مصلحة روسيا: تنويع الاقتصاد

الجمعة 16 يناير 2015 04:01 ص

خرج رئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف عن صمته مجدداً، وطالب السلطات الروسية باتخاذ إجراءات فعلية خلال العامين المقبلين لتنويع حقيقي للاقتصاد الروسي، والانتقال من الاقتصاد المُعتمد على بيع الخامات، الى اقتصاد يعتمد أساسا على القطاعات الصناعية المتطورة.

ودعا بريماكوف مطلع هذا الأسبوع إلى منح أقصى قدر من الحرية الاقتصادية للكيانات والمناطق الروسية، وإبقاء الباب مفتوحا للتعاون مع الولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي» في مواجهة التهديدات الحقيقية للبشرية، وتطوير العلاقات مع جميع دول الغرب والشرق.

وحذر السياسي الروسي المخضرم من مغبة المماطلة في مثل هذا الأمر، قائلا «إن عدم تنفيذ مثل تلك الخطوات سيعني أن نفقد بلادنا كدولة عظمى».

وانتقد بريماكوف الرئيس بوتين انتقاداً مبطناً بالإشارة إلى أن روسيا غير مهددة حاليا بــ«ثورة ملونة»، معتبرا أن الخطر الحقيقي الذي يهددها هو «المركزية الشديدة للسلطة».

وكان بريماكوف قد أطلق مثل هذه الآراء قبل شهور قليلة، فهاجمته بعض «الرؤوس الساخنة» في روسيا، واعتبرته ضمن ما يسمى بــ «الطابور الخامس»، الذي يعمل على «تقويض النظام».

لكن ما الذي يدفع بريماكوف، المعروف بنزعته «الدولتية» ودفاعه عن دور كبير للدولة في السياسة والاقتصاد، إلى مثل هذه التصريحات؟

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن بريماكوف، عندما تولى رئاسة وزراء روسيا بين عامي 1998 و1999 في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، تصدى بقوة لبعض عناصر «الأوليغاركيا» الروسية الجامحة آنذاك، واتخذ إجراءات مهمة عدة، يتناساها الكثيرون اليوم، لتصحيح السياسة الاقتصادية في تلك الفترة.

وقد أدت هذه الإجراءات إلى ظهور بوادر تحسن في الاقتصاد الروسي، وذلك حتى قبل وصول بوتين إلى سُدة الحكم. غير أن يلتسين سرعان ما أطاحه وحاشيته من منصبه، معتبرينه خطرا على مصالحهم، ومتهمين إياه بــ «محاولة إعادة الاشتراكية إلى روسيا».

إن بريماكوف، بحسه السياسي والاقتصادي وخبرته في خدمة الدولة، سواء قيّمنا ذلك إيجابا أو سلبا، يُدرك جيدا مدى الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تتدحرج إليها روسيا في الوقت الراهن.

فالروبل الروسي يواصل التراجع على وقع تراجع الأسعار العالمية للنفط، الذي تعتمد عليه روسيا كمصدر أساسي للعملات الصعبة.

فبحسب البيانات الرسمية الروسية، تراجعت إيرادات روسيا من صادراتها النفطية خلال الأحد عشر شهرا الأولى من العام 2014 بنسبة 8.6 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2013. ولذلك، رفعت روسيا من حجم صادراتها النفطية في الأيام الأولى من العام الجاري بهدف زيادة هذه الصادرات عن مستوياتها المسجلة في الفترة ذاتها من العام الماضي بنحو 1.5 مليون طن.

في الوقت ذاته، تراجع متوسط سعر الغاز الروسي المصدر خلال 11 شهرا الأولى من العام الماضي بنسبة 6.5 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام 2013، وتراجعت إيرادات عملاق الغاز الروسي «غاز بروم» من صادرات الغاز الطبيعي خلال الفترة نفسها من 2014، بنسبة 15.7 في المئة.

لقد بدأت العقوبات الغربية على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، هي الأخرى، بالتأثير السلبي على الوضع الاقتصادي، برغم ما كان يؤكده المسؤولون الروس، في بداية الصراع على أوكرانيا، من أن تأثيرها السلبي لن يكون كبيرا. وبات الجميع يدرك اليوم الاحتمال الكبير لمواصلة سعر صرف الروبل تراجعه أكثر فأكثر.

وأدى رفع البنك المركزي الروسي لسعر الفائدة الرئيسية مؤخرا إلى 17 في المئة إلى تراجع الإقراض المصرفي، بجانب انكماش تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية في الاقتصاد.

وتشير التكهنات كافة إلى انكماش الاقتصاد الروسي بمعدلات تتراوح بين 2 في المئة و5 في المئة في 2015.

وقد واصلت وكالات التنصيف الدولية تخفيضها لتصنيف الاقتصاد الروسي. فوكالة «فيتش» خفضت مؤخرا تصنيف روسيا الطويل الأجل بالعملات الأجنبية والعملة الوطنية من مستوى «بي بي بي» إلى «بي بي بي سالب» مع نظرة مستقبلية سلبية. ولا يستبعد المسؤولون الروس قيام وكالة «ستاندارد أند بورز» أيضا بتخفيض التصنيف الائتماني لروسيا إلى مستوى «المضاربة».

لقد دفعت هذه اللوحة «القاتمة» وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، إلى اقتراح تقليص النفقات العامة في ميزانية العام الجاري 10 بالمائة.

وفي غالب الظن سيأتي هذا التقليص على حساب البرامج الاجتماعية للسكان، من صحة وتعليم وخلاف ذلك. ولم يستبعد الوزير الروسي إمكانية بيع جزء من احتياطي الذهب والعملات الصعبة لدعم الميزانية. وبدأ الحديث يدور عن عجز في ميزانية الدول بنهاية 2015 يتراوح بين 2 و3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وعن احتمال زيادة معدلات التضخم إلى 15 و17 في المئة.

إن أزمة الاقتصاد الروسي بدأت زمنياً قبل التأثير السلبي للعقوبات الغربية والانخفاض الكبير في أسعار النفط. فقد تراجع النمو الاقتصادي في روسيا إلى 1.3 في المئة في 2013 مقارنة بــ 3.4 و4.7 و7 في المئة في 2012 و2011 و2007 على التوالي. وأصبح العديد من الاقتصاديين الروس يتحدثون عن أزمة في طبيعة الرأسمالية الروسية، المندمجة في الاقتصاد العالمي كمُصدر للمواد الخام.

لقد ساد على مدار الأعوام الخمسة عشر الأخيرة مفهوم «روسيا ــ دولة الطاقة العظمى»، ولكن هذا المفهوم يترنح حاليا مع انخفاض أسعار النفط العالمية والعقوبات الغربية وتراجع سعر صرف الروبل وهروب رؤوس الأموال بأرقام فلكية. وأدى التمسك بهذا المفهوم في الممارسة العملية إلى عرقلة عملية التصنيع وتطوير العلوم والإنفاق على البحوث والتطوير.

لذلك، تتصاعد دعوات كثيرة اليوم، ومن ضمنها دعوة بريماكوف، إلى تنويع الاقتصاد الروسي بحيث لا يعتمد اعتمادا رئيسيا على تصدير النفط والغاز والمواد الخام الأخرى.

فهل ستستجيب النخبة الحاكمة الروسية لمثل هذه الدعوات للخروج من هذه التبعية الاقتصادية، أم أنها ستكتفي بالإجراءات الحالية المؤقتة لتخطي الأزمة، على أمل أن تعود أسعار النفط إلى الارتفاع مجددا؟

الإجابة عن هذا التساؤل تبقى غامضة، في ظل تكهنات باستمرار الأزمة لعامين مقبلين.

 

المصدر | هاني شادي | السفير

  كلمات مفتاحية

روسيا الاقتصاد الروبل النفط الغاز السياسة التصريحات البيانات بوتين بريماكوف بوريس يلتسين الصناعة المتطورة الخامات