كلنا «الخائفون» يا ديمة

الاثنين 20 نوفمبر 2017 06:11 ص

لا يعكس عنوان رواية الصديقة ديمة ونوس "الخائفون" (دار الآداب، بيروت، 2017) جوهر الرواية وتفاصيلها فقط، بل أيضاً يستنطق الخوف المسكوت عنه في سورية، على صعيد خاص، وفي العالم العربي على صعيد عام.

تغوص الرواية بعمق شديد، حقاً، في سيكولوجيا الخوف، تعبر من الأحداث والتحولات والتطورات في سورية (منذ حكم البعث "سورية الأسد" إلى اللحظة الراهنة، أي الحرب الداخلية) إلى العالم الجوّاني/ النفسي، في تقاطعاتٍ ومساحاتٍ مشتركة ومتداخلة بين الشخصي والعام، الخيالي والواقعي، التفصيلي والمجمل، لكنّ هذه الخيوط جميعاً تنسج مجتمعةً رواية الخوف والخائفين، لتفضح معنى أن تعيش في هذا المناخ، طبيباً كنت أو كاتباً أو ضابطاً أو تلميذاً في مدرسة، سنيّاً أو علوياً، معارضاً أو موالياً، فالجميع خائفون في هذه "المدينة العربية"، مهما حاولوا مداراة ذلك.

دعونا من تقنيات السرد في الرواية ومحاكمتها فنيّاً (لستُ مختصاً في النقد الأدبي)، لكن في المضمون والأفكار هذه رواية عميقة، جميلة، تلج مجالاً غير اعتيادي، يستنكف عنه الأدباء والروائيون العرب، أو يتعاملون به بسطحية، وأعني علم النفس- السيكولوجيا. لذلك ما بدا (ليس دفاعا عن الرواية) لبعض ما قرأته من "النقد الأدبي" الناعم، تفاصيل إضافية ترهق القارئ، ويمكن الاستغناء عنها، أراه أنا جزءاً أساسياً من حبكة الرواية، وتتمثل في التعمّق في الحالة السيكولوجية للخائفين.

ليست المسألة تحايلاً على سيرتي ديمة ووالدها الأديب المعروف، سعد الله ونوس، عبر التقاطع والتناظر بين شخصيتين، سلمى وسليمى. فلا يوجد، أصلاً، أي بنية لسردية السيرة الذاتية للروائية أو والدها أو حتى عائلتها، ولا أظن أنّ ذلك من أهداف الرواية، بل جوهر الرواية أنّ ديمة ونوس أرادت أن تعالج الخوف الجوّاني لديها، الذي تعتقد أنّه ليس حالة خاصة بها، بقدر ما هو "مرض" حقيقي، مرتبط بالحياة في دولة البوليس والدكتاتورية (سورية الأسد).

هذا الخوف الذي تشعر به هي، ديمة، وتحاول استكشاف أسبابه وبواعثه في تجربتها الشخصية، وترى أنه موجود لدى الجميع، الطبيب كميل وصديقها نسيم، وبطلتي القصة سلمى وسليمى، ووالدها ووالدتها، والآخرين، هذا الخوف يواجه عملية إنكار وتجاهل وعدم اعتراف. وهذا جزء من المشكلة، فكيف يمكن أن تعالج المرض، إذا لم تشخّصه، وتحدّد أسبابه وأعراضه. وهنا تضعنا ديمة أمام عمق الرواية بسرديةٍ ذكية، بعيداً عن الخطابة المباشرة، وهي أنّ المرض ليس الخوف فقط، بل هو الخوف من الخوف.

تتجاوز سيكولوجيا الخوف قمع السلطة المباشر إلى تفاصيل الحياة، من المدرسة (توصيفها للبيئة المدرسية مدهش) إلى المنطقة الجغرافية (حماة، طرطوس، ودلالات المكان)، إلى اللهجة (تبدع الروائية؛ عندما تربط اللهجة بالهوية بقصة السلطة والمعارضة والوضع الاجتماعي، ودلالات كل كلمة، بل كل حرف، في بعض الأوقات في الثقافة المحلية وعلاقة السلطة بالمجتمع)، إلى الذاكرة بوصفها هوية، فمسألة الهويات: من أنا؟ من أي منطقة؟ ما هي ذاكرتي؟ ما هي لهجتي؟ تتغلغل في مجتمع الخوف وفي جوانيّة الخائفين.

تؤدي الأحلام، كما هي حال كتب التحليل النفسي، دوراً مهماً كبيراً في تفاصيل الرواية، فالخوف من الخوف وحده يخلق إنساناً مريضاً متأزماً (كانت تتخيّل والدها وشقيقها يتعرّضون للإهانة، ووالدها يقبل قدم رجل ما، وهي في عمر التاسعة، لكن هذا الخيال أصبح واقعاً، ليس مع والدها، بل مع مجتمعها اليوم، ففي كل يوم هناك مواطن يقبل قدم ضابط أو جندي). والأحلام تعكس العقل الباطن المصاب بداء الخوف والقلق، وحبة الكزانكس (المخففة للقلق) تتكرّر في أغلب تفاصيل الرواية.

تبدأ سيكولوجيا الخوف من الصغر، وتتلاشى حدود العمر والزمن بين من يكبرون ومن يصغرون، أي تتوقف الساعة الزمنية الحقيقية في مجتمع الخوف وحياة الخائفين، ويأتي مكانها عدّاد زمني، يعد الأيام والشهور والسنين، لكن الزمن الحقيقي متوقف.

تنتهي الحال بالجميع في مجتمع الخوف عند عيادة الطبيب النفسي، وهو الخائف أيضاً، الجلاّد والضحية، وتختلط الأحلام والهواجس بالواقع، وربما ما أرادت أن تقوله ديمة ونوس في النص الموازي إنّ المجتمع بأسره، بأفراده جميعاً، في الحقيقة، تحوّل "عيادةً للمرضى النفسيين".

في إهدائها روايتها لي، كتبت ديمة: "إلى محمد، الصديق الذي لن أخاف من أن يقرأ قصتي عن خوفي".. ليس خوفك وحدك، فكلنا "الخائفون" يا صديقتي.

* د. محمد أبورمان باحث بـ«مركز الدراسات الاستراتيجية» بالجامعة الأردنية

المصدر | د. محمد أبورمان | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

النقد الأدبي الدكتاتورية ديمة ونوس السيرة الذاتية سيكولوجية الخوف سوريا