (الوالد مُتعب) التي كان مفادها أنّ «جيفارا» قائد المحاربين وقع في الأسر، وهو جريح وحيّ.

ويستكمل «رودريغيس»: «عمل البوليفيون في البداية على الحصول على جميع الوثائق التي كانت في حوزة تشي جيفارا، أما أنا فقد طلبت من العقيد البوليفي سينتيرو أن أرافقه في اليوم التالي عند ذهابه لرؤية تشي، والتحقيق معه، وعندما استشار رؤساءه، وافقوا على مرافقتي له لعدة اعتبارات منها، معرفته للمساعدة الثمينة التي قدمتها لهم، وماذا كان يعني ذلك بالنسبة لي، على اعتبار الضّرر الجسيم الذي سببه هذا الشخص (جيفارا) لبلدي، فوافقوا جميعهم على الفور».

ويشير «رودريغيس»: «في الساعة السابعة صباحاً انطلقت بنا الطائرة الصغيرة التي لا تسع سوى لربّان الطائرة ولشخصين إضافيين فقط، وحطّت بنا في الساعة السابعة والنصف في (لإيغيرا) حيث يوجد تشي أسيراً»، ويقول: إنهم عندما دخلوا إلى المدرسة الصغيرة المتهالكة التي كان قد نقل إليها «تشي» أسيراً، وجدوه موثقاً من قدميْه ويديْه، وهو ملقىً ومُسجى على الأرض بجانب مدخل الغرفة تحت نافذة صغيرة، ووضعوا أمامه جثتين لمحاربين كوبيين كانا في رفقته.

قال العقيد «سينتيرو» لـ«جيفارا» الذي كان ينظر إليه بإمعان: «أنت أجنبي، وقد هجمتَ على بلادي، أجبني».

لكن «جيفارا» لم ينبس ببنت شفة، ولم يجب العقيد، عندما خرجنا من الغرفة طلب «رودريغيس» من الكولونيل أن يسلّمه الوثائق التي كانت مع «جيفارا» ليصوّرها للحكومة الأمريكية، فأمر أحد أعوانه بمنحه الوثائق التي كانت ضمنها محفظة كبيرة سميكة، تفتح من أعلى إلى أسفل.

 ويقول «رودريغيس» أنه كان في داخلها دفتر مذكرات، كان قد اشتراه «جيفارا» من ألمانيا، كان مكتوباً باللغة الإسبانية، كما كانت في داخل المحفظة صور لعائلته، وبعض الكتيّبات الصغيرة لتشفير المراسلات التي كانت تُستعمل ثم يتمّ حرقها، إذ من الصعوبة تمزيقها في ما بعد، كان لديه الكثير منها بعضها كان أحمر اللون، والبعض الآخر كان أسود، كانت مجموعة منها للاستقبال وأخرى للإرسال، وكان في المحفظة بعض الأدوية لمعالجة الرّبو.

 ويشير «رودريغيس» إلى أنه بعد أن قام بتصوير تلك الوثائق دخل إلى الغرفة التي كان فيها «جيفارا» وقال له: «لقد جئت لأتحدّث معك»، عندئذ نظر «جيفارا» إليه شزراً، وقال له: «أنا لا يستجوبني أحد»، فقال له: «أنا لم آتِ لأستجوبك، بل جئت لأتحدّث معك، فأنا مُعجب بك حتى إن كانت أفكارك تختلف عن أفكاري التي أظنها خاطئة، مع ذلك فأنا من المعجبين بك»، فنظر «جيفارا» إليه، وعندما وجده جاداً في كلامه، قال له: «هل يمكنك أن تجعلني أجلس قليلاً، هل يمكنك أن تفكّ وثاقي؟» فنادى «رودريغيس» على عسكري وأمره أن يفكّ وثاقه، وجعله يجلس على كرسي مستطيل كان في الغرفة، وصار الرّجلان يتبادلان أطراف الحديث عن تحركات «جيفارا» في بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، ولكن «جيفارا» كان يتحدّث بتحفظ شديد عن مثل هذه الأمور كانت ذات حساسية مفرطة بالنسبة له وللمهام التي أنيطت به.

«جيفارا» قُتل

كان العميل «رودريغيس» قد تلقى تعليمات محدّدة في حال وقوع «جيفارا» في الأسر، لذلك بذل قصارى جهده لإنقاذ حياته ولإحضاره للولايات المتحدة الأمريكية لاستجوابه.

حاول «رودريغيس» بالفعل إنقاذ حياة «جيفارا»، حسب تصريحاته، وطلب ذلك من العقيد الذي كان برفقته، لكنّ الرئيس البوليفي كان له رأي آخر وهو تصفية «جيفارا» وقتله.

ويشير «رودريغيس» إلى أنّ الرّئيس البوليفي تحاشى محاكمته لتفادي بعض المشاكل التي تعرّض لها بخصوص مواطنيْن فرنسي وأرجنتيني كانا قد وقعا في الأسر هما الآخران من قبل لمشاركتهما في حرب العصابات ضدّه في بوليفيا، وهما غير معروفين، فخاف لو فعل ذلك مع «جيفارا»، وهو الذي يحظى بشهرة عالمية، عندئذ جاءت تعليمات الرئيس البوليفي «رينيه باريينتوس» بقتل «جيفارا» على أساس أنه جُرح وقُتل في المعركة.

 وصرّح «رودريغيس» بأنه في تلك اللحظة تأكّد له أنه فشل في إنقاذ حياة «جيفارا»، وكانت الرسالة المشفّرة التي أرسلها الرئيس البوليفي تتضمّن ثلاث إشارات: الأولى 500 وتعني «جيفارا»، و600 تعني ميّت، و700 تعني حيّ، وكانت الرسالة التي وصلت، واضحة ( 500 – 600 ) أيّ «جيفارا» ميّت، وكان أمراً نهائياً لا رجعة فيه.

عندئذ اتصل «رودريغيس» على الفور بالعقيد «سينتيرو» وأخبره بأنّ التعليمات قد وصلت من حكومته لقتل «جيفارا»؛ في حين كانت تعليمات الولايات المتحدة الأمريكية هي إبقاؤه على قيد الحياة لاستجوابه، وقال له: «لدينا طائرات مروحية لنذهب به إلى بنما لاستجوابه».

فأجابه العقيد «سينتيرو»: «لقد عملنا جنباً إلى جنب، ونشكر لك مساعدتك كثيراً.. ولكنّها تعليمات السيّد الرئيس، القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، إنني أعرف جيداً الضّرر الذي ألحقه تشي ببلادك، وأريد أن تعطيني كلمة الرّجال، في الساعة الثانية ظهراً أريدك أن تسلّمني جثّة تشي جيفارا».

وأجابه «رودريغيس» قائلاً: «لقد حاولتُ إقناعكم، ولكن إذا لم تكن هناك تعليمات جديدة، فأنأ أعدك بتسليمك جثة تشي»، ويشير «رودريغيس» إلى أنه قبل ذلك كانت قد التقطت له صور مع «جيفارا» وبعض الجنود البوليفيين، وكان «رودريغيس» قبل ذلك يداعب «جيفارا»، ويمازحه وهو يقول له كما يُقال للأطفال الصغار عندما كانت تلتقط لهم صور تذكارية: «تشي، نظر إلى العصفور الصغير».

في البداية كان «جيفارا» يبتسم قليلاً، ولكن عندما التقطت الصّور لنا أصبح وجهه واجماً مُمتعضاً، ويحكي «رودريغيس» أنه في الوقت الذي كان يتمّ التقاط الصّور حضرت سيدة وبيدها راديو مذياع ترانزيستور محمول، وكانت الأخبار تنطلق منه وتقول إنّ «جيفارا» قد توفّي متأثّراً بجراحه خلال المعركة!

غليون وحيد وثورة ستنتصر

ويشير «رودريغيس» إلى أنه عندما سمع ذلك قال في نفسه يبدو أنّه ليس لدينا ما نفعله الآن، عندئذ دخلنا إلى المدرسة وقلت لـ«جيفارا»: «كوماندانتي أنا جدّ متأسّف لقد فعلت كلّ ما في وسعي لإنقاذك، ولكن التعليمات جاءت من أعلى».

ويضيف «رودريغيس» قائلاً: «تغيّر وجه جيفارا وامتقع واعتلاه لون أبيض مثل الورق، عندما سمع ذلك وتيقّن أنّ ساعته قد أزفت، إذ فهم كلّ شيء»، فقال له «جيفارا» بكل جرأة: «هكذا أحسن فأنا ما كان عليّ أن أقع حيّاً أسيراً بين أيديكم»، وقال لـ«رودريغيس»: «أريد أن أسلّم هذا الغليون لأحد الجنود البوليفيين الذي عاملني بكرامة»، فسلّمه إيّاه، وطلب منه أن يبلغ رسالة إلى «فيدل كاسترو»، وأن يقول له: «قريباً سيرى ثورة منتصرة في أمريكا»، كما طلب منه أن يُبلغ زوجته بأن تتزوّج من جديد وأن تكون سعيدة، كما قال للذي أطلق عليه النار كلمته الشهيرة: «كن هادئاً، إنّك ستقتل رجلاً».

وتلك كانت آخر كلمات نطق بها «جيفارا»، وسلّم على «رودريغيس» وعانقه، وكان يظنّ أنه هو الذي سيطلق النارَ عليه، وعندما خرج «رودريغيس» من الغرفة كان هناك كثير من الجنود، وبعد ذلك دخل إلى غرفة التلغراف حوالي الواحدة والرّبع مساءً، وبعد دقائق سُمع صوت انفجار مكتوم، ثمّ حضر القبطان «سيلسو توريليُو» الذي سيصبح فيما بعد رئيساً لبوليفيا ودخلنا الغرفة، كان «سيلسو» يحمل في يده عصا، أتذكر أنه نظر بإمعان إلى «جيفارا» ووضع بها علامة الصّليب على وجهه، وقال: «هُب! لقد قتلتَ لي الكثيرَ من الجنود».

مباركة الراهب المجهول

وبعد ذلك التقطوا لـ«جيفارا» الصّورة الشهيرة التي يظهر فيها ميّتاً مُلتحيأ يشبه السيّد المسيح، وعيناه مفتوحتان.

ويحكي «رودريغيس» أنهم عندما حملوا «جيفارا» إلى جانب الطائرة المروحية التي ستقلّ جثمانه إلى وجهة غير معروفة، جاءه جندي وقال له: «إنّ راهباً يريد أن يلقي نظرة أخيرة على جيفارا».

كان محرّك المروحية قد بدأ يعمل، فحضر الرّاهب بالفعل وهو راكب على ظهر بغلة، ونزل على الجانب الأيمن من المروحية، ثمّ منح البركة لجثمان «جيفارا» وهو يتمتم، وانصرف بدون أن ينبس ببنت شفة، وظلّ «رودريغيس» يفكر ويقول مع نفسه: «عجباً.. هذا الرّجل الذي كان ملحداً شاءت الأقدار أن يُبَارَك من طرف الكنيسة الكاثوليكية عند مصرعه»، ولقد ُوثّقتْ هذه اللحظة ببعض الصّور التي التقطها «رودريغيس» بنفسه للرّاهب وهو يبارك «جيفارا».

  كلمات مفتاحية

وبا اكوبا الأرجنتين أمريكا بوليفيا جيفارا ذكرى موراليس الخطابي الاستخبارات الأمريكية كاسترو قتل وقائع