فيلم «جسور ماديسون»: اختيارات قلوبنا المبهجة ليست دائما صائبة!

السبت 18 نوفمبر 2017 05:11 ص

فيلم اليوم «The Bridges of Madison County أو جسور مقاطعة ماديسون»، واحد من علامات السينما الأمريكية الرومانسية الحديثة، ورغم مرور نحو 22 عامًا على إنتاجه إلا أنه يبقى علامة فارقة في مسيرة بطليه: الممثلة الأمريكية الأشهر «ميريل إستريب» الفائزة بـ3 جوائز أوسكار و8 جوائز «غولدن غلوب» والحائزة على ميدالية «الفن الوطني» من الكونغرس الأمريكي، وأيضًا وسام «الحرية الرئاسي» من «باراك أوباما،» وكذلك رمز «الفن والأدب» من الحكومة الفرنسية؛ والمُعارضة لسياسات «دونالد ترامب».

وكذلك يعد الفيلم انطلاقة فنية داعمة لمسيرة وشهرة الممثل الأمريكي والمخرج «كلينت إيستود»، وهو المشهور بأفلام الكاوبوي مثل «The Unforgiven أو اللا متسامح»، وانتقاد المجتمع الأمريكي كما في «هاري القذر» عام 1971.

إننا أمام فيلم أبدع بالفعل في وصف مراحل التبدل والتغيير في الحياة الاجتماعية الإنسانية استنادًا على دراسات نفسية عميقة؛ وإلمام بالطبيعة البشرية في كل زمان ومكان أو ما يُعرف نفسيًا واجتماعيًا بـ«محنة منتصف العمر».

رؤية ربما ساقتها عشرات الأفلام الغربية على الأقل في إطار عابر أو مدقق لكن مع عدم التناول الكامل لها، وكذلك فعلت أفلام عربية لكن بإهمال أشد للمصطلح السابق الذكر وإبراز الأمر على أنه «نزوة لا أكثر» .. كما في فيلم بنفس الاسم لـ«يسرا» في التسعينيات من القرن الماضي وهلم جرًا.

الجنس والاتكاء على فخ الرومانسية

الفيلم يمثل فخًا فنيًا اجتماعيًا غربيًا وأمريكيًا بين إظهار القبح أو الخيانة الجنسية تحديدًا لزوجة وأم بمظهر الضرورة الملحة الصائبة .. وبين وجوب استنكار مثل هذه العلاقات بخاصة لما تعترف بها بالتفصيل في فيلم اليوم «فرانسيشكا غونسون» أو (إستريب) في دفاتر مذكرات غلافها أبيض تركتها بعد وفاتها، تخليدًا للعلاقة المُحرمة ليقرأها ابنها وابنتها بعد وفاتها في ذهول عارم في البداية ثم استحسان في نهاية الفيلم.

ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا بل إن الفيلم يمثل فخًا اكبر وأعمق عند مشاهدته في مجتمعاتنا الإسلامية تحديدًا، فإن كانت المسيحية الغربية لا تمانع عمليًا في مثل هذه العلاقات بل تتعدى قطع النظر عنها باعتيادها؛ فإن ديننا الحنيف يحول بحال من الأحوال دون أن تُقيم امرأة متزوجة علاقة جنسية عابرة أو طويلة مع رجل غير زوجها، على ان تمام هذا الفخ للأسف يمثله انعدام قدرة العالم الإسلامي كله على إنتاج أفلام سينمائية تستطيع بسط فكرة ومبدأ أن «حلال العلاقات فيه الكفاية عن حرامها، وأن هناك بدائل عن العلاقات الآثمة الفاجرة تضمن للمرأة إن أرادت التحرر من اختيار سيء في بداية الحياة أو ارتباط بزوج غير مناسب لكي أن تنال حريتها بالطلاق ومن ثم الارتباط بمّنْ أرادته أخيرًا».

ومع الاعتراف والإقرار بأن فيلم اليوم ليس موجهًا في الأساس للعالم العربي أو الإسلامي إلا أنه يساهم ومئات الأفلام من أمثاله بدرجات في إقرار أفكار ليس صائبة بحال من الأحوال عبر الاتكاء واستخدام تقنيات سينمائية رائعة لإقرار ما لا يُقر في الأذهان استنادًا على تحريم المسيحية الكاثوليكية للطلاق ومن ثم الزواج الثاني، ومن هنا يكرس مثل هذا الفيلم لتصوير إمكانية الزنا كبديل عن الاصطدام بالدين والمجتمع.

الكلمات الماضية مهمة في سياق تناول فيلم اليوم بالتحليل والنقد الفني حتى لا يدفعنا جمال الفيلم الآخاذ، وتصويره الرائع وموسيقاه التصويرية الموفقة لـ«ليني نيهوس»، أو باختصار قرب الفيلم من التوهج السينمائي وفق منظومة التسعينيات، لما لا نريده هنا بحال من الأحوال إذ نتناول الفيلم بمدح تقنياته الشكلية (الإضاءة، المونتاج، الماكيير، الديكور، التصوير بشكل عام) .. ولا نريد إقرار أن مضمون الفيلم صائب خُلقيًا .. حتى لو انحاز واستند إلى مفاهيم نفسية عمرية لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها .. دون قبول من صناعه أن هذه المفاهيم يمكن أن تتعدل وتتبدل لتوافق الطبيعة البشرية الرسالات السماوية.

من هنا يأتي الاختلاف

تحيا «فرانشيسكا غونسون» أو (ميريل إستريب) الإيطالية الأصول، كما في الفيلم، في أجواء عام 1965 في غربة تامة بداخل مزرعة زوجها التي ورثها عن أهله منذ مائة عام في قرية «إيوا»، فأصولها إيطالية وفارقت أهلها لما تعرفت على زوجها «ريتشارد غونسون» أو (جيم هيني) عقب الحرب العالمية الثانية وذهابه إلى إيطاليا، وحلمها بالرحيل معه إلى أمريكا أرض الإثارة والمغامرات؛ ثم هي تُفاجئ باستمرار حياتها على نحو رتيب ممل، بين ابن وابنة يهتمان بنفسيهما وحياتيهما الخاصة وهما في مقتبل الشباب، وبين نزعاتها ورغباتها كامرأة أربعينية تشعر أن الحياة خلفتها ومضت .. وأن فرصتها فيها قد انعدمت.

يمر بالقرية «كلينت إيستود» أو (روبرت كلينكد) المصور التابع لمجلة «ناشينول غرافيك» يضل طريقه إلى جسور «ماديسون» لعمل تقرير مصور للمجلة، فتعرض عليه «فرانشيسكا» خدمتها مضطرة لكي يصل إلى أول الجسور .. وفي الطريق تكتشف أنه على النقيض تماماً من حياتها لكنه يعانق أحلامها.

أبدع الفيلم في قراءة مكونات النفس البشرية، لولا البديهية السابقة الذكر من مفارقته الشرائع السماوية الحقيقية، فـ«فرانشيسكا» تجد نفسها غارقة في محبة ذلك الرجل البوهيمي الذي لا يعيش إلا لنزواته العابرة وشهواته الجامحة ورغبته في أن يكون كل يوم في ميناء .. وكل نهاية أسبوع في أحضان امرأة، ولا يهمه في المقابل لا المجتمع ولا تكوين أسرة خاصة، ولا حتى خطر الإصابة بأمراض جنسية من تعدد العاقات العابرة الآثمة، أو كثرة تناوله الأطعمة من المطاعم والبارات الرخيصة.

وخلال 4 أيام هي فترة سفر أسرتها إلى ولاية «إلينوي» لعرض «ثور» للابنة في مسابقة، في إشارة للتباين والاختلاف الشديد بين عالم الأسرة وعالم الأم والزوجة، وبعيدًا عن أعين الجيران المتلصصة تتحول العلاقة العابرة، والإعجاب المستحيل بين العالم المحافظ الاجتماعي المضحي لـ«فرانشيسكا» وبين «كلينكد» الإيرلندي الأصول المنفلت النفس والرغبات، إلى علاقة جسدية عارمة .. تتجاوز فيها البطلة وصفها لزوجها «ريتشارد» بـ«النظيف» ـ في إشارة إلى فتور رغبته الجنسية وانتهاء مرحلة طيشه وتطلعاته للخطيئة ـ إلى قاذروات الخطيئة التي فارقها زوجها.

حدود الواقعية والتمادي في الرومانسية

الفيلم مأخوذ عن رواية لـ«روبرت جيمس والر» بسيناريو لـ«ريتشارد لاغرافينيز»، وفي الرواية حس رومانسي عارم زاده الفيلم تدفقًا، فحين تقاطع القرية «روسي» عشيقة «ديليني» .. وتتناقل قصتها كامرأة متزوجة تهيم بآخر متزوج في نفس الحيز المكاني الضيق.. يبدأ الاختيار الأكثر مرارة لدى «فرانشيسكا» .. فالمجتمع الفاسد الريفي ما صدق وجد شماعة يعلق عليها قاذرواته وانحلاله .. ثم إن الدور قادم عليها .. لذلك تثور «فرانشيسكا» على المصور «كلينكد» الذي تتناقل القرية أخباره .. تثور البطلة ثورة عارمة وتخبره أنها نزوة عابرة لديه لا مكان لها في حياته وأنه تعمد خداعها لينساها بعد قضاء وطره وأربه وغرضه منها.

يتجاوز الفيلم، في واحدة من أبرز سلبياته، التحول الذي حدث في نفس «كلينكد» البطل .. حتى لتسقط حصون نزواته وفُجر نفسه وإدمانه الجنس والرحيل بعد ترك الخطايا وبيوت أزواج غافلين ملوثة وفراشهم مليئًا بالقاذورات .. فيتحول البطل إلى إنسان يريد النجاة والاستحواذ على امرأة أحبها بعيدًا عن أهلها وبيتها.

لكن «فرانشيسكا» يعادوها العقل .. فما بينها وبين «كلينكد» مجرد خطيئة وإن بدت بالغة الرومانسية .. لكنها إن يتعايشا معًا فسوف تقتلهما الحياة بتفاصيلها الروتينية الضرورية .. فضلًا عن خسارتها بيتها إلى الأبد وأكل النميمة لزوجها وابنيها.

إبداع وقرار صائب

أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها تطهرًا وسينمائية حينما يأتي «كلينكد» إلى «فرانشيسكا» وهي بصحبة زوجها .. هو في سيارة وهما في أخرى راغبًا في أخذها منه دون تصريح بذلك، حينما يصير المطر الجارف متزامنًا مع إشارة المرور وإشارة سيارة «كلينكد» .. وزوايا التصوير لمرآة السيارة الأخيرة الداخلية .. وملامح «إستريب» الموفقة حتى عن أداء «إيستود» بطل ومخرج الفيلم .. تلك الملامح الحائرة الدامية والانفعالات المريرة على قسمات الوجه بين الرغبة في الحياة في قلب البهجة التي يهبها القلب مع العشيق .. والبعد عن حكم العقل القاسي لكنه الحكيم الذي يمنحنا الأمان والاستقرار في جدلية مطلقة عبر مئات السنوات وملايين البشر.

حاول الفيلم من تخفيف إيقاع مضمون الخطيئة بداخله بتقننية «الفلاش باك» التي تجعل الابن والابنة يقرآن مذكرات الأم بعد رحيلها ويصلحان حياتيهما لكي يتجنبا مصيرها، ويقبلان نثر رفاتها بعد حرق جثتها على الجسر الذي شهد معرفتها بعشيقها مثلما فعل بجثته بعد أن أهداها كل ما يملك في الحياة حتى الكاميرا التي صورها بها.

فيلم «جسور مقاطعة ماديسون» إبداع سينمائي نتمنى مماثلًا عربيًا وإسلاميًا له للتغلب على إبداعه حتى في تحبيب الخطيئة للمشاهدين عبر استخدامه تقنيات الأسس العلمية والنفسية مع السينمائية!

المصدر | الخليج الجديد + وكالات

  كلمات مفتاحية

فيلم أمريكي رومانسية The Bridges of Madison County جسور مقاطعة ماديسون