فيلم «المريض الإنجليزي»: بريطانيا تغفر لنفسها قسوة الحروب والاستغلال!

الثلاثاء 21 نوفمبر 2017 03:11 ص

في واحدة من لقطات فيلم «The English Patient أو المريض الإنجليزي» يسأل بطل الفيلم، «الكونت لازلو الماسي» (الفنان رالف فاينس)، عشيقته «كاثرين كليفتون» (الفنانة كريستين سكوت توماس) عن اسم المنطقة الغائرة نسبيًا بين الوجه والعنق، ثم يعرف لاحقًا أن اسمها في الإنجليزية «المنطقة القاسية»، ولا تقدم لنا أحداث الفيلم، الذي يمتد لقرابة 164 دقيقة، سببًا للتسمية، أو دلالة معرفة الاسم.

فيلم «المريض الإنجليزي» واحد من الأفلام المُحيرة غربيا؛ فقد تم إنتاجه في عام 1996، ولم يحقق سوى عائدا منخفضًا جدًا في دور العرض البريطانية لدرجة سخرية برنامج تلفزيوني شهير منه ومن اسمه تحديدًا، لكن الفيلم فاجأ الجميع بحصوله على 7 جوائز «أوسكار»؛ منها أفضل فيلم عن دورة الجائزة الأمريكية الأشهر عالميًا لعام 1997، بالإضافة إلى عشرات الجوائز العالمية الأخرى.

أخرج الفيلم «أنطوني مانغيلا» عن رواية للكاتب للكاتب السريلانكي «مايكل أوندتغي» صدرت عام 1992، وكُرمتْ بريطانيًا بنيل جائزة «البوكر»، ثم تحولت إلى فيلم سينمائي بعد سنوات قليلة.

وكالعادة كتب «مانغيلا» سيناريو الفيلم، وغير في بنيته الرئيسية الكثير من المعالم بخاصة، وهو يدرك أن «المريض الإنجليزي»، رواية وعنوانًا، يُشير إلى فترة بالغة الدقة من حياة بلاده، وهي الفترة الواقعة بعد منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ تلك المرحلة التي كانت الإمبراطورية البريطانية لا تغيب عنها الشمس، ونتج عنها مظالم احتلالية وحربية، تألم وقُتِلّ من جرائها الملايين في مختلف الأنحاء التي تواجدت بريطانيا فيها أو شاركت بها حربيًا.

سينما غسيل التاريخ القذر

وكما أن هناك عمليات إجرامية تخص غسيل الأموال والثروات عبر العالم، فإن هناك سينما مشبوهة تتعرض للأحداث التايخية لتزيل عنها خطايا الدول الكبرى التي سادت العالم أو كانت كذلك، ومثل هذه الأفلام السينمائية لا ترضيها الروايات المجاملة، بل المُتحاملة على الواقع والمبررة لجرائم تفوق الخيال، بل هذه العينة من الأفلام تتدخل بخفة، لا تخلو من سينمائية رائقة رائعة لتغيير الوقائع المؤلمة، وإضفاء لمسة التشكيك، ومن ثم الشفقة على الوقائع التاريخية الواضحة.

يبدأ تتر الفيلم على صوت أغنية مجرية رومانسية ورسم كروكي مبهم مُجهل لشخص يسبح، ويُفتتح على صور آخاذة للصحراء الغربية في مصر، وبدو رُحل يعثرون على رجل محروق جسده بالكامل؛ فيعالجونه، ويبدأ في إرشادهم إلى أنواع البنادق التي يعثرون عليها أو يهربونها من المحتل.

وفي نظام دقيق محكم من «الفلاش باك» أو تقنية «استرجاع الأحداث» نظل لقرابة 114 دقيقة من وقت الفيلم بين وقائع حياة الشخص المجهول المحترق قرب نهاية الحرب.

بطل الفيلم «الكونت لازلو الماسي» مجري الجنسية، درس الجغرافيا، وأحب «لي هيردوتس»، وصحب كتابه في رحلة إلى مصر والصحراء، وهو يعمل في العلن بالجمعية الملكية الجغرافية البريطانية قبل الحرب، وهو في الباطن عميل للحلفاء في الحرب العالمية، مثله مثل «كولين فيرث» (الفنان جيفري كليفتون) المستتر بعمله في نفس الجمعية الجغرافية، لكن كستار لكونه جاسوسًا بريطانيًا يهدف لإحكام بلاده على الجنوب الأفريقي أكثر.

وفي دراما تعمد المخرج أن تكون مبتورة مفتوحة بشكل دائم على القطع المتوازي لنهاية المآسي مع الأحداث في سياقها الزمني المتدرج يروي المخرج والمؤلف الحقيقي للفيلم بعد أن ساق الرواية كما يحب.. فـ«الماسي» اختطف زوجة «كليفتون»، العميل الخاص بالحلفاء؛ فصارت «كاثرين» الجميلة أو (الفنانة كريستين سكوت توماس) عشيقة للبطل لا تطيق الابتعاد عنه.

وفي أجواء تسودها خيانة المثقفين المصريين والبدو مع حرص الأخيرين على أداء الصلاة ورفع الأذان، في تلك الأجواء تتعمد «كاثرين» إهانة زوجها حتى يجن جنونه؛ فيحاول قتل نفسه والعشيق وقتلها، لكن «الماسي» ينجو فيما تصاب الزوجة ويُقتل الزوج.

وتبقى الإشكالية الدرامية أن الحادث الذي صار في طائرة في الصحراء الغربية، أبقى الزوجة العشيقة مصابة ومطلوب علاجها، وهو ما يفشل «الماسي» العشيق في تحقيقه لقبض القوات البريطانية في القاهرة أثناء الحرب عليه بعد تشككها في هويته واسمه غير الإنجليزي (!)، ومن ثم يهرب بعد قتل بريطاني،  ويصل إلى العشيقة بعد أن تفيض أنفاسها.

وهذه الرومانسية المغرقة في تبرير العلاقة الجنسية المحرمة لا تنسى أن تكشف عن حقيقة صاحبها الذي يجهر بإلحاده ومحبته النيل من الملذات حتى نهاية الحياة، في صورة لبريطاني حاولت الرواية ومن ثم الفيلم إخفاءها بإقرار أن «الماسي» مجري الجنسية سمحت له بريطانيا بالعمل في جمعيتها الوطنية في تبرؤ واضح من جرائمه؛ إذ إنه يرد على قتل العشيقة بتخليه عما بقي لديه من أخلاق والالتحاق بالألمان في ليبيا وإعطائهم الخرائط السرية البريطانية قبل أن تسقط به الطائرة محترقة ويعمل لصالح البدو.. قبل أن يجده البريطانيون ويعمدون إلى ممرضة كندية بعلاجه.

الجميع ملوث عدا «السيخي»

وعلى الجانب الآخر من القطع المتوازي أو الفلاش باك ينتقل الفيلم على الدوام إلى الأشخاص الذين رافقوا «الماسي» في الفيلا الإيطالية المهجورة التي قضى آخر أيامه بها كشخص محبوب من الجميع رغم اعترافه بجرائمه النكراء وتأثيرها على القليلين المحيطين به.

كان كاتب الرواية السريلانكي «مايكل أوندتغي» تعمد أن يجعل قصة حب الممرضة «هنا»أو (الفنانة جوليت بينوش) الخط الرئيسي للفيلم بدلًا عن علاقة «الماسي» بـ«كاثرين» وهو ما لم يخف جرائم الأول بالقدر الكافي فتعمد المخرج قلب الحكاية أو عكسها.

وهنا الممرضة المكلفة بعلاج «الماسي» قتلت الحرب عشيقها بعد أبيها وصديقتها المقربة فصارت ترى نفسها شؤومًا على جميع المُحيطين بها، ثم هي تتعرف إلى «كيب» (الفنان نافين أندروز) الضابط المُكلف بالكشف ومعالجة القنابل والمتفجرات، الهندي الذي يقبل العمل مع البريطانيين رغم احتلالهم بلاده ورفض أخيه الأكبر لذلك، وتنمو العلاقة بينه وبين «هنا» في الفيلا المهجورة في توسكاني الإيطالية في حضور المريض الإنجليزي المحدود، وأيضا وجود «وليام دافو» (الفنان ديفيد كارافغيو) اللص الكندي الذي تم قطع عدد من أصابعه لعمله لحساب البريطانيين بعد اكتشاف الألمان أمره.. بعد توظيف «الماسي» له، وبدلًا من الانتقام منه يدمن المخدر المحقون في حضوره بل يحقنه له ليتمكن من تذكر خطاياه أكثر.

وفي خضم كل هذا التشعب القصصي وبعد نهاية الفلاش باك الذي استغرق أغلبية الفيلم.. تبقى النصف ساعة الأخيرة؛ إذ تنتهي الحرب، ويُكلف الهندي «كيب» بالرحيل إلى مدينة جديدة، وترفض «هنا» الانتقال معه وترك المريض الإنجليزي حتى يأمرها الأخير بقتله بـ«حقنة الرحمة»كما تُسمى، ولتلحق بحبيبها في نهاية الفيلم السعيدة.

وبتلك النهاية التي اختارها المخرج لم يبق أحد في الفيلم غير متلون.. إن لم يكن ملوثًا من العرب إلى الإنجليز والهنود والكنديين، تشهد بذلك المآذن التي تطل عليها غرفة العشيقين في القاهرة «الماسى وكاثرين» أثناء اقترافهما الخطيئة، أو تكرارهما الفعل الآثم أثناء أنشودة عيد الميلاد، وكذلك اقتراف «هنا وكيب» لنفس الخطيئة في بهو الكنيسة الإيطالية المهجورة.

أما الرواية فكان لها رأي آخر؛ إذ يجيء «كيب» الشخصية الوحيدة المتطهرة في النهاية؛ حيث يجن ويموت بعد قصف هيرشيما ونزازكي، ويسأل لماذا لا تقصف أمريكا البيض من أمثال جميع أبطال الفيلم فيما عداه؟

بقي أن المخرج تعمد الإساءة لجميع الأبطال بخاصة المسلمين وتصويرهم في صورة متخلفة عن الحضارة.. بل تصوير الصلاة على نحو مخالف للشريعة (جهرية وقت الظهر)، والقطع بأن عقاب الزاني قطع الأصابع بيد شريكته في الجريمة (!).

لم يخل الفيلم من مكياج رائع لـ«رالف فاينز» وموسيقى مناسبة لـ«غبريال يارد»، لكن الجانب القاسي من الإنجليزي لا من رقبة البطلة «كاثرين»، كما في السؤال الذي أبرزناه في بداية عرض وتحليل الفيلم الفني، استأثر بالفيلم في صورة محاباة عارمة للبريطانيين، وتجنٍ مماثل لجميع الجنسيات الأخرى عدا «كيب» الهندي السيخي البائع لكل شيء في سبيل رضا البريطانيين عنه.

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

سينما بريطانيا المريض الإنجليزي The English Patient أنطوني مانغيلا