رسائل مهربة من سجون «بن علي»: ملحمة مقاومة وتأريخ للمستقبل

الأربعاء 15 نوفمبر 2017 09:11 ص

في ركن ضيّق وبين جدران السجن المظلمة، في قسم العزل أو في آخر مختلط، كان «عبد الحميد الجلاصي» يسترق دائما لحظة هروب إلى قلمه وأوراقه، ليدوّن رسائله التي تؤرخ معاناة آلاف الإسلاميين في سجون رئيس النظام التونسي السابق «زين العابدين بن علي»، لمدة تجاوزت 11 عاما.

حاول «الجلاصي» لاحقا تهريب رسائله إلى خارج زنزانته عن طريق أصدقائه من سجناء الحق العام، الذين يقومون بدورهم بإيصالها إلى أقربائه وأصدقائه خارج السجن.

قدّم الرجل مؤخرا مؤلّفه الجديد بعنوان «السرقة اللذيذة: قراءات مهرّبة حول التجربة السجنية للإسلاميين، تونس 1991- 2002»، خلال لقاء فكري نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مستقل)، بالعاصمة تونس.

وأراد من خلال «السرقة اللذيذة» تغيير الصورة النمطية للسجن، والقول إنه إضافة لما فيه من مآسٍ ومظالم فإن السجن يترجم ملحمة مقاومة وحلما بالمستقبل.

والجلاصي (57 عاما) قيادي بارز في حركة «النهضة»، تقلّد عديد المهام والمسؤوليات داخل الحركة منذ عام 1979 وكان مسؤولا عن إدارتها عام 1987 في أوضاع السرّية والملاحقة.

تعرّض للاعتقال أكثر من مرّة آخرها بين أبريل/نيسان 1991 ونوفمبر/تشرين ثان 2007، كما شغل منصب نائب رئيس الحركة في الفترة الممتدّة من 2012 إلى 2016.

كتاب «السرقة اللذيذة»، ولد من رحم المعاناة، جمع فيه كاتبه 7 رسائل مهرّبة تصنّف جزءا صغيرا من ذاكرة وطن، فهي رسائل من السجن وعنه مرّت في غفلة من السجّان، تروي ملحمة الصراع بين الجلّاد والضحية.

«الرسائل السبع» ليست إلاّ جزءا من 500 رسالة مهرّبة من السجن لا زال يحتفظ بها «الجلاصي» سرّبت من سجون عديدة، وهي عصارة تجربة 17 عاما وراء القضبان، يعتزم كاتبها تدوينها وتوثيقها واحدة تلو الأخرى حفظا للذاكرة.

ويسرق الكتاب عقول قرّائه ليأخذهم في فسحة فكرية إلى عمق الذاكرة في الفترة ما بين الأعوام 1991 و2002، ويسرد ما شاهده بأمّ عينه وما سمعه عن رفاقه من معاناة لآلاف السجناء الإسلاميين ونماذج من التجاوزات والانتهاكات والفظاعات في سجون «بن علي» (1987-2010)، والتي يصفها «زوّارها» من سجناء الفكر والرأي بأنها الأقسى بين السجون في تاريخ تونس المعاصر.

الأحداث التي تسردها الرسائل جرت في سجون كثيرة على غرار سجن تونس (العاصمة) وسجن «برج الرّومي» بمدينة بنزرت (شمال)، وسجن «الهوارب» بالقيروان (وسط)، وسجن «الناظور» بمدينة زغوان (شمال) وسجن «المهدية» (شرق)، وغيرها من السجون التي قبع فيها معارضو النظام عقودا من الزمن.

«الجلاصي» نقل في كتابه مشاهد لأصناف من التعذيب والقمع ضدّ السجناء من تجويع وتشويه أخلاقي وتعنيف مادي ومعنوي وعقوبات في زنزانات السجن المضيّق، وكانت العزلة الخيار الأمثل للسلطة في التعامل مع المساجين الإسلاميين فرادى أو في مجموعات ضيقة.

ويقول صاحب الكتاب: «أشتغل على سلسلة كاملة للتأريخ للمرحلة السجنية لا من زاوية التباكي وإدانة الجلاد بل من زاوية ملحمة المقاومة».

ويضيف «الجلاصي» «أردت أن أقول إنّ الثورة التونسية لها آباء وأجيال من المناضلين في منافيهم وسجونهم حلموا بالمستقبل وناضلوا من أجله وصارعوا الجلاد في عقر داره وانتصروا عليه».

ومضى قائلا «في كتاباتي هذه حث للنفس من أجل الكتابة باعتبار أنه يوجد الآلاف من المساجين وعائلاتهم وأطفالهم هؤلاء دون صوت ولم يسجل أحد منهم إلى حد الآن لا ملحمة المنفى ولا ملحمة السجن فأردت أن أكتب من هذه الزاوية».

ويتابع «أعتبره التأريخ السياسي من أجل المستقبل».

ويؤكّد محدّثنا أنه يشتغل على سلسلة من الكتب ما زالت متواصلة، في جوهرها أكثر من 500 رسالة مهرّبة ممتدة على 17 عاما موجهة من داخل السجن للعديد من أفراد عائلته وأصدقائه، «والسرقة اللّذيذة» هو الكتاب الثالث من نمط آخر وهو مجموعة من الرسائل سربها في غفلة من الجلاد.

ولـ«الجلاصي» سلسلة إصدارات بعنوان «حصاد الغياب» تهتم بتدوين الذاكرة السجنية صدر منها كتابه الأوّل «اليد الصغيرة لا تكذب» في 2016، والثاني بعنوان «الشهداء يكتبون الدستور» في 2017، إلى جانب كتابه الثالث «السرقة اللذيذة» صدرت طبعته الأولى في سبتمبر/أيلول الماضي.

ويستطرد قائلا «أخذت وقتا كافيا بعد أكثر من عشر سنوات قضيتها في السجن كي أقيّم تجربة سجن الإسلاميين، وحتى أساعد على فهم حركة النهضة من خلال قراءة في تجربتهم السجنية وفي علاقتهم بالجلادين وبمساجين الحق العام وأحلامهم وانشغالاتهم ومواطن ضعفهم وقوتهم وهذا يساعد على فهم النهضة اليوم كذلك».

وعن كتابه يضيف «البعض يقول إنّها كتابات أدبية وهذا يشرفني لكن هدفي ليس أن أكون أديبا فأنا أكتب في الأدب السياسي المتجه للمستقبل لغايات سياسية، وإن بأسلوب فيه متعة الأدب فهذا يشرفني أيضا مع أنه ليس المقصد الأصلي من كتاباتي».

صاحب الكتاب وثّق ما أسماه «سياسة التنكيل المنهجي والشامل» التي انتهجتها السلطة منذ صيف 1993 ضدّ آلاف السجناء الإسلاميين واستمرت لأكثر من 17 عاما.

و«السرقة اللذيذة» يصنّفها صاحبها بأنها مساهمة لتقييم التجربة السجنية للإسلاميين، وقد مسحت الوثائق المهرّبة الفترة من بداية 1991 إلى حدود منتصف 2002 ولم تلامس كامل مدة محنة الإسلاميين مع السجون التي تواصلت إلى نهاية 2008.

وكتب «الجلاصي» الرسائل من سجن الهوارب ما بين 18 مارس/آذار و22 يوليو/تموز 2002، في فترة ازداد خلالها تصلّب نظام «بن علي» غداة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت الفترة التي قضاها الكاتب في الهوارب (من بداية 2001 إلى بداية 2003) من أقسى فترات السجن بالنسبة له، لكنه كان خلالها أكثر إنتاجا لرسائل سرّبها داخل السجن وأخرى خارجه عن طريق أصدقاء من مساجين الحق العام غامروا بإيصال رسائله وهم يعلمون تكلفة ذلك والأعين تحصي كل الحركات والسكنات.

ولـ«الجلاصي» نصوص أخرى سرّبت من سجون عديدة على غرار سجن تونس (1992 و1993)، لكنّها ضاعت كلّها، ولم تبق سوى رسائل سجن الهوارب.

وشهدت فترة حكم بن علي الذي أطاحت به ثورة 14 يناير/كانون ثاني 2011، اعتقالات كثيرة في صفوف معارضي النظام من إسلاميين ويساريين وقوميين.

المصدر | الأناضول

  كلمات مفتاحية

السرقة اللذيذة رسائل تونس حركة النهضة بن علي اعتقال سجن