«المنقذ من الضلال» للغزالي.. كيف استعاد المفكّر الشاكّ إيمانه ويقينه!

الأحد 5 نوفمبر 2017 09:11 ص

لن يكون من المغالاة في أي حال من الأحوال أن نعتبر كتاب «المنقذ من الضلال» للإمام «أبي حامد الغزالي» كتاباً فريداً من نوعه في التراث العربي - الإسلامي، حتى إن كان في وسع كثر أن يجادلوا قائلين إذ يدركون ما نعنيه بتلك الفرادة من أنه لا شبيه له حقاً في صنفه ككتاب في السيرة الذاتية، بأن ثمة في التراثين القديم والحديث سيراً ذاتية أخرى ذاكرين «ابن سينا» و«ابن خلدون» وأقرب إلينا، «طه حسين» و«زكي نجيب محمود» و«أحمد أمين»، وغيرهم.

فالحال أن «المنقذ من الضلال» يختلف في عمقه وغايته عن كل تلك الأعمال، وعلى الأقل في كونه كتاباً سرد فيه مؤلفه جزءاً من سيرته لكي يعود بعد ذلك ويحكي كيف تمكن من تجاوز ما هو ضالّ فيها.

وبهذا قد يمكن اعتبار كتاب «الغزالي» أقرب الى اعترافات القديس «أغوسطينوس» أكثر من قربه من أي نصّ آخر، لكن هذا ليس كل شيء في ما يتعلق بهذا النص الفريد والقوي، على صغر حجمه، وهو ما سوف نفصّله بعض الشيء بعد قليل، ذلك أنه سيكون من المفيد قبل ذلك أن نتحدث عن ظروف وضع الغزالي ذلك الكتاب.

كان «أبوحامد الغزالي» في السادسة والثلاثين من عمره في عام 488هـ - 1095م، حين شهدت حياته ذلك التحوّل الحاسم الذي دفعه إلى وهاد الشك ووضعه على تماس مباشر مع واحدة من أعمق الأزمات الروحية والفكرية التي تصيب عالماً من طرازه، وقف فجأة وقد وجد أن العقل والمنطق اللذين طالما احتكم اليهما، لم يعودا قادرين على إعطائه الأجوبة الحاسمة عن أسئلة كانت تقلقه.

وكان قد أنجز قبل ذلك اثنين من أهم كتبه: «مقاصد الفلاسفة» و «تهافت الفلاسفة»، وخيل إليه أنه عبرهما قد وجه إلى الفلسفة العقلية ضربة قاضية، لكن الذي حدث هو أن «الغزالي» ذاته وقف أمام كتابيه عاجزاً عن العثور على يقين، فماذا فعل؟

بكل بساطة، استجاب إلى أزمته الداخلية، التي اعتبرها مشلّة لمجرى حياته التعليمية، هو الذي كان قد عُيّن، بعد رحيل أستاذه الجويني الملقب بإمام الحرمين مدرساً في «المدرسة النظامية» بعد اتصاله بنظام الملك، مؤسس تلك المدرسة، على عادة مثقفي تلك الأزمان في التقرب من ذوي الشأن والمنافحة عن مواقعهم حتى يبلغوا شأنهم.

وكان شأن «الغزالي» أن يصبح مدرساً رسمياً وكان له ما أراد، ولكن «الغزالي» في لحظة جوّانية طافحة بالأسئلة من حياته، راح يضع ذلك كله موضع الشك كما صار يشك في أي شيء آخر.

وهكذا اتخذ قراره واعتزل التدريس، وترك الحياة العائلية متخلياً عن كل ما في الحياة المريحة من متع، ثم ترك بغداد ذاتها وسط دهشة المقربين إليه من الذين ما كان يخيّل اليهم أبداً أن العالم الكبير الناطق باسم المذهب الأشعري، وقطب المدرسة النظامية، يمكن أن يخونه اليقين إلى تلك الدرجة.

وبعد مبارحة بغداد، بدأت في حياة «الغزالي» مرحلة التجوال والتصوف والزهد التي قادته إلى مناطق عديدة في العالم الإسلامي يتجول فيها وحيداً مرتدياً ثياب أهل التصوف، فقادته جولته تلك إلى دمشق والقدس وربما الإسكندرية والقاهرة، قبل أن يصل إلى مكة والمدينة.

لقد احتاج «الغزالي» يومذاك إلى الاستكانة إلى نفسه ما لا يقلّ عن عشر سنين، قبل أن تنتهي تلك الأزمة بعودته إلى يقينه، وكانت النتيجة ذلك الكتاب الفذ الذي وضعه في أخريات حياته جاعلاً له عنوانه الذي يكاد وحده يختصر كل تجربته: «المنقذ من الضلال».

وهو كتاب فريد في التراث العربي كما قلنا، لأنه بالتحديد يعرض الأزمة الداخلية لمؤلفه ويرسم الرحلة من اليقين إلى الشك ثم من الشك إلى اليقين مرة أخرى، إنه كتاب في السيرة الذاتية للوهلة الأولى.

ونعرف طبعاً أن مكتبة التراث العربي لا تخلو من كتب في السيرة الذاتية، ولكن في وقت تبدو لنا فيه النصوص الأخرى إما تبريرية أو تصف حياة كاتبيها من الخارج (راجع سيرة «ابن سينا» أو سيرة «ابن خلدون»)، نجد «المنقذ من الضلال» سيرة داخلية عميقة تبدو كأنها كتبت في العصور الحديثة.

لكن أيضاً تبدو مفعمة بالمواقف المفاجئة، ولعل أروع ما في «المنقذ من الضلال» هو تلك الروح الموضوعية المسيطرة التي يمكن التعبير عنها بما يقوله «الغزالي» فيها عبر تلك الفقرة التي لن يكون من السهل أبداً نسيانها كما سيكون من الظلم الفصل بينها وبين ما يتوخاه العلماء الحقيقيون من الدين ذاته في تسامحه وانفتاحه المفترضين:

«... ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس من ورائه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته...».

الحقيقة أن الغزالي ذاته، إذا ما تساءلنا عن الكيفية التي بها استطاع استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق، يجيبنا، راوياً شكوكه وخروجه من تلك الشكوك مستفيضاً في الأسباب التي حدت به إلى مبارحة التعليم في بغداد لاستعادته بعد سنين في نيسابور.

وهو يقول لنا إنه قد شكّ على التوالي في ثلاث: في عقائد الإيمان، ومعطيات الحسّ وأولويات العقل.

وإذ يفيدنا «الغزالي» بأن مرحلة الشك لديه طالت منذ سن الصبا حتى مرحلة التعليم البغدادية، يوضح لنا الأسباب الثلاثة التي ولّدت الشك لديه: تعدّد الأديان والمذاهب؛ كيفية اعتناق الناس ما يعتنقون؛ وتعطّش فطري لديه لدرك حقائق الأمور.

وهكذا إذ توجه شك «الغزالي» قبل أي شيء الى إيمانه، عمد إذ رام الاهتداء الى الحق الى ركنين: العودة إلى الفطرة الأصيلة وتحديد العلم اليقيني.. وهو في السياق ذاته شكّ في أوليات العقل فراح يغرق في تمحيصها وسط صراع جواني لديه بين المعقولات والمحسوسات كانت نفسه ميدانه، إذ شمل شكه هنا كل مصادر المعرفة البشرية.

 وكان من الطبيعي أن تنسد في وجهه الآفاق، بيد أنه - وكما يخبرنا بنفسه - لم يستسلم إلى اليأس بل راح وحده يبحث عن العلاج، وهنا راحت الأمور تتضح له إذ قذف «الله النور في صدره رائفاً به معيده الى الثقة بأولويات العقل».

وهنا إذ استعاد «الغزالي» «بتلك النفحة النورانية السماوية» إيمانه بالعقل، كان لا بد له بالتالي، واستناداً إلى العقل ذاته أن يستعيد إيمانه ولكن بعد أن تمكن من حصر الحق في أربع: الكلام والفلسفة والباطنية والصوفية، على اعتبار أنها معاً «تتنازع عقول المسلمين» ما يعني أن حصرها هنا أشبه بحصر مسلم مؤمن لا حصر شاكّ.

وانطلاقاً من هنا، نجد صاحبنا قد «أنقذ من ضلاله» و«استعاد إيمانه» كما يقول لنا هو ذاته وتكون التنيجة هذا العمل الفكري الذي من المؤكد أنه يتجاوز الحكاية التي يرويها.

ولد «أبوحامد الغزالي» (450 - 505/ 1058 - 1111) في طوس في بلاد فارس وتوفي والده وهو بعد صغير فانتقل إلى نيسابور في خراسان حيث تعرف إلى إمام الحرمين الأشعري، الإمام «الجويني» وتتلمذ عليه.

وهو بدأ التأليف باكراً وبغزارة، حيث إنه حين رحل وهو في الثانية والخمسين من العمر، خلف أكثر من أربعمئة مؤلف، من بينها «إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» و«الاقتصاد في الاعتقاد»، وغيرها من أعمال احتاج الدكتور عبدالرحمن بدوي إلى وضع كتاب في خمسمئة صفحة لإحصائها.

مع هذا يبقى «المنقذ من الضلال» أبرز كتبه، لأنه الكتاب الفريد الذي فيه كان الغزالي رائداً في «تعرية الذات» وإيراد الشك وسيلة للوصول إلى اليقين، سابقاً في هذا «ديكارت» الفرنسي، و«طه حـسين» العربي بقرون وقرون.

* إبراهيم العريس كاتب صحفي في شؤون الثقافة.

المصدر | إبراهيم العريس | الحياة

  كلمات مفتاحية

أبوحامد الغزالي تجربة الشك عقائد الإيمان معطيات الحسّ أولويات العقل تعدد الأديان والمذاهب استعادة الإيمان الفطرة العلم اليقيني